(الحلقة الثَّانية)
قبل أن تخونَه الذَّاكرةُ، الخؤونة، كعادتها مع أبناء وبنات آدم، من المتقدِّمين في السِّنِّ، ويذهب كلُّ ما في مخزونه العلويِّ من ذكريات وأحداث عاشها وعايشها أدراج الرِّياح وأندمُ، ساعة لا ينفعني النَّدم، على ما كان باستطاعتي عمله معه ولم انفِّذه، لأنَّه حينها لن تُفيدَني حسرةٌ ولا لوعةٌ، ولن اسامح نفسي على ذلك، وسأقعُ ما بين كرٍّ وفرٍّ بين الأمنية وتحقيقها، وما بين الرَّغبة والخيبة والهيبة والإثبات، مجدَّدًا، بديهيَّة وجودنا على هذه الأرض التي ليس لنا سواها، ولا نريد سواها ولا نُفكِّر في أيِّ وطنٍ بديلٍ سواه، لذلك فنحن لن نرحل، حتَّى لو كُتِب لنا ذلك، عن “سيِّدة الأرض” لأنَّها “أمُّ البدايات أمُّ النِّهايات”..
هذه الأرض هي لشعبٍ وُجد فيها منذ بزوع فجر التَّاريخ، والشَّعب لهذه الأرض منذ انبلاج فلَق التَّاريخ منذ الأزل، وسيبقى فيها إلى تلك السَّاعة التي تحين ساعتها، إلى الأبد، وإلى ما شاء لها الخالق أن تكون، ومن أتاها مهاجرًا او حاجًّا أو ساكنًا أو زائرًا أو هاربًا أو لاجئًا أو مستغيثًا أو مستنجِدًا يطلب الحماية تحميه وتذود عنه وتقيه من النَّوائب والأنواء، وتُحسِن وفادته وتُعِزُّه فهي الأرض المقدَّسة تحمي من عليها، هي أرضٌ لشعبٍ، لشعبٍ له الأرض ولشعبٍ يُحقِّق المستحيل..
فالأرض تعشقُ من يعشقها وتحمي من يحميها بين رموشها وأهدابها، بين صخورها وأنهارها ووديانها وأخاديدها وبين حقولها وأحراشها وغاباتها وفي اعماق جبالها وهضابها وتلالها ومغاورها وأغوارها وكهوفها، وعندما يُنهي الإنسان مَهمَّته على الأرض تحضُنُه في عمقها وتحتضنُه بذراعيها، قريبًا لقلبها، وتُخبِّئه في رحمها وتُسقيه من عليائها ماءً فراتًا سَلسَبيلاً، ﴿..بردًا وسلامًا﴾، تُغسِله كما غسَلها بعرق تعبه ودم قلبه، فيُصبح نظيفًا طاهرًا ويغدو زاهرًا مُزهرًا وترويه ليكون عطِرًا معطَّرًا، مسكًا وريحانًا، عنبرًا وطيُّونًا، وتُمطر على زرعه وتحيطه بدفئ شمسها، حنانًا وليانًا وإحسانًا وبِرًّا، وتُعطي من يُعطيها زهورًا ووردًا جوريًّا واقحوانًا ونرجسًا، برقوقًا وزهرًا حنُّونًا وزنبقًا وزيتونًا وبرتقالاً وقمحًا وعشبًا أخضر وزعترًا، ذهبًا ومرجانًا وعنبرًا ولؤلؤًا وعقيقًا وتبادل الحبَّ مع من يُحبُّها وتُكرِمه وتُكرِّمه وتشفعُ له، هي الأرض شفيعتنا..
﴾..وَجَعَلَ لَكُم مِنَ الجِبالِ أَكْنَانًا.. ﴿
وتعرف أيضًا لفظَ من يكرهها، وتُعاقب من لا يحافظ عليها ويحميها ﴿مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ﴾، ومِن مَن لا يؤتمن على عِرضها ومِن مَن لا يحافظ على شرفها، فقد قالت عائشة الحُرَّة، يوم سقوط الأندلس، بأيدي الملك فرناندو وزوجته إيزابيلا، في أواسط القرن الخامس عشر، في زفرة العربيِّ الأخيرة، لإبنها إبي عبد الله محمَّد الثَّاني عشر، الذي لم يعرف كيف يحافظ على مملكته وعلى حضارتها العريقة من علمٍ وفنٍّ وثقافةٍ وتقدُّمٍ وتطوُّرٍ وتنوُّرٍ، لم تصله أوروبا بعد، “إبكِ كالنِّساء مُلكًا لم تحافظ عليه كالرِّجال” وضاعت منَّا حضارة الأندلس، وما زال شعبنا يفتِّش عنها في أجزاء الوطن العربيِّ الكبير المُجزَّأ..
لذلك سنبقى لها أوفياء ما دام الدَّم الحُرُّ الزَّكيُّ في عروقنا جارٍ، ولن نرحل عنها ولن نتركها ما دام النَّبض في الفؤاد عازفًا الحان الوطن الحبيب.
هي الأرض أمُّنا..
وبقرارنا البقاء فوق ارضنا، نكون قد اخبرناها، مُطَمْئنينها، عن مدى محبَّتِنا لها واعتزازنا بها، هذا البقاء الذي لن يكون له مثيل ولا نظير له ولا شبيه، فالأرض بقاء وانتماء وهويَّة وديمومة ووجود، وهي أرض الجدود، لا حدود لحبِّها إلى أبد الآبدين وإلى دهر الدُّهور، باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وما عليها، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ﴾..
لن نترك سيِّدتَنا، أمَّنا، إلى يومِ الحقِّ، حين نكون في ذمَّة الرَّحمن..
وقبل ان يخونَ القلبُ والدي كما هي عادة القلب في كلِّ الأجيال ويخون العِشرة الطيِّبة والحياة المشتركة بينهما، وينسى أنَّ عليه ضخَّ الدِّمَ الزَّكيَّ إلى أعضاء جسمه، أو أنَّه تعِب وملَّ من العمل المتواصل والرَّتيب، فيتوقَّف نبضه ويعجز لسانه، فيذهب كلُّ ما في فؤاده من حقائق ووقائع وذكريات، أراد أن يقصَّها لي ويحدِّثني إيَّاها، معه عندما يُوارى الثَّرى هناك تحت سفوح الكرمل الأشمِّ على شاطئ حيفا..
فعندما تخطفه يدُ المنون، القادرة على تنفيذ ما تشاء حين تشاء وحيث تشاء، وتحتضنه بدفئ الرَّاحة الأبديَّة، حيث لا وجعٌ ولا ألمٌ ولا حزنٌ ولا معاناةٌ، فتُدفَنُ معه تحت التُّراب ذكرياته دون أن ترى النُّورَ وتنتعش في سطور على ورق في كتاب ودون ان تُنعِشَ قلوب القارئين الذين احبُّهم، ويسكنون قلبي منتظرين حديثي وكتابي، فيتبدَّدُ حلُمي في فضاء نقمة النِّسيان..
هناك من يعتبرُ النِّسيان نعمة من نِعم الله، وهناك من يعتبرها نقمة من نِقم الله، وإن أكَلنا النِّسيانُ وطوانا في داخله بين طيَّاته، فندخلُ في غفلة وغفوة وغيبة يريدونها لنا، منذ أن سكنوا بين ظهرانينا، فيكون لنا النِّسيان نقمة، ونسبح تائهين بين نِقَمه ونِعَمه نفتِّش عن برِّ الأمان..
لا يستطيعُ أيُّ نسيانٍ أن يُنسينا أحداثَ نيسان وأيَّار في عام النَّكبة. ولا يقدرُ أيُّ إنسانٍ أن يُخفي عنَّا، بين طيَّاتهِ، الحقيقةَ الجليَّة، ولن يقوَى على هزيمةِ ذاكرتِنا، التي تعيشُ بين تلافيفِ دماغِنا، والتي تلُفُّ ذكرياتِنا وحنينَنا وتاريخَنا لفًّا، لتحفظَها وتصونها، كما لَفَّت العِمامةُ رأسَ النَّاصرِ صلاح الدِّين الأيُّوبي مُحرِّرِ بيتِ المقدس، مرتاحة على رأسِه في معركة حطِّين الفاصلة والمفصليَّة لأهل بلاد الشَّام، لتُعيد الأرض لأهلها، ولتحفظَ فينا الشَّيء الذي نعتزُّ به، ذاكرتَنا وحقَّنا في موطنِنا، كي لا يذهب مع الرِّيح كما الرِّيشة التي تذهب في مهبِّ الرِّيح، وحتَّى يطيرَ الطَّيرُ الواقف على رأسِ من يحلو له ان يبقى خانعًا أو قانطًا أو متجاهلاً ومتناسيًا “وَكَأنَّ عَلَى رُؤوسِهِم الطَّيرَ”، فالكتمان والنِّسيان سيَّان، والذَّاكرة والتَّذكُّر هما نقيض النِّسيان، كما أنَّ نقيض الكتمان هو الكشف والإعلان وهذه هي محاولتي التي أريد لها، أن يكتنفها النُّور..
لن ننسى، سأكفرُ بهذه النِّعمة، لن أحدِّث بهذه النِّعمة..
يقول الكاتب والأديب الفلسطينيُّ الخالد فينا، سلمان ناطور:
..”ستأكلنا الضِّباع إن بقينا بلا ذاكرة”
لن تأكُلُنا الضِّباعُ، ولن نسمح لها بذلك، فلحمنا مرٌّ وعلقمٌ، وقاسٍ كالفولاذ..
سنُحيي ذاكرتنا، ونساعدها على التَّذكُّر، لا بل علينا الحديث مع النَّاس كي نستذكرهم ليحكوا ويكتبوا، سأستكتبهم..
إذ كيف لي أن أطوي صفحة رجلٍ عاش مآسٍ أكلت كثيرًا من بعضه، ومن بعض شعبه، وعاثَت ببعضه وببيته وببلده خرابًا، وعايش كلَّ أحداث تلك الفترة اللعينة، النَّكبة، التي فقدنا فيها أرضنا ووطننا ومديتنا وقريتنا وحيَّنا وشارعنا وأهلنا وجيراننا واصدقاءنا وأحبابنا، فقدنا فيها ذاتنا وهُويَّتنا، وشرعنا نُفتِّش عن مأوى نسكنُه، وعن سقف يقي رؤوسنا من عاتيات الزَّمن وعن شجرة نستظلُّ بها وأرضٍ نفترشها لنرتاح ونُريح عظامنا من شدَّة التَّعب، ما بين السَّماء والغبراء، حتَّى شجرة السِّدرة، درعنا الواقي من أحقاد أحفاد مسيلمة الكذَّاب، في البلدة بظلالها الوارفة الواسعة، التي كانت كما يعتقد النَّاس، تحميهم وتستجيب لدعائهم وطلباتهم وامنياتهم، لم تشفع لهم، ولم ترحمهم العطايا والهدايا ولا شرائط الأقمشة النَّفيسة، بألوانِها الزَّاهية، التي كانوا يضعونها على فننها وعلى أغصانها من رأسها إلى جذعها، ولا حتَّى أرواح الصَّالحين الأتقياء والصِّدِّقين النُّجباء التي تعيش عليها وعلى فننها وتحت كنفها وفي محيطها، لم تقوَ على الدِّفاع عنهم في ساعة محنتهم، بعد أن كانوا يُحافظون عليها وعلى سلامتها، بل وقفت تراقب وتشاهد مأساتهم دون أن تُحرِّك ساكنًا، ترى نزوحهم دون أن تسيل دمعة من مآقيها، فقد كان سكَّان البلدة يُحافظون عليها وعلى ما عليها من أعشاش طيور وعصافير وحمام، وجُحور حيوانات كانت تختبئ بها تحت الأرض، خوفًا من سطوة الصَّيَّادين والحيوانات المفترسة، لأنَّ هذه الكائنات الحيَّة كانت طنيبة على هذه الشَّجرة المقدَّسة، ولم يجرؤ أولاد البلدة على الاقتراب من هذه الأعشاش لأخذ الفراخ والزَّغاليل منها، لخوفهم من عقابها وجزائها، لكنَّ سدرة البلد أدارت ظهرها لحُماتها ،كعُرفة الموآبيَّة في سِفر راعوث من الكتاب المقدَّس، العهد القديم، التي تركت حَماتها نُعمي وسلفتها راعوث بعد أن ثكلت نُعمي ولديها (زوج راعوث وزوج عُرفة) “فَقَبَّلَتْ عُرْفَةُ حَمَاتَهَا، وَأَمَّا رَاعُوثُ فَلَصِقَتْ بِهَا”، غادرتها ولم تُساندها في بقيَّة حياتها.
وما عملوه مع شجرة السِّدرة وفي محيطها لم تسعفهم وقت حاجتهم ولم تحمهم يوم الهجيج، بعد أن كانوا يدافعون عن الشَّجرة ويحمونها من كلِّ ضيم ومن كلِّ من تسوِّل له نفسه بالاعتداء عليها أو قطع أيِّ جزء منها، فيُعاقَب من حيث لا يدري، وتلحقه اللعنة والغضب الملائكيُّ لكونها بحسب اعتقادهم مباركةً، لأنَّ الملائكة تحرسها من كلِّ جانٍ، ليلاً ونهارًا، وهي على الأرض ترمزُ إلى الشَّجرة المقدَّسة التي ذُكِرت في القرآن الكريم في حضن السَّماء السَّابعة، ﴿..سِدْرَة المُنْتَهى﴾، عن يمين عرش المالك الرَّحيم الذي يُسخِّر ﴿..الشَّمسَ والقَمَرَ﴾ في جنَّة عدن، تنبع من أصلها الأنهار، وجذورها في السَّماء السَّادسة، وتأوي إليها الملائكة والشُّهداء ساعة راحتهم، لكنَّها انتصبت عاجزة أمام عذاب شعبنا ومآسيه ونكبته..
وتُعرف شجرة السِّدرة أيضًا بشجرة النَّبْق أو شجرة الدُّوم أو شجرة البُطُم، فثمارها حلوة المذاق، لقد كانت شجرة السِّدرة مزارًا لأهل البلاد، كلٌّ بمكان إقامته، يتباركون بها اعتقادًا منهم أنَّها تُحقِّق أمنياتهم، فمن طلبَت العريس ونامت تحت هذه الشَّجرة ليلةً، كان طلبها مُستجابًا، والفتاة التي يُستجاب طلبها، تصبح عروسًا، فتضعُ الحِنَّاء على كفَّيْها وعلى جذوع الشَّجرة، وكانت الفتيات تتهافتن على زيارتها حين تستجيب الشَّجرة لصبيَّة ما طلبها، فينَمن تحتها ليلةً، علَّ السَّميع يرحمهنَّ بعريس “لُقطة” وابن حلال يُهنيهُنَّ، آملات أن يكون باب الإستجابة مُشرعًا وباب الفرج قد فرجها عليهُنَّ وفرَّج كربَهُنَّ، وكان الخبر يُذاع، دون مذياع أو مكبِّر صوت، ودون منادٍ أيضًا، في البلدة “يا بنت قولي لأمِّك” كما “انتشار النَّار في الهشيم”..
ومن يقطع الشَّجرة أو أيَّ جزءٍ من فروعها يُصاب بالهمِّ والغمِّ والحزن واللعنة والكآبة، ويا نيَّال البيت المزروع في حديقته شجرة السِّدرة، رضا السَّماء ينزل عليه ورضا الغبراء يعلو اليه من الأرض، وهناك ايضًا من يعتقد أنَّ من يأكل من ثمارها الطَّيِّبة يُعافى من الأمراض الخبيثة مهما كانت درجة خطورتها..
لو كان للشَّجر لسان، لنطقَ صارخًا من هول مأساة شعب تشرَّد عقودًا، أو لو كان للحجر وجدانٌ، لسردَ حكاية الذين عادوا “مُتسلِّلين”، في كفنٍ، بعد أن طُرِدوا من موطنهم واحترقوا شوقًا لرؤية ديارهم ولشمِّ عطر أرضهم وليُكحِّلوا عيونهم بنور سمائهم، ولو كان للبحر قلبٌ، لنبَضَ بوتيرة أسرع من سرعة الأنواء العاتية، من هول المأساة ووصلَ صوتُ هديرهِ الغمامَ، وحمَل الذين هُجِّروا عنوةً واغتصابًا على فُلكِه وحطَّهم على شاطئهم الشَّاميِّ الدَّافئ في فلسطين..
آه لو يهدُلُ الحمام بهديلهِ راويًا، ما رأته عيونه، لأدمى البحر وفتَّت الحجر واحنَى الشَّجر، وفتَّش عن أماكن أخرى لبناء اعشاشه، فوق رؤوس اشجار هاتيك الجبال، حزنًا ولوعةً على البشر الذين أصبحوا بلا وطن بلا أرض و بلا سقف يأوون تحته أو زيتونة وارفة يستظلُّون بها، لقد حمل وَرَى فلسطين صُوَر بلادهم بأعيُنهم، إلى ما وراء الوراء..
كلُّ ذرَّةِ ترابٍ ورملٍ، كلُّ صخرةٍ وحجرٍ وحصوةٍ، كلُّ شجرةٍ ووردةٍ ونبتةٍ على هذه الأرض، عاشت نكبتنا ونكستنا ومآسينا وإن اختلفت أسماؤها وتشابكت وتكاملت والتقت بمُحصِّلة واحدة، تهجير وتشريد وتهويد واستيطان وعذاب وشقاء وخيام لجوء ومخيَّمات..
لقد بات أبناء شعبنا بين ليلة، لا ضوء لقمرها في السَّماء، وفجر لا شفَق لشمسه، لا صحوةٌ توقظه ولا يقظةٌ تُصحِّيه، يعرفون الدَّواء ويُلازمون الدَّاء، مشرَّدين ولاجئين في بلادهم وضائعين في بلاد الأشقَّاء، بين الأشقَّاء، في العبِّ يحملون الكوشان وفي الجبِّ يُخبِّئون المفتاح، وفي الجيب يقبضون على جمرة املٍ في العودة، إلى ديارهم، يعيشون بعيدًا في المنفى وقريبًا من المنفى..
..”جميلٌ أنتَ في المنفى. قتيلٌ أنتَ في روما”
لقد بات اللاجئون يحملون أملاً مأمولاً في العودة إلى ديارهم وبيوتهم، ويحلمون في إعادة المفتاح إلى قفله وإلى سُكَّرته، ليُديروا المِقبض بمفتاحهم، ليفتحوا باب دارهم ويدخلوا بيوتهم ﴿..بسلام آمنين﴾، بدلاً من أن تبقى موصدةً ينعق الغراب في ساحتها وعلى شرفاتها ويسكُنُ البومُ في باحتها، ويبنون أعشاشهم على شرفات بيوتهم ومساكنهم، في عقر دارهم، بعد أن طُرِدوا منها وامتلكها غريبٌ أتى بلادي من وراء اليمِّ وأديم الأرض..
نقول مِثْل غراب البَين، حين تحلُّ مصيبةٌ ببيتٍ بعد زيارة شخص ما. لأنَّ الغراب ذكيٌّ شرسٌ ومشاكسٌ وعدوانيٌّ ورمزٌ للشُّؤم، أو نقول مثل غراب نوح الذي ذهب ولم يعُد، كما جاء في سفر التَّكوين، عندما بعثه سيِّدُنا نوح من على سفينته بعد انتهاء الطُّوفان، ليُفتِّش عن ظهور الأرض بعد أن طمرتها مياه الغضب الإلهيِّ، ليأوي عليها، فالتهى الغراب بنهش الجيف التي لاقت حتفها حين أغرقها الطُّوفان، وطافت على وجه الماء، ولم يعُد الغراب، ليُطمئن نوح بانتهاء غضب الله على شعبه، وزوال الطوفان وظهور اليابسة..
الغراب ذكيٌّ لكنَّ الثَّعلب ماكرٌ وداهية، وما بين الذَّكاء والدَّهاء صراع، وتحدِّثنا قصَّة أيسوب عن الثَّعلب المكَّار والغراب الذَّكيِّ الواقف على شجرة وفي فمه قطعة من الجبن، أرادها الثَّعلب أن تكون في فيه، وحين أنشدَ الغراب حسب رغبة الثَّعلب، سقطت قطعة الجبن في فم الثَّعلب وكان له ما أراد، فعلى الذَّكيِّ أن يحذر الدَّواهي، وما أكثرهم في هذه الأيَّام وفي سابق الزمان..
كذلك البومة تعيش حياتها ليلاً، في الأماكن الخرِبة، في الخراب، فبرغم عماها إلا أنَّها نبيهة وترمزُ للذَّكاء، أيضًا، والحلم والفِطنة والشُّؤم أيضًا، وغالِبًا ما نصِفُ الإنسان الكشور المتشائم بالبومة، فنقول له: مالك ضارب بوز مثل البومة ع هالصُّبح، أو وجهو مثل البومة، الله الوكيل!
والحقيقة هي، أنَّي احبُّ الغراب والبومة..
لا يحمِلُ الإنسان معه “مفاتيح الغيب”، مهما كانت مرتبته ورُتبته، لأنَّها في جعبة خالقه، ولا يعلم أحدٌ ما في علم الغيب، لأنَّ العِلم عند ربِّ العِلم، عند ربِّ العالِمين والعالَمين، فهو المُختصُّ في هذا العلم، وهو وحده علَّامُ الغُيوب، حيث ﴿..لا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، وهذا يقينٌ لا شكَّ فيه، فالإنسان يملكُ مفاتيح الفرج، ويُمكن أن يكون هذا شكًّا لا يقينَ فيه، لكنَّ الشَّكَّ يُقطع باليقين إن كان الإنسان صبورًا وصابرًا ومرابطًا، حليمًا وقويًّا، يحمل في العصب برودة الجليد، “برودة الجليد في أعصابنا” و”الفولاذ في العصب” ثورةً، ويكون عاشقًا للإنسان والأرض والحياة التي أراد أن يحياها، ويريد لشعبه أن يعيشَها، متمنِّيًا أن يَكتُب له الغيبُ “غيبًا” يخلدُ فيه إلى الرَّاحة والطَّمأنينة والسَّعادة والسَّلام والعيش مع أهله بكرامة وعزَّة نفس، بعد أن يلمَّ شمله فوق أرضه ليستكينَ على أرضه كما يشاء، ساعة يشاء، وحين تأتي ساعته يخلُدُ في رحم أرضه إلى قيام السَّاعة، ﴿..من التُّراب وإلى التُّرابِ تعود﴾، لأنَّه يريدُ أن تكون له أرضٌ تحت قدميه، يقف عليها، في حياته ويُدفَنُ فيها، تحتها، في مماته، كي “أموت كما أشاء” ولكي يموت متى يشاء، وأين يشاء، ولا يُريد أن يموت متى شاؤوا له ذلك الموت أو كيف رسموه له أن يموت، كما حدث لقرى السَّاحل الشَّمالي لفلسطين، التي وصلت أخبارها سكَّان حيفا، حين أمروا الشَّباب، تحت الوعيد والتَّهديد والتَّرهيب، حفر قبورهم بأيديهم ودفنهم أمواتًا وأحياءً أو حرقهم كما حدث في إحدى القرى السَّاحليَّة من قرى قضاء حيفا حيث وضعوا الشَّباب في سهل مليئ بسنابل القمح ذي صُفرةٍ نحاسيَّة ناضجة، في تلك السَّنة من شهر تموز من ايَّام النَّكبة وحرقوهم احياءً، حدث ذلك في يومٍ قائظٍ من أيَّام نكبتنا..
قال الصَّحابيُّ حسن البصري: “ما رأيتُ يقينًا لا شكَّ فيه أشبه بشكٍّ لا يقين فيه إلا
الموت”.
ويقول أجدادنا عن شهر تمُّوز: شهر تمُّوز بْتِغلي المَي في الكوز! من شدَّة الحرِّ، لقد شوَتهم النَّار شيًّا وكوَتهم في لهيبها كيًّا، إلى آخر نفَسٍ وإلى آخر نبضٍ..
عن طيرة اللوز، حَدِّثوني إن كنتم أحياء، عن احوالكم وعن قصَّة الشَّهيد رشيد عبد الشِّيخ ورفاقه الأبطال..
الشَّهيد رشيد عبد الشَّيخ، من طيرة اللوز، من ثوَّار عزِّ الدِّين القسَّام حيث قاتل إلى جانبه، وجنَّد اشقَّاءه الخمسة، في صفوف الثَّورة، حيث تشهد على بطولاته قرى السَّاحل الكرمليِّ من إمِّ الزِّينات إلى مثلَّث الكرمل، واستُشهد في ثورة “السِّتَّة وثلاثين”، بعد أن اغتيل عند مدخل بيته في وادي روشميا، بحيفا، بعد أن وشى به “أولاد الحرام” من أبناء إبليس، وما أكثرهم..
“وأنّ الخيانة كانت منتشرة مثل الرَّائحة” (“أطفال النّدى” للكاتب الفلسطينيِّ محمد الأسعد ص 72)..
..”لا أرضَ تحتي كي أموتَ كما أشاءُ”
“أنا الأرضُ لا تحرميني المطر”
“هنا استبسل العربُ ضدَّ الغزاة هنا استشهد الباسلون”
ومن بعدها يلومُ “اشقَّاؤنا” الضَّحيَّة، التي طُرِدَت من أرضها: كيف تتركون بلادكم، وكأنَّ قرارنا وقول فصْلِنا كان النَّكبة والهزيمة وترك البلاد للنَّقاهة!
آهٍ يا الطَّنطورة، آهٍ يا عمواس، آهٍ يا دير ياسين ودير القاسي واللجون والرُّوحة والنَّهر
والتَّل والدَّامون وأم الزِّينات وآه يا طيرة اللوز والحوَّاسة وبلد الشِّيخ وعين غزال وعين حوض وصبَّارين والجلمة وخبِّيزة وجبع وكفر لام وعين كارم وفرَّاضية وكفر عنان وياقوق والسَّمُّوعي ومعلول والشَّجرة والبروة وبئر السَّبع وأسدود والنَّبي روبين وعسقلان ومجدلة والمجيدل والمجدل ومجدلة وآهٍ وألف آهٍ يا بلدي!
آه يا مُثلَّث السَّاحل الفلسطينيِّ كيف حرقوا الشَّباب وهم أحياء، وكيف حرقوا جثث ضحايا جرائمهم، أمام أعين أهاليهم..
ما أكثر تلك البلدات المهجَّرة والمنكوبة..
(نتواصل، انتظروا وشكرًا)