سأتناول في هذه المقاربة النّقديّة، رواية تغوص في الذّاكرة الفلسطينيّة الممتدّة من قبل النّكبة إلى الرّبع الأخير من القرن العشرين.
وسيتمّ التّركيز من خلالها، على المرتكزات الآتية:
- ملخّص الرّواية.
- الزّمن السّرديّ.
- المفارقة ودورها في تكثيف العمل.
وبداية لا بدّ من ذكر خيوط العمل الّتي تشابكت صعودا وهبوطا وتراوحا في مكانها، لتتكوّن منها حكاية أجفان، الّتي أحبّ أبوها اسمها الثّاني: عكّا، تماهيا مع عكّا المدينة الشّامخة الّتي لا تخشى هدير البحر، ولا محاولات الغزاة دخولها، فقد أعادتهم دوما، على أعقابهم مخذولين.
وقد أحبّ أبو جابر العكّاوي مناداة ابنته أجفان بهذا الاسم(عكّا) لأنّها تذكّره بمدينته الّتي عشقها، وتنفّس عشقها في مخيّم اللّاجئين الّذي اضطرّ النّزوح إليه بعد أن سقطت المدينة العصيّة بأيدي اليهود عام 1948 وبالتّحديد في الثّامن عشر من شهر أيّار.
وتكبر أجفان، وتغرم بالفدائيّ” كمال” الّذي وصل إلى إربد في أحداث أيلول الأسود، ويتمّ عقد قرانهما لترحل معه إلى برج البراجنة في لبنان.
وبعد فترة ليست بالطّويلة، دبّ نزاع بين الفصائل الفلسطينيّة، راح كمال ضحيّتها، وترمّلت عكّا، وكانت حياة جديدة تتولّد في أحشائها.
وتتوالى الأحداث، لتنخرط أجفان/ عكّا بفصيل زوجها، ويتمّ اشتهاؤها كجسد فتقاوم وتنتقل إلى عمل آخر، وتتكرّر حادثة الاشتهاء إلاّ أنّ مقاومتها الشّرسة، تنجح في دحر براثن الشّرّ، لكنّ العاقبة كانت وخيمة. وتنتهي الرّواية بما بدأت به، في المستشفى باسم صديقتها، تنتظر حقنة الممرّضة لتهدئتها.
تبدأ الرّواية من الزّمن الحاضر، عندما تقع أجفان في “البانيو” وتكسر رجلها هذه الحادثة تشكّل البداية وعتبة النّصّ والإطار الخارجيّ للرّواية.
وهذا الإطار خارج عن زمن الحكاية الأصليّة، الّتي بدأت خيوطها تنسج من خلال الارتداد الذّهنيّ.
والعودة إلى الماضي تشكّل قفزة في الزّمن إلى الوراء، وهذا يعكس سير السّرد، ويؤدّي إلى توليد حكاية فرعيّة، لكنّها هنا ولّدت الحكاية الرّئيسيّة، وهي قد جاءت على لسان راو خارجيّ عليم متّكئ على ضمير الغائب، ويقوم هذا الرّاوي بسرد أحداث متسلسلة متعاقبة هي أقرب إلى التّقرير، لتغدوَ وسيلة لنقل الأفكار دون إيلاء أهميّة كبرى لتصوير التّجربة الذّاتيّة، وعليه تصبح الشّخصيّات مجرّد وسيلة لا غاية دورها نقل أفكار الكاتب الّتي يتدخّل كثيرا في توجيهها.
وتكثر الاستطرادات والانحرافات السّرديّة المطعّمة أحيانا بأبيات من الشّعر ومن الأقوال المأثورة.
ونرى هذا واضحا، عندما جاء كمال الفدائي مع رفاق له إلى بيت أبي جابر العكاوي، والد أجفان لخطبتها، فيصبح طلب يد العروس ثانويّا، ويفسح المجال أمام السّرد التاريخي لما حدث قبل النّكبة في حيفا وعكّا، وسقوطهما في نهاية المطاف بأيدي القوّات الصّهيونيّة.
ويمتدّ هذا السّرد على لسان والد عكّا من الصّفحة الخامسة عشرة إلى الحادية والثّلاثين، وفي خضمّ الحديث لا ينسى والد أجفان أن يعيد على أذهاننا ما كانوا يردّدونه بعد إعدام الشّهداء الثّلاثة: جمجوم والزّير وحجازي:
يا ظلام السّجن خيّم إنّنا نهوى الظّلاما ليس بعد اللّيل إلّا فجر مجد يتسامى
ويستمرّ السّرد في الزّمن الماضي، لكنّ الكاتبة، تخشى علينا الاستغراق في هذا الزّمن، فتعيدنا إلى الحاضر من خلال تذكيرنا بكسر ساقها المغموسة بالجبس وبأنّها راقدة في المستشفى، وهي صورة تكرّرت أكثر من مرّة وكأنّها لازمة جاءت لتؤكّد قصّة الإطار، إلاّ انّ خللا ما طرأ على هذه القصّة الإطار عندما توجّهت الممرّضة في نهاية القصّة إلى أجفان باسم صديقتها بارعة كما هو موثّق في سجلّات المستشفى، وكأنّ نهاية القصّة الإطار امتداد للقصّة الرّئيسيّة الّتي سردتها من خلال تقنيّة الارتداد الذّهنيّ، وبهذا امّحت الحدود بين القصّتين.
وفي محاولة إيجاد التّبرير لهذا الخلل الّذي قد يكون مقصودا، لأنّ الكاتبة من خلاله ربّما أرادت التّأكيد على محاولات تهميش القضيّة الفلسطينيّة، فها هو أبوها يفارق الحياة بعد زيارته الفعليّة لمدينة عكّا لأنّه لم يجد فيها ما كان قد شبّ عليه وما كان يتغنّى به طوال مكوثه في مخيّم اللّاجئين بإربد، وإذا تماهى أبو جابر العكّاوي مع المشرّدين الفلسطينيين، وتماهت مدينة عكّا مع كلّ المدن والقرى الفلسطينيّة، تأكّدت لدينا القناعة بأنّ روح القضيّة لم تعد كما كان من المفروض أن تكون، بعد أن تخاذلت الدّول العربيّة تجاهها، وبعد أن نكّل بحاملي لوائها وبعد العداوة الضّارية بين فصائلها.
وفي النّظر إلى الرّواية من مفهوم المفارقة، نجد أنّ الكاتبة استغلّت هذه الموضوعة لتعبّر من خلالها عن حالة التّناقضات الّتي تعيشها القضيّة الفلسطينيّة.
ويعرّف المنظّرون المفارقة، بأنّها وسيلة من وسائل البيان، وتعبّر عن حالة التّناقض للأشياء وخروج الأمر عن المعهود.
وهي ببساطة أن تتوقّع شيئا ما، لكنّك تتفاجأ بعكس ما توقّعته.
وتحثّ المفارقة القارئ على التّفكير، فهي مكوّن هامّ من عناصر الأدب وكما قال جاكوبسون فإنّها تنطوي على مبدأ التّضاد والتّنافر والتّوازي وعدم التّوقّع.
فما هي ملامح المفارقة في روايتنا أجفان عكّا؟ وسأقوم بالإشارة إلى بعضها:
نجدها بداية في عنوان الرّواية: أجفان عكّا، وأجفان جمع للجفن، ومن معاني كلمة الجفن، غطاءَ العين من أعلاها وأسفلها وتعني أيضا غمد السّيف.
وفي الانتقال إلى رمزيّة المعنى، فإنّ عكّا محميّة من كلّ مكروه خارجيّ لوجود الأجفان فهي غطاؤها الواقي، لكنّ سقوطها بأيدي اليهود يجبهنا كما يجبهنا تناسيها في نهاية الرّواية بفعل تثبيت اسم بارعة بدلا من عكّا في سجلّات المستشفى، وهكذا ومن خلال العنوان نكون أمام المفارقة الّتي كسرت منطقيّة التّوقّع بحماية عكّا، إلى انهزامها وتلاشيها.
وتظهر كذلك المفارقة صارخة في ضعفها وعدم منطقيّتها في بداية الرّواية، عندما زَلَقَت قدمها خارج” البانيو”، فكان نصفها داخله والنّصف الآخر يضغط فوق ساقها الملتوية أسفلها. وقد أطلقت أجفان صرخة ألم مدوّية، فقد كُسرت ساقها، ومن المتوقّع أن تطلب أجفان المساعدة لتأمين العلاج لها، لكنّها بدلا من هذا، بقيت أكثر من ساعتين، إلى أن قرّرت أن تستعين بصديقتها، وفي خلال هذه المدّة الزّمنيّة، تخبرنا الكاتبة من خلال الرّاوي العليم، عمّا كان يجول في خاطر أجفان من تفاصيل أيّامها، وكيف استطاعت أن تغلق قلبها أمام المشتهين، وكيف كانت تحرص على هيئتها الخارجيّة وعلى طراز ثيابها، وكيف كانت تضحك من الألقاب الّتي أطلقت عليها، وكيف أنّها جمّعت رماد ثياب زوجها وأودعتها داخل قارورة لتنظر إليها دخولا وخروجا من البيت.
وهكذا تنثال الذّكريات وتتدفّق لتصحو منها على ألم كسر ساقها!
ومن المفارقات المرتبطة بالذّاكرة الفلسطينيّة المطعّمة بالنّقد العاتب على المساهمة الخجولة للجيوش العربيّة وبخاصّة جيش الإنقاذ، فاسمه يوحي بإشاعة الطّمأنينة، فهو المنقذ، وعندما وصل هذا الجيش إلى عكّا لحمايتها، كان بدون تجهيز كاف، وكان مفرزة صغيرة، وبدلا من إشاعة الأمن والأمان، سيطر القلق والخوف على السّكّان.
وقد ظهرت كذلك المفارقة بين الرّغبة والموجود، بين العزم الكبير على التّصدّي والمقاومة وبين قلّة ما ملكه المقاومون من عتاد، وبين رغبة العودة بعد أيّام من النّزوح عن المدينة وبين واقعيّة الألم المرير بالاقتلاع والاغتراب في مخيّمات اللّاجئين.
وكانت المفارقة الأعظم، في مقتل زوج أجفان الفدائي كمال، ليس برصاص العدوّ وإنّما برصاص الاقتتال بين الفصائل الفلسطينيّة، وبقتله جزّئت القضيّة
فموته يشير إلى الانقسام بين الفصائل أو بين ما أطلق عليه: جماعة الرّفض وجماعة القبول.
وتثور المفارقة في نفس أجفان، بين الشّفقة عليها أو قمعها، وهي تفكّر بالنّاس في المخيّمات، فهم يهتفون وكأنّهم في كرنفالات النّصر، ولا يدرون أنّهم يلهثون في غرف معلّبة ولا يسمعون إلاّ أصواتهم.
كثيرة هي المفارقات المبثوثة في ثنايا الرّواية، ولها دور فاعل في تطوير أحداثها لأنّها نابعة من خصوصيّة العمل الّذي بنته الكاتبة على الغوص في الذّاكرة الفلسطينيّة متّكئة على النّقد الذّاتيّ، فكان من المفروض إبراز النّقيضين في المعادلة وهما ما يشكّلان أرضا خصبة لهذه لتقنيّة .
د. صفا فرحات
( ألقيت المداخلة في أمسية إشهار ومناقشة إصدارات الكاتبة حنان بكير في نادي حيفا الثقافي يوم 2019/10/03).