ما الحقوق التي ما زالت تنقص المرأة في الغرب؟
– أن تُساوَى بالرَّجُل في راتبها، رُغم أنها تقتطع وقتًا من عملها للولادة، مثلًا؟
ربما. وذلك ليس اقتطاعًا، بل عملٌ اجتماعيٌّ ووطنيٌّ، أهمٌّ من عملها الوظيفي.
– أن تُصبِح رَجُلَة، أو مسترجِلة؟
ربما.
– أن… ماذا؟
– أن تعود، كما خلقها الله، امرأة؟
هذا، مع الأسف، ما باتت تستنكف منه المرأة كثيرًا، ولا ترى مكانتها إلَّا بأن تصبح رجُلًا، 100%، مع أنها تدَّعي أنها نصيرة نفسها! وذلك هو الاستلاب في الوعي. على أن فكرة “المساواة” أصلًا فكرةٌ عمياء، أو بالأصح: تتعامَى؛ متجاهلةً الفروق بين الرَّجُل والمرأة، لتظلِم المرأةَ قبل الرَّجُل؛ لأن ما بين الجنسَين لا يمكن أن يكون إلَّا تكاملًا حيويًّا. ولا تَساوِيَ بين الجنسَين، وإلَّا لما كانا جنسَين بل جنسًا واحدًا.
وهكذا، فليست الحركة النسويَّة- في معظمها- حركةَ عدالة، ولا حتى مساواة، ولا بذات قضيَّةٍ عقلانيَّةٍ غالبًا، وإنَّما هي حركة تطرُّفٍ مضادٍّ، في خضمِّ صراع الأفكار بين الذكوريَّة والنسويَّة. والنتيجة مزيدٌ من التفريق، والعويل، والتظلُّم، والجعجعة، والخصومة، والسعي إلى العزل والإقصاء، كلُّ فريقٍ من طرَفه. لأجل هذا أخذت المرأة في أدبيَّاتها تناقش الأنوثة والذكورة من منظورٍ شوفيني، كأيِّ حركة استعلاءٍ مطلق، وكأيِّ ثورةٍ عمياء، لا تريد أن تُبقي ولا تذر. بل شرعت في بعض أدبيَّاتها تناقش الأُنوثة والذُّكورة، لا على المستوى الفيزيقيِّ فحسب، بل على مستوى الميتافيزيقا أيضًا، والغيبيَّات، والأديان، في حراكٍ نضاليٍّ إلى تأنيث الكون وما وراءه.
ولو استقامت العلاقة بين الذَّكَر والأُنثَى- كما يقول كانب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي- ما كانت (سيمون ديبوفوار)، ولا (فرجينيا وولف)، ولا احتجنا في هذا الصدد إلى تحليلات (جاك دريدا)، ولا (جاك لاكان)، ولا (جوليا كريستيفا)، ولا حتى إلى كتاب “الحريم اللغوي”، للباحثة اللبنانيَّة، الجديرة بالتقدير، (يُسرَى مُقدَّم). لسنا في حاجةٍ إلى نفي الضِّلع الأعوج أو إثباته، ولا إلى البحث في التفاضل والأسبقيَّة في بنية اللغة العربيَّة أو غير العربيَّة بين المذكَّر والمؤنَّث، للقول بأن الثقافة أبويَّة. ذلك أن الثقافة بالفعل كانت أبويَّة- وما زالت أبويَّة- لكنها كانت أُموميَّة في حِقَبٍ أسبق؛ فوَدَعَتْ الأُموميَّةُ والأَبويَّةُ أَثَرَهما على اللسان والإنسان، وتشكَّلت اللغةُ والبَشَرُ من ذلك التراث كلِّه، ولا مجال في اللغة إلى إنكاره أو استدراكه، وإنْ صحَّ في الإنسان تقويمه وإصلاحه. ولهذا فإن صيحات “يا لثارات حوَّاء!”، من خلال المماحكات التاريخيَّة أو اللغويَّة، هي مضيعة وقتٍ، وتحصيل حاصل، لا تفيد المرأة ولا الرَّجُل ولا الثقافة. كما أن بلوغ تلك الصيحات الثأريَّة مبلغ إنكار التمايز بين الجنسَين، تمايزًا يجعل لكلِّ جنسٍ خصائصه وقدراته ووظائفه، والزعم أن الثقافة وحدها- لا الطبيعة والخِلْقَة- وراء انتفاء التساوي بين الجنسَين، هو إنكارٌ لطبيعة التمايز بين الجنسَين في الكائنات الحيَّة عمومًا؛ من حيث إن الذَّكَر ليس كالأُنثَى، في كلِّ ما خلقَ الخالق. ولئن كان المشبَّهُ به أعظمَ من المشبَّه، فإن “الذَّكَر ليس كالأُنثَى” لا بمعنى تفضيل أحدهما على الآخر، ولكن بمعنى الاختلاف التكامليِّ البنَّاء. ولو استقامت العلاقة بين الجنسَين من البَشَر استقامتَها بين الجنسَين من الحيوان، لما كان ذلك كلُّه، من: الأَبويَّة والأُموميَّة، والذُّكوريَّة والنِّسويَّة، والتطرُّف والتطرُّف المضادِّ، وكلٌّ يستنفر طاقاته لينقُض الكونَ رأسًا على عَقِب، في تعصُّبٍ ينفي تعصُّبًا، وعمًى يرفض عمًى.
