حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا تُنسى.. د. خالد تركي حيفا

(الحلقة السَّادسة)

 

كان عمر والدي حين رحل جدِّي عن الدُّنيا اثني عشر ربيعًا، وكان حاضرًا وجاهزًا للسَّفر إلى دير المُخلِّص، بعد العيد، وحين أعلن الخوري عن ابتداء جنَّاز المسيح، بصلاته “اليوم عُلِّق على خشبة، الذي علَّق الأرضَ على المياه، إكليلٌ من شوكٍ وُضع على هامة ملك الملائكة” شعر والدي أنَّه هو المصلوب، وأنَّه هو ملك الملائكة، وأنَّه هو الذي عُلِّق على خشبةٍ، وأنَّ المسامير تُضرب بالمطرقةِ في راحة كفيه وظهر قدميه، وهو الذي ضُرِب بحربةٍ في خاصرته، ولا أحد غيره الذي عُلِّق، ليتعذَّب بفقدان والده، فكيف لوالد العالم أن يحرمَه من والده، وإن حرمَه والدَه فمن سيُعوِّضه عن والده وعن هذا الفقدان الكبير، ويتذكَّر والدي هذا اليوم من كلِّ سنة، ويحدِّثنا عن تلك الفاجعة التي حلَّت بهم، ولا يبخل بدموعه على هذا الفراق العظيم، الحادث الجلل، في اسبوع الآلام العظيم، بعد أن يجهش باكيًا ومتحدِّثًا بتفاصيل ذكرياته..

لقد أتاني والدي بشهادة تسجيل الوفاة، الصَّادرة عن دائرة الصِّحَّة، لحكومة فلسطين، لقد كان التَّسجيل بعد يومٍ من الوفاة، في الثَّامن والعشرين من شهر آذار، من العام الف وتسعمائة وخمسة واربعين، وتشهد أنَّ الطَّبيب د. شفيق حدَّاد، رئيس قسم الأمراض الدَّاخليَّة في الاسبيطار الحكوميِّ، الذي كان رئيسه وجرَّاحه الشَّهير في حيفا والقضاء الدكتور نايف حمزة (3)، هو الذي بلَّغ العائلة عن وفاة جدِّي سمعان تُركي (كما يظهر في شهادة الوفاة)، وأنَّ الطَّبيب، د. منير مشعلاني وقَّع على شهادة الوفاة في خانة امضاء ورتبة المأمور الذي سجَّل الوفاة، وقد كان الدكتور منير مشعلاني يعمل معاونًا للمدير العام لدائرة الصِّحَّة في حيفا ونائبه، وايضًا وكيل رئيس اطبَّاء لواء حيفا، ورئيس دوائر الصِّحَّة في حيفا، أمَّا سبب الوفاة فكان التهابًا في غشاء القلب ما سبَّب إلى فشلٍ طارئٍ في عمل عضلة القلب، ولم تعد تقوى على ضخِّ الدَّم في العروق وقد سُجِّل في خانة الجنسيَّة، فلسطيني، والمذهب مسيحيٌّ. وهذه شهادة للطَّرشاء الصَّمَّاء جولدا مائير، الرئيس الرَّابع لحكومة الإضطهاد القوميِّ والإحتلال، حين اعلنتها مرارًا أنَّها لم تسمع البتَّة بشعب فلسطين، وبهذا عبَّرت عن كرهها للعرب “لا يوجد شعب فلسطينيٌّ”، وما انفكَّت الحكومات العنصريَّة المتعاقبة على رقابنا، تتنكَّر لوجود شعبنا، حكومات “طُرشان”، مردِّدة مقولة آباء صهيون، أن لاشعب في هذه البلاد لذلك عليها أن تكون لشعبٍ بلا أرض..

(النُّمرة المتسلسلة في التَّسجيل 301/45، وقد حملت شهادة تسجيل وفاة جدِّي “النُّمرة 31609، انظر الشَّهادة). لقد لفت نظري في تلك الشَّهادة انَّهم يكتبون كلمة “النُّمرة” وليس كلمة الرَّقم، كذلك في اعلانات الأطبَّاء يُسجِّلون إسم الشَّارع ويذيِّلونه برقم البيت “نومِرو” كذا..

لقد كان زميل د. المشعلاني، الطَّبيب رشدي التَّميمي رئيس لجنة أطبَّاء حيفا ونائب

رئيس الجمعيَّة الطِّبيَّة العربيَّة الفلسطينيَّة ورئيس المستوصف الإسلاميِّ في حيفا والحائز على الميدالية العراقيَّة والمصريَّة، وقال د. قيصر خوري في الدُّكتور المشعلاني:

المشعلاني روحُهُ وفؤادُهُ وقفٌ على العِلات والأدواءِ

أمَّا عن الدُّكتور نايف حمزة، الذي انتقل إلى حيفا، عام الفٍ وتسعمائةٍ وأربعة وثلاثين، بعد أن عمل في مدينة نابلس، في المستشفى الوطنيِّ، وفي قدس اقداسنا عمل رئيسًا للمستشفى الحكوميِّ، حيث قالوا عنه إذا خسرته نابلس والقدس فقد ربحته حيفا، فقد قال د. قيصر خوري:

ويقود هذا السِّرب “حمزة” عاليًا للمجد يقطفُهُ من الجوزاءِ

قال هذا فيهما بمناسبة انعقاد المؤتمر الطِّبِّي الفلسطينيِّ في حيفا، “في لوكاندة ركس” حسبما جاء في الصُّورة، فندق ركس، الواقع في زاوية شارعي الملوك والبنوك، في أربعينات القرن الماضي..

أمَّا الإسبيطار الحكوميُّ قرب شاطئ بحر حيفا فله قصَّته:

رغِبت الرَّاهبات الكرمليَّات في فرنسا، ببناء دير كرمليٍّ على جبل الكرمل، جبل مار الياس، وذلك في شهر تشرين الثَّاني، في سبعينات القرن التَّاسع عشر، وفي ثمانيناته نال موافقة البابا لاون الثَّالث عشر وبركة بطريرك القدس في ذلك الوقت منصور براكو. وعند وصولهنَّ ميناء حيفا، اقتنين قطعة أرض على شاطئ البحر، تابعة للآباء الكرمليِّين الأمر الذي أثار حفيظة الباب العالي، الذي كان يرفض بيع الأراضي للأوروبيِّين، لكن تدخُّل بطريرك الأرمن الكاثوليك في القسطنطينيَّة، أجاز عمليَّة البيع والشِّراء، فأصدر فرمان بناء الدَّير. حيث وُضع حجر الأساس في الثَّامن من أيلول من العام الفٍ وثمانيمائة وواحد وثمانين، تحت إشراف المهندس الكرمليِّ (راهب) جوزيف ماري للقلب الأقدس، وفي أوائل تسعينات ذلك القرن، سكنت الرَّاهبات فيه، رغم أنَّ بناءه لم ينتهِ بعد..

بعد اندلاع الحرب الكونيَّة الأولى، أصدر الباب العالي فرمانًا يطالب من خلاله جلاء الرَّاهبات من الدَّير، وترحيلهُنَّ إلى اوروبا، فتركن الدَّير، إلى موطنهنَّ ولكن بعد انهيار الباب العالي، وقعت بلادنا تحت نير الإستعمار البريطانيِّ، فعُدنَ ثانيةً إلى حيفا، وسُجِّل هذا العقار باسمهنَّ، وكان ذلك في الرَّابع من أيلول من العام ألفٍ وتسعمائة وإثنين وعشرين. لكنَّ الدَّير كان في حالة كئيبة وفي وضع مُزرٍ، حيث استُعمل كمعسكرٍ لجيش بني عُثمان،  ومستشفى عسكريٍّ. لكنَّ تطوُّر حيفا السَّريع، منع الدَّير من الإستمرار في حالته التَّقشفيَّة، والإعتكافيَّة والصَّمت والتَّأمُّل والخلوة مع الدَّيَّان، الأمر الذي دفعهنَّ بالتَّفكير في الإنتقال إلى موقع آخر على قمَّة الجبل بعيدًا عن ضوضاء الإنجليز ومشاريعهم، حيث بدأ البريطانيُّون بالتَّفكير ببناء الميناء، وبدأ البناء من تلك المنطقة، من الدَّير، ففي ربيع السنَّة الرَّابعة والثَّلاثين من القرن العشرين قامت الحكومة البريطانيَّة بشراء الدَّير، حيث كانت معنيَّة بإقامة مستشفى لها يُشرف على شاطئ البحر. فأصبح الدَّير بعد سنتين مستشفى للحكومة البريطانيَّة وانتقلت الرَّاهبات إلى قمَّة جبل الكرمل لبناء ديرٍ آخر لهُنَّ، منطقة ستيلا ماريس، وهو الدَّير الموجود حاليًّا، هناك بوَّابتان لمنطقة الدَّير بوَّابة الدِّير السُّفلى عند بداية شارع ستيلا ماريس (بوَّابة الدِّير)، والبوَّابة العُليا في نهاية شارع الجبل (4)، عند دير الرَّاهبات الكرمليَّات المُتأمِّلات.

إنَّ تدخُّل بطريرك الأرمن الكاثوليك أجاز عمليَّة بيع وشراء الأرض التي أُقيم عليها الدَّير قرب الشَّاطئ، والذي أصبح لاحقًا مستشفى، ما يدلُّ على العلاقة الوطيدة بين أهل البلاد وبين الأرمن منذ ذلك الوقت، زد على ذلك إنَّه بعد المذابح التي ارتُكبت بحقِّ الأرمن، والإبادة الجماعيَّة التي نفَّذها بنو عثمان بالأرمن، دفعهم إلى الهروب من هذا الظُلم حيث لجأوا جنوبًا إلى بلاد الشَّام، وعاشوا بين ظهرانينا، في حاراتنا وبيوتنا ومدارسنا، وكان حالنا وحدًا، وقد أحسنَّا وفادتهم، وتعاملنا معهم كأهل بيتنا، بل وساهموا في بناء وتطوير البلاد، وفي دعم الحركة اليساريَّة في بلادنا، في سورية ولبنان وفي فلسطين، وشاركونا نضالنا ضدَّ العثمانيِّين، العدو المشترك، وضدَّ الإحتلال الإنجليزيِّ والفرنسيِّ، العدو المشترك أيضًا، حيث ربطوا ربطًا وثيقًا بين نضالهم ضدَّ المستعمر، الفرنسيِّ والإنجليزيِّ، وكفاحهم من أجل أرمينيا مستقلَّة والعودة اليها..

يذكر والدي أنَّه قبل النَّكبة بعام، خرجت حيفا عن بكرة أبيها إلى ميناء حيفا لتوديع الإخوان الأرمن الذين اختاروا العودة إلى بلدهم الأم، أرمينيا السُّوفييتيَّة، على ظهر باخرة سوفييتيَّة، واسمها بابيدا أي النَّصر، وقد كانت حناجرهم تصدح بأغانيهم الأرمنيَّة الشَّعبيَّة، ويُلوِّحون بمناديلهم وقبَّعاتهم وبسواعدهم شاكرين شعبنا على احتضانهم لهم واستقبالهم، وكان على رأس المودِّعين الرِّفاق حنَّا نقَّارة، إميل توما، محمَّد موسى سليم والمطران حكيم، وقد كان عددهم اربعة آلاف ارمني، من العراق والأردن وسورية ولبنان وفلسطين..

وتنقل لنا صحيفة “الإتِّحاد” في عددها الصَّادر في الثَّاني من تشرين الثَّاني عام الفٍ وتسعمائة وسبعة وأربعين، كلمة عن شباب الأرمن العائدين، القاها الأرمنيُّ موسى شاهينيان:

“غدًا أو بعد غد تحملنا الباخرة إلى أرمينيا السُّوفييتيَّة، وستخنقنا دموع التَّأثُّر والسُّرور.

إنَّها دموع ألمٍ لوداعكم ووداع فلسطيننا العزيزة، ويعزُّ علينا أن نودِّعكم والإستعمار باقٍ

هنا، يتآمر ويتلاعب. ويا حبَّذا لو بقينا هنا إلى جانبكم نشارككم النِّضال. وهي دموع سرورٍ أيضًا لأنَّنا نعود إلى أرمينيا السُّوفييتيَّة حيث ربوع الحرِّيَّة والسَّلام”..

وتتابع “الإتِّحاد” حديثه:

“سنقف دائمًا إلى جانبكم وستجدون منَّا خير دعاةٍ لقضيَّتكم العادلة، فاضحين الإستعمار ونواياه بين سائر شعوب الإتِّحاد السُّوفياتي..عاش نضالكم من أجل الجلاء والحرِّيَّة والإستقلال، عاش وطننا الثَّاني فلسطين حُرًّا مستقِلاً، عاشت صداقة الشَّعبيْن الأرمنيِّ والعربيِّ”.

يكتب لنا الرَّفيقان والشَّقيقان نعيم وعودة الأشهب في كتابهما “اليسار العربيُّ الفلسطينيُّ” (ص38) ما يلي، على لسان الأمين العام للحزب الشُّيوعيِّ الفلسطينيِّ، في ثلاثينات القرن الماضي، رضوان الحلو:

كان رفاق الحزب يقدِّمون المساعدات الفنيَّة للثُّوَّار، في اللد مثلاً، حيث يوجد خليَّة حزبيَّة قويَّة، كان هناك اتِّصال مع مجموعة القائد حسن سلامة، وكان الرِّفاق مثلاً يساعدون في تصليح الألغام القديمة، وتدريب الثُّوَّار على استعمالها، وقد شارك في هذا النَّشاط رفاق يهود وعرب وأرمن..

ما أجمل عِرفانُ الجميل، وما أجمل أن يُرَدُّ الجميلُ بالجميلِ..

أمَّا موقع الاسبيطار الحكوميِّ كما ذُكر فهو على شاطئ بحر حيفا، مقابل شاطئ ابو نصُّور البلديِّ، الذي كانت تنتصب حوله الألعاب والمراجيح والملاهي ووبيع الحلويَّات على أنواعها الزكيَّة والزَّاكية والمشروبات الطَّازجة الباردة والمثلَّجة خاصَّةً، والبوظة على أنواعها في أيَّام الأعياد، كان النَّوَر يجيدون الألعاب البهلوانيَّة وترقيص السَّعادين..

يذكُرُ والدي أنَّ الأب يواكيم قرداحي، الحازم والصَّارم، كان مدير المدرسة الأسقفيَّة

للرُّوم الملكييِّن الكاثوليك، وقد أدار الهيئة التَّدريسيَّة والتَّعليم على أحسن وجه، حتَّى بلغ مستوى التَّعليم فيها عاليًا، نموذجًا ومثالاً لباقي المدارس، وكانت تُعتبر هذه المدرسة مدرسة الطُّلاب الفقراء، بينما كانت مدرسة الفرير التَّابعة للآباء السِّيليزيان لأبناء العائلات المُقتدرة وغالبًا ما كانت تقع مشاحنات ومنافسات بين طلاب المدرستين، وكانت “تعلق الطُّوش” على اتفه الأسباب، أو على اسباب “طبقيَّة” بين “الأغنياء والفقراء”.

يُحدِّثُني والدي أنَّه ذات يوم جاء مدير المدرسة الأب يواكيم قرداحي، وطرد أخاه، الطَّالب داود، بسبب تغيُّبه عن المدرسة، قائلاً له: هذه مدرسة وليست خان! فندق، فعاد إلى البيت حزينًا، وقصَّ على والدته ما حدث له في المدرسة، فتوجَّهت إلى الأب المدير ليُسامحه هذه المرَّة، محاولة شرح سبب غيابه الذي لم يشفع له، فتوجَّهت إلى المطران الحجَّار ليشفع له عند المدير، لكنَّه كان “طبل عند أطرش”، رفض عودته إلى مقعد الدِّراسة، لكنَّه، بعد ثلاثة أشهر من الإبعاد، عاد إلى المدرسة، وعوَّض ما خسره اثناء غيابه وكان من المتفوِّقين في المدرسة..

كان يقف مدير المدرسة في صباح كلِّ يوم دراسيٍّ داعيًا طلابه إلى الوقوف بانتظام  ليقف على ترتيبهم وانتظامهم ونظافتهم الجسديَّة وبعدها يدعوهم إلى الصَّلاة في كنيسة مار الياس، للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك، التي كانت بقرب المدرسة، لنظافتهم الرُّوحيَّة، وبعد ذلك يعودون إلى ساحة المدرسة للوقوف بانتظام، تحضيرًا إلى إنشاد نشيد الصَّباح، “موطني (5):

مَوطني الجلالُ والجمالُ والسَّنـاءُ والبهـاءُ في رُبـاك

والحياةُ والنَّجاةُ والهناءُ والرَّجاءُ في هـواك

هل أراك سالمًا مُنعَّمًا وغانمًا مُكرَّمًا هل أراك

فـي عُلاك تبلغُ السِّماك

مَوطني مَوطني

لقد كان في صفِّ والدي، كما في باقي صفوف المدرسة، تلاميذ من مختلف الأديان مسيحيُّون ومسلمون ويهود، وكأنَّهم من عائلة واحدة، وقلوبهم مع بعض، مثالاً ونموذجًا في العيش المشترك لأبناء الوطن الواحد والشَّعب الواحد، لا يعرفون العنصريَّة أو التَّزمُّت أو الإكراه، كانت علاقتهم ممتازة، لا تشوبها شائبة، ولم يكن ايُّ توتُّرٍ أو اختلاف بينهم، وجميعهم يتحدَّثون العربيَّة، وينشدون الأناشيد الوطنيَّة الصَّباحيَّة، بعد أن يكونوا قد أدُّوا صلاة الصَّباح، حيث لم يكن هذا الشُّعور الذي يفرِّق ما بين الأديان.

(نتواصل، انتظروا وشكرًا)..

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .