البداية من الإهداء: “الى مَن تبقّى من قرائِنا…”! هل توافقون مع الكاتب بأنه توجد أزمة قرّاء في مجتمعنا العربي؟ وماذا عن منشورات (أدباء الفيس أبو البوك، والواتس بن أب، والتويتر ويوتيوب) والذين بعبثهم وخزعبلاتهم، ضيّقوا الخناق على لغة الضاد، فشتّتوا نحوها ونهبوا ثرواتها اللغوية، فتصلّبت (جراء تلك الفوضى) شرايين الإبداع، لتتحوّلَ دور الطباعة والنشر الى مراكز تجارية لبيع بطاقات المعايدة، ودعوات الأعراس ودروع التقدير..
ثانيا وليس فانيا، يمدّ الكاتب، على لسان عبدالله المحمد الحرفشاني، شكرَهُ وتقديرَهُ لأفراد أسرته جميعا، (وما أغلى من الولد سوى ولد الولد)..
ثالثا، وبما أنّ للمادة ثلاثة أحوال: صلبة، سائلة وغازية، والذرة تتكون من جزئيات ثلاث،
والكائنات الحية: حيوانات، أسماك، ونباتات، والإنسان كائن ثلاثي: جسد، ونفس، وروح، وبما أن الثالثِة ثابتِة، فَعَليّ الطلاق بالثلاث، بأنّ هذا الكتاب سيعجبكم، بكل ما يحويه، بفصوله السِتّة، والتي تضمّ خواطر إبداعية، أولها “بيادر قرويّة” ص7 لتجيء (منها مقدّمة ومنها عنوان) للمجموعة القيّمة.
كتب المؤلِف، بأسلوبه الاستطرادي، (المُرهِق في بعض المواضع):”هذه ليست مذكّرات، ولا يوميّات، ولا سيرة ذاتيّة، ولا رواية شخصيّة، وليست حكاية ذاتيّة، إنّها مجرّد خواطر من بيادرِنا القرويّة، حين كانت هذه هي مركز الأحداث…”. ويتابع، بعد أن يصول ويجول في ميدان المقولات التراثية، والموروثات والأمثال والمواعظ وأسماء المأكولات الشعبيّة، فيقول: “هذه البيادر نُشِرت في صحيفتيّ الاتحاد\حيفا وحديث الناس\الناصرة، بين عامي 2017-2018…” وبما ان الكاتب يعلن عن تقديره وشكره لكل من سيساهمُ في وضع النقاط على الحروف، فقد وجدت من المناسبِ إقران رأيي برأيِهِ، فقمت بتسليطِ بعض أضواء استعراضيّة، على قسمٍ من الخواطر والمقالات، لعل مسّا من الرغبةِ يصيبُ قارئا متردّدا، أو يردّ متمرّدا على المطالعة، أو يقنعَ لاهيا عن الكتب، فيعيدهم الى جادةِ الكتاب، ليتناولونَهُ دون حجاب، فيزيل عنهم السؤمَ والاكتئاب، ليجدوا فيه ال جواب!
تبدأ الخواطرُ بالتلألؤِ في (بيت أبي وجدّي) ص13، وهو ليس بأجملِ البيوتِ، ولا بأعرقها وأقدمها، بل أكثرها تواضعا وبساطة… ويدخل الكاتب الى تفاصيل مبنى وتقسيم البيت القديم، والخدمات التي قدّمها كل قسم، ويخرج منه الى فوّاحة البيت حيث الشِفعَة (الحاكورة) ومزروعاتها التي سدّت احتياجات الأهل اليومية، ثم يعرض أمام القرّاء لوحة مميّزة بعنوان (مع الفلاح- الحنين الى ماضٍ قريب) للفنان عبدالله خير الدين، والذي صمّم بأنامله المبدعةِ لوحة غلاف الكتاب، فجاءت معبّرة… وتستمرّ خواطر الفصل الأول بالتدرّجِ متألقة، (ليست أساطير ص17، أبو أمين وأم أمين ص20، عريشة عبد القادر ص23، حكاية أبي مْعيجِل وأبي كنج ص27، جرجروهُ الى المحاكم ص31، حلوة يا بلدي ص35، حمّلوه ملفات 1-2-3 ص 38-47 ويعرض الكاتب صورة لبطليّ مسلسل “ضيعة ضايعة” تيمُنا بالتشابه الملحوظ مع ما يحدث في قرانا “يا ضيعة ما نْسيتِك (ما بْعوفِك) يوم\مهما اشتدّ عليّ كثر اللوم…”، ثم خاطرة بعنوان مدارس ومجالس معا ص48، مواجهات إعلاميّة ص52، مواقع أراضينا ومدلولاتها ص56 والتي تهدف الى تثبيت أسماء ما تبقى من أراضينا،”بعد نهب وسلب الغول الجشع بذرائعه المصطنعة…”ويستفتح الكاتب بأسماء الجبال العليا، ليهبط واردا الوديان والعيون والينابيع، ولا ينسى السير باتجاه الخلال (ويعرّف لنا الخلّة بانها المرج الضيق بين جبلين أو تلّين..) ويقفز فوق سياج كروم الشجريات، ويعود الى المروج، ويزور الخِرَب مُوَثّقا بعض آثارها وتاريخها وصور ملوّنة تظهر بعض جنباتها…وينهي هذا الفصل بخاطرة (بستان جدّي ص61) خاتما بصورة واضحة لزهرة قرن الغزال النادرة، والتي أطلق عليها فلاحو بيت جن (برقوق الخميس).
في الفصل الثاني تركّز الكاتب في خواطره بعرض معلومات وذكريات ومواقف شخصيّات ذات تأثير على مجريات الأمور خلال القرن العشرين وما تلاه، وكان لها الوقع الشديد على صقل شخصية الكاتب وشحذ فكره وخطّه السياسي، مثلا ص64(عبد الناصر، أمور شخصيّة، ضريح الشهيد كمال جنبلاط ص68، الشيخان: مرزوق وصالح والمقصود المرحومان الشيخ مرزوق معدي والشيخ صالح خنيفس، وفي صفحة 76 “تعرفت عليهم عن كثب” حيث يعرض الكاتب أمامنا قائمة معارفه، وهي طويلة جدا، أخوّة، مودّة، زمالة، مناظرات أدبية، فقهية، لاهوتية، روحانية، لقاءات المذاهب والأديان.. ويضيف: “مجتمعنا بتعددياته، بحاجة الى سفراء حُسن نوايا في الوطن الواحد!! العوامل المُوَحِّدة وانتماؤنا البشريّ يحتّمُ ذلك علينا عاجلا”..
الفصل الثالث يشمل تسع خواطر تصف جولات بين أحضان الطبيعة، وجولات على الهواء عبر أثير إذاعة الشمس وجولات ربوع الوطن، الهادفة الى ترسيخ جذورنا “الممتدة عميقا داخل تربتنا المعطاءة، وحضارتنا وثقافتنا…ص143″، وفي خاطرة حديقة أبجديّة ص151 يعرض الكاتب ما تيسّر في هذه الحديقة المفتوحة للجميع، من حرف الألف- ابرة العجوز حتى حرف الياء- يوسف أفندي (المندلينا)، “…وعلى الرحبِ والسّعة، وأنتم (والحديث مع طلابه) عزوتنا، مستقبلنا، روّادنا وحملةُ رايات العلم، المعرفة والتّسامح)!
في الفصل الرابع يعرض المؤلف أمام القرّاء شذرات من إرشيفه حول قضايا ومواضيع متعدّدة أشغلت باله، (بيادر مقدسيّة، عبريّة وعربيّة) وخلالها يجزم بأن القدس، أقدس الأقداس، ليست سلعة للبيع والإعلام، ولا للرهان والأمريكان.. ثم نتحوّل الى خاطرة (مُستصدقون، طُفَيلّيون ووُصوليون-ص175) وينحى باللائمة على (جماعة الثعالب) من زمرة زلام المرحبا، الجواسيس، الذين عوّدوهم فاعتادوا على التنصّت، التّخفي، الأقنعة.. ويستشهد بوالدة آبي غبايْ (الرئيس الأسبق لحزب المعسكر الصهيوني) وهي مغربية الأصل، وكانت تقول (يا عيب الشّوم) عن هيك فساد…
أما في الفصل الخامس ص204، فانه يوجه أنظارنا نحو رؤياه وتحديد هويته\هويتنا، ويلخصه ببيت من الشعر لأحد شعراء الزجل اللبنانيين:
بَدّي بدِر بيضَوّي، بدِر زَيