كثيرا ما أواجه بسؤال، أما مللت من الكتابة عن عبد الناصر؟ ويرفق السؤال عادة بنقد أو تقريع، بأنه لا جدوى من الكتابة عن أمر ولى وانتهى وعصر عبر ومضى، وأنه يجدر بي تناول مواضيع آنية وتهم مجتمعنا وتعالج قضايانا الملحة. ومع أني لا أقصر في تلك المجالات، إلا أنه ومع الذكرى السنوية الـ49 لرحيل الزعيم العربي الخالد في الثامن والعشرين من الشهر الجاري، لا بد من كلمة توضيح، لماذا أواصل الكتابة والحديث عن عبد الناصر؟
ما زلت على قناعة أن عبد الناصر مات ورحل جسدا، لكني أومن وهذا ما ثبت أنه ما زال حيا في ذاكرة التاريخ وقلوب الملايين من البشر. وأننا عندما نكتب أو نحيي ذكرى عبد الناصر، فاننا لا نفعل ذلك من قبيل تقديس الشخصية، رغم تحوله الى”أيقونة” كما قال البروفيسور قيس فرو، الذي رحل قبل أسبوعين في الشهر الذي رحل فيه عبد الناصر. انما نكتب لنحيي جذوة الفكرة وعبد الناصر الطريق والنهج.
كيف لا نكتب كيف لا نحيي ذكرى القائد العربي الكبير، وما زال خصومه وأعداؤه يكتبون عنه، حملات من الكذب والتشويه والافتراء. هم هم الذين لا يصدقون أن عبد الناصر مات، وما زالوا يخافونه ويهابونه كلما ذكر اسمه أو رفعت صوره. هم هم الذين حولوا عبد الناصر الى قديس بمحاولاتهم البائسة الهادفة الى النيل منه ومن سمعته ومن تاريخه، وفشلوا في إيجاد عيب واحد فيه، فجاء رد الشعب حاسما حازما، فتحول عبد الناصر الى أيقونة.
عبد الناصر رافع رأس العرب في كل بقاع العالم، رائد معاني الحرية والاستقلال والتحرر من الاستعمار والاقطاع والرجعية، عبد الناصر نصير العمال والفلاحين، المدافع عن الفقراء والغلابة، باني المساكن الشعبية والمصانع، محقق مطلب التعليم المجاني، مشيد السد العالي ومنفذ قرار تأميم قناة السويس وغيرها من المرافق الاقتصادية، راعي الثقافة والآداب والفنون في مصر.
وعلى الصعيد العربي العام ترك لنا عبد الناصر ارثا سياسيا وفكرا قوميا، يوفر للعرب حياة كريمة ومكانة عالية بين أمم العالم، لو أحسنوا التصرف وساروا في درب الناصر. لقد آمن عبد الناصر بالقومية العربية على أنها جامع لكل العرب وموحدة لهم. تلك القومية التي تجمع اللغة والتاريخ والجغرافيا، التي بين عواملها في “الميثاق”، وأكد: ” يكفي أن الأمة العربية تملك وحدة اللغة التي تصنع وحدة الفكر والعقل. ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة التاريخ التي تصنع وحدة الضمير والوجدان. ويكفي أن أمة العربية تملك وحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير”.
أليس ذلك حديث في الواقعية وفي أحوال شعبنا العربي؟ ألا تتناول تلك الأقوال واقعنا العربي الأليم، الناتج عن ابتعاد العرب عن النهج الناصري؟
ونادى عبد الناصر وعمل من أجل الوحدة العربية، الوحدة الطوعية للعرب “ان الوحدة لا يمكن بل لا ينبغي أن تكون فرضا فإن الأهداف العظيمة للأمم يجب أن تتكافأ أساليبها شرفا مع غاياتها”. فالوحدة كما قال تتعدد فيها الأشكال والمراحل وصولا الى الهدف المرجو.
ورسخ عبد الناصر مفهوم “الحياد الإيجابي” في العالم، والذي ينأى بنفسه عن التحالف مع الغرب الاستعماري أو الشرق الشيوعي في ذلك الوقت، وبنى مع زملائه من زعماء دول عدم الانحياز مثل تيتو (يوغسلافيا)، نهرو (الهند) وغيرهما، حركة الحياد الإيجابي وعقد المؤتمر الأول لها عام 1955، وأحدثت مفاهيم جديدة في العلاقات الدولية القائمة على استقلال الدول واحترام سيادتها والنأي عن الأحلاف المشبوهة. وقد أوضح عبد الناصر مفهوم الحياد الإيجابي بقوله ” الحياد الإيجابي يعني الاستقلال، يعني أن لا أخضع لكتلة من الكتل ولا لسيطرة دولة، ولا أدخل ضمن مناطق النفوذ. يعني الحياد الإيجابي بمعناه أن أكون مستقل، وأقول رأيي بما يتماشى مع ضميري”.
تلك كانت وقفة مصغرة لمواقف وأفكار تحتاج الى مجلدات للتعامل معها. وهذه الوقفة تهدف للتذكير وليس البحث والدراسة، لمن ينسى او يتناسى، اسهامات ذاك القائد العربي الذي قلما جاد الدهر بمثله، وكان له دوره المميز في تاريخ العرب، رغم عهده القصير جدا، وسيبقى تأثيره لأجيال وأجيال، لذا وجب احياء ذكره وبعث تراثه ونهجه ليبقيا وجهة تهتدي بهما أجيال العروبة القادمة.
(شفاعمرو/ الجليل)