ونحنُ نقتربُ من إحياءِ ذكرى مجزرةِ كفرقاسم الثّالثةِ والسّتّينَ يغادرُنا الشّابّ سخي موسى جريس وهو في الخامسةِ والتّسعينَ من شبابِهِ الذي لا يشيخُ، وذلكَ في التّاسعِ عشرَ من تشرينِ الأوّلِ، فذكّرَنا هذا الرّحيل بكلِّ نشاطِهِ البارزِ في إحياءِ المناسباتِ القوميّةِ والوطنيّةِ والأمميّةِ.
لقد تمسّك الرّفيقُ الرّاحلُ، سخي موسى جريس بالعامِ العشرينَ مِنْ عمرهِ، وعندما أرادَ عمرُهُ التّقدّمَ في مسيرةِ الزّمنِ القاهرةِ قاومَها بكلِّ ما أوتيَ من حُبِّ الحياةِ، وإرادةِ الكفاحِ وتفاؤلِ الثّائرِ، فلم يستطعْ أن يوقفَ مسيرةَ الزَّمنِ، لكنّهُ استطاعَ أنْ يبقى، حتّى قعودِهِ عن النّشاط، محتضنًا عامَهُ العشرينَ بحرارةِ العاشقِ المشتاقِ إلى حبيبتِهِ، يحضنُها بلهفةِ اللّقاءٍ الذي لا يتحقّقُ إلّا مرّةً واحدةً في العمر.
لقد سخا الرّفيقُ سخي على الحزبِ بما بخلَ بهِ على نفسِهِ، فأخذَ من دخلِهِ حاجتَهُ، وهو قليل، وتبرّعَ لحزبِهِ بما تبقّى من مالِهِ ونفسِهِ وجهدِهِ، وهو كثير. هو تاجرٌ خانَ تجارتَهُ، فلم يطمحْ أنْ يكونَ تاجرًا كبيرًا، وكانَ يستطيعُ ذلكَ، لكنّه أخلصَ لحزبِهِ، لشعبِهِ، لأمميّتِهِ، فاستطاعَ أنْ يكونَ رفيقًا كبيرًا.
كانَ الرّفيقُ سخي ظاهرةً فريدةً، فقد كانَ نشاطُهُ يتناسبُ طرديًّا مع عمرِهِ، يزدادُ نشاطُهُ وعيًا وخبرةً وحماسًا، في كلِّ عامٍ، كانَ ينافسُنا وحدَهُ ويفوزُ علينا مجتمعينَ. وكانَ يُبدعُ في اقتراحاتِهِ لتطويرِ العملِ، فيقترحُ دوراتٍ رياضيّةٍ وفنيّةٍ تهمُّ الشّبابَ، كي يتحوّل النّادي إلى بيتِهم الثّاني، إنْ لم يكنِ الأوّلَ. ولم يكنْ ذلكَ غريبًا عنْهُ فكانَ يُتقنُ السّباحةَ متفوّقًا علينا هازمًا تحدّينا الشّبابيّ الطّائشِ الأرعنِ؛ وكان ماهرًا في الرّقصِ، والدّبكةِ الشّعبيّة، وكنّا لا نستطيعُ مجاراتِهِ، يعجزُ نَفَسُنا القصيرُ أمامَ نَفَسِهِ الطّويلِ، وتقصُرُ لذّةُ لحظتِنا العابرةِ مقابلَ طولِ متعةِ حياتِهِ الوافرةِ.
أحبّ “الإتّحاد”، وزّعَها في قرى الجليل بإقبالٍ وشغفٍ، وقدّمَ لنا سيّارتَه وما في جيبِهِ، لنوزّعها في القرى القريبةِ والبعيدةِ كدنّون، المزرعة، العرامشة … ولم يبخلْ بالمثلِ علينا، في “الشّبيبة”، في توزيعِ “الغد” فكانَ سندًا حقيقيًّا لنا نشعر أنّنا نمتلكُ الدّنيا وما فيها، وهو بينَنا يصيحُ فينا: “ولا يهمكم، يا رفاق!”
رَبَطَتْهُ بالإتّحاد علاقةٌ خاصّةٌ، حبٌّ عميقٌ مجبولٌ بالوفاءِ، وقد أحبَّ أنْ يكتبَ فيها آراءَه السّياسيّة؛ كانَ في سنواتِ ذاكرتِهِ الحيَّةِ الأخيرةِ يناديني ليُمليَ عليّ أفكارَه في الأحداثِ الجاريةِ لأصوغَها له جُمَلًا، أقرأُها له فلا تعجبُهُ، فيوضّح قصدَه لتعبّر بدقّةٍ عمّا يريدُ. وعندما أكتبُ دولةً فلسطينيّةً، يقول لي أضف عبارة: قابلة للحياة، كان يحبُّ هذا التّعبير في ظلّ عمليّة الاستيطانِ الجارفةِ في القدسِ الشّرقيّةِ، وفي الضّفةِ الغربيّةِ.
أحبَّ نظمَ الشّعاراتِ السّياسيّةِ، وخصوصًا في حربِ لبنانَ الثّانيّةِ عام 2006، كنّا نسافرُ إلى تل أبيب لنشاركَ في المظاهراتِ الاحتجاجيّة العربيّةِ اليهوديّةِ، وكان يقفُ في الحافلة ويُطلقُ الشّعاراتِ، فتبدأَ المظاهرةُ في كفرياسيف قبل أنْ تبدأَ في تل أبيب، وكان وزنُ الشّعارِ أحيانًا يُكسَرُ تحتَ ضغطِ سرعةِ الارتجالِ، فنردّدُهُ ضاحكين، فتسودُ أجواءٌ رفاقيّةٌ مرحةٌ أبكي عليها كم أبكي عليه.
لقد استطاعَ الرّفيق السّخيّ سخي أنْ يعيشَ حياتَهُ بأبعادِها المختلِفةِ والمتعدِّدة: القوميّة، الوطنيّة، الأمميّة، الحزبيّة والاجتماعيّة بروحٍ مُقبِلةٍ على الدّنيا كأنّها روحٌ خالدةٌ في وُثوبِها وتَقحُّمِها وإقدامِها وعطائِها ووفائِها.
أمّا صورةُ الرّفيقِ الشّابّ الذي طوى العقودَ الثّمانيّةَ، الذي كان يجيبُ مَنْ يسألُهُ عن عمرِه فيقولُ: عمري فوقَ الثّمانينَ، دون أن يصرّحَ بـ “الفَكّة”، هذا الرّجل الذي يتباهى بالحطّةِ الفلسطينيّةِ والعقالِ، معتزًا أنّه تعلّمَ هذه العادةَ من والدِهِ، هذا المكافحُ الذي كان يسيرُ في مقدّمةِ مسيرةِ يومِ الأرضِ، وأوّلِ أيارَ، والعودةِ، ومظاهراتِ الاحتجاجِ، ووفودِ التّضامنِ إلى الضّفّةِ الغربيّة، وحملاتِ الإغاثةِ، والمؤتمراتِ الحزبيّةِ … لن يغيبَ من تاريخِ هذا الحزبِ، وهذا الشّعبِ، ومسيرةِ الأخوّةِ العربيّةِ اليهوديّةِ الحقّة، وسجلِّ الحركةِ الأمميّةِ المجيدةِ.
لقد رفعَ، بكبرياءٍ وعزٍّ وشرفٍ، الرّفيقُ الباقي فينا، سخي جريس، علمَ الحركةِ العمّاليّةِ والشّيوعيّةِ في العالمِ، على مدارِ عقودٍ طويلةٍ، وهذا العلمُ ينكّسُ اليومَ رأسَهُ إجلالًا لحاملِهِ. لقد رفعَ الرّفيقُ سخي العلمَ الأحمرَ بقامتِهِ المنتصبةِ ورأسِهِ المرفوعِ، طيلة حياتِهِ، واليومَ يرفرفُ العلمُ الأحمرُ فوقَ رأسِهِ وهو مسجّى في عيونِنا التي يلتقي فيها حزنُنا بحدادِ العلمِ، ولكنّ اللّقاءَ لا ينقطع بين دمٍ قانٍ سَخِيٍّ وبينَ علمٍ أحمرَ أبيٍّ.
إياد الحاج – كفرياسيف