نعم، يمكن أن تُسلِّم مبدئيًّا، في هذا السياق، مع (هاينز، ميليسا، (2008)، جنوسة العقل، ترجمة: ليلى الموسوي (الكويت: عالم المعرفة))، بأنْ لا جنوسة في العقل، وأنَّ الفروق بين الجنسَين تعود أساسًا إلى عوامل ليست بيولوجيَّة ولا هرمونيَّة ولا جينيَّة، بل مرتبطة بعامل (التوقُّع الاجتماعي Social Expectation) للدَّور الذي يرسمه المجتمع للذَّكر والأُنثَى، وإلى الظروف الاقتصاديَّة والسياسيَّة المحيطة بهما. لكن ذلك يظلُّ في المجال الذِّهنيِّ، من الملَكات والقدرات العِلميَّة. غير أن هذا لا ينفي الفوارق الأخرى بين الجنسَين، نفسيَّةً وبيولوجيَّة، وعضويَّةً وجسديَّة، المؤثِّرة في قابليَّاتهما وتشكُّلاتهما الإنسانيَّة، وإلَّا انتفت العناصر الجنوسيَّة التي تميِّز المرأة عن الرَّجُل من أساسها. هذا إذا كنَّا نحاكم الأمرَ بمعايير العقل والواقع لا بنعرات العواطف والخيال الطوباوي.
يقول الطبيب الجرَّاح الفرنسي، الحاصل على جائزة نوبل في الطِّب، 1912، (ألكسيس كاريل Alexis Carrel، -1944)(1):
“إن الاختلافات الموجودة بين الرَّجُل والمرأة لا تأتي من الشكل الخاصِّ للأعضاء التناسليَّة، ومن وجود الرَّحم والحمل، أو من طريقة التعليم؛ إذ إنها ذات طبيعة أكثر أهميَّة من ذلك. إنها تنشأ من تكوين الأنسجة ذاتها، ومن تلقيح الجسم كلِّه بمواد كيميائيَّة محدَّدة يُفرزها المِبْيَض. ولقد أدَّى الجهل بهذه الحقائق الجوهريَّة بالمدافعين عن الأُنوثة إلى الاعتقاد بأنه يجب أن يتلقَّى الجنسان تعليمًا واحدًا، وأن يُمنحا قُوًى واحدةً ومسؤوليات متشابهة. والحقيقة أن المرأة تختلف اختلافًا كبيرًا عن الرَّجُل. فكلُّ خليَّةٍ من خلايا جسمها تحمل طابع جنسها، والأمر نفسه صحيحٌ بالنسبة لأعضائها. وفوق كلِّ شيءٍ بالنسبة لجهازها العصبي… فعلى النساء أن ينمِّين أهليَّتهن تبعًا لطبيعتهن، دون أن يحاولن تقليد الذُّكور؛ فإنَّ دورهنَّ في تقدُّم الحضارة أسمَى من دور الرَّجُل؛ فيجب عليهن أن لا يتخلَّين عن وظائفهنَّ المحددة.”
المتعصِّب ذُكوريًّا سيصفِّق لهذا الكلام، بوصفه شهادةً له. والمتعصِّب نِسويًّا سيلعن ألكسيس كاريل، بوصفه نصير التخلُّف والرجعيَّة، وإنْ بقناعٍ عِلمي. أمَّا المتعصِّب للحقيقة والموضوعيَّة، فحريٌّ أن لا يرى في هذا توظيفًا- لا مع… ولا ضِد…- بل سيُقِرُّ بأن الاختلاف سُنَّةٌ كونيَّة، وليس بمنقصة. ومَن لا يراه كذلك هو الذي يجني على الذُّكورة والأُنوثة معًا، وهو يظنُّ أنه يُحسِنُ صُنعًا!
ملاحظة: “أن تعود، كما خلقها الله، امرأة؟” في العنوان اضافها المحرر .