يعاني جهاز التّعليم العربيّ من أزمة بنيويّة تنعكس على مضمونه ونتائجه. وهي أزمة بدأت مع قيام الدّولة، وهي تتفاقم طرديًّا مع عمرها، الذي يشيخ، إذا ما قيس بعمر الإنسان، حتّى كأنّ مثلنا العربيّ: “مَنْ شَبَّ على شيءٍ شابَ عليهِ”، ينطبق على أزمة تعليمنا العربيّ.
نقول أزمة بنيويّة، لأنّ المؤسّسة التي توكّلت بالتّعليم العربيّ، ولها فيه فصل المقال، أي وزارة التّربية والتّعليم، أخذت على عاتقها التّرويج للفكر الصّهيونيّ، وقطع العلاقة القوميّة، الثّقافيّة، التّاريخيّة، للأقليّة العربيّة في البلاد، عن بيئتها الطّبيعيّة، عن الشّعب الفلسطينيّ خاصّة، والشعوب العربيّة عامة. ولم تكتف هذه السّلطة الصّهيونيّة، ولا ذراعها المباشر، وزارة التّربية والتّعليم بذلك، بل سعت إلى ترسيخ السّياسة الاستعماريّة، التي ورثتها عن الأب الرّوحيّ للحركة الصّهيونيّة، الاستعمار البريطانيّ، سياسة: “فَرِّقْ تَسُدْ”، فقسّمت الأقليّة القوميّة العربيّة إلى مجموعات من الأقليّات: المسلمين، المسيحيّين، الدّروز والبدو.
وهي تعبّر عن هذه الأقليّات بمصطلحاتها الصّهيونيّة الاستعماريّة: الوسط العربيّ، وهي تقصد المسلمين والمسيحيّين، والوسط الدّرزيّ، والوسط البدويّ، وقد بنى خبراء تربيتها وتعليمها الصّهيونيَّون مناهج تعليميّة لهذه الأقليّات، مختلفة بشكلها ومضمونها، لتعميق تقسيم الأقليّة العربيّة، في وعي النّشء الجديد.
أمّا مضامين هذه المناهج فهي مشتقّة من وظيفة جهاز التّربية والتّعليم التي اضطلع بها منذ طفولته المبكّرة التي قضاها على أنقاض النّكبة، دون أن يسمح بالحديث عنها، وحتى يومنا هذا، حيث يقاضي المعلّمين الذين يتجرّأون ويتحدّثون مع طلّابهم عنها، فكأنّ الجهاز، ورغم دخوله جيل الشّيخوخة لم يبلغ حكمتها، بل بقي في طفولته جسدًا وعقلًا.
وبناء على ما تقدّم، فإنّ جهاز التّعليم العربيّ عانى من سياسة التّمييز القوميّ، على مدار العقود السّبعة الماضية من عمر الدّولة، حتّى أنّ الهوّة بين التّعليم العربيّ، والتّعليم العبريّ تعاظمت إلى حدّ كبير، وانعكس ذلك على النّتائج في التّحصيل كلّ الوقت؛ وما نتائج امتحان “البيزا” الأخير إلّا مرآة صافية لحقيقة الوضع القائم، فكيف يمكن أن نحصل على نتائج أفضل ونحن نعيش في نفس الظّروف التي شوّهت التّربية والتّعليم العربيّين على مدى العقود الماضية؟!
نحن ندعو إلى إجراء تغيير بنيويّ في جهاز التّعليم العربيّ في البلاد، بحيث ينفصل رسميًّا عن الفكر الصّهيونيّ، ويتحرّر من كونه أداة بيد السّلطة لبناء المواطن العربيّ “الصّالح” الذي يحمل صورة الحركة الصّهيونيّة ومثالها. جهاز التّربية والتّعليم العربيّ يجب أن ينطلق من بيئته الطّبيعيّة، من أساسه القوميّ، الثّقافيّ، التّاريخيّ، ويكون مستقلًا بإدارته المخلصة لقيمها القوميّة والثّقافيّة والإنسانيّة، لا إلى قيم السّلطة التي تسعى إلى السّيطرة، والتّهويد، والتّجهيل.
بدون هذا التّغيير الجذريّ، الجوهريّ لن يحدث تغيير حقيقيّ في نتائج تحصيل الطّلّاب العرب، لأنّ الأسباب القائمة، لا ولن تؤدّي إلّا إلى هذه النّتيجة المحتومة، وما محاولات تحسين الوضع القائم، بضخ الميزانيّات لبعض البرامج، وفرض برامج فوقيّة معيّنة على جهاز التّعليم العربيّ، وتحميل المعلّم العربيّ وزر هذه النّتائج المُخزية، وعزو النّتائج إلى طرائق التّدريس … ما هو إلّا ذرّ للرّماد في العيون.
إنّ المعلّم الذي يؤدّي مهامه التّعليميّة قد عيّنته وزارة التّربية والتّعليم، وهذا المعلّم أهّلته الوزارة عينها للتّعليم، وأجازت له بشهادة منها أن يقوم بمهامه التّربويّة والتّعليميّة، فكيف يمكن لهذه الوزارة أن تتنصّل من مسؤوليّتها عن نتائج التّعليم العربيّ المنعكسة في امتحان “البيزا” الأخير، أو فيما سبقه من امتحانات شبيهة أو مختلفة؟!
إنّ تحميل وزارة التّربية والتّعليم المسؤوليّة للمعلّم، ولطرائق التّدريس، ومن ثمّ الحفاظ على الوضع القائم، وفرض برنامج جديد على نفس الجهاز القائم، سيؤدّي إلى فشل جديد، لأنّ نفس الأسباب القائمة ستؤدّي إلى نفس النّتيجة، فأي منطق يكمن خلف تجاهل هذه الحقيقة، سوى تخليد الوضع القائم بفجواته العميقة بين التّعليم العربيّ، والتّعليم العبريّ؟!
أمام هذا الوضع الخطير على مستقبل أبنائنا، هل يكفي أن نطالب بتنفيذ التّغيير البنيويّ في جهاز التّعليم العربيّ، وننتظر أن تستجيب السّلطة لمطالبنا، وقد انتظرنا سبعة عقود ونيّف؟! إنّ الجواب هو لا، بالطّبع، بل يجب علينا نحن الضّحيّة أن نبادر إلى بلورة خطّة تربويّة تعليميّة، نطبّقها في مدارسنا، من أجل إنقاذ مستقبل أبنائنا؛ ولا ينقص مجتمعنا الخبراء في هذا المجال.
يكفينا انتظارًا، لقد دقّ ناقوس الخطر، منذ زمن بعيد، وما هذه النّتائج إلّا رجع الصّدى لذلك الخطر الدّاهم، وإذا خسرنا مستقبل أبنائنا، فماذا يتبقّى لنا؟! ندعو إلى تحرّك تربويّ تعليميّ عاجل، يفضي إلى مؤتمر طارئ للتّعليم العربيّ، تكون مهمّته وضع خطّة عميقة الانتماء والانفتاح في آن واحد، خطّة جريئة يتمّ تطبيقها بوعي ومسؤوليّة تجاه أنفسنا وعلى أبنائنا، من أجل إنقاذ مستقبلنا في هذه البلاد، الذي يستحيل تحقيقه بدون قيم التّربية ونور العلم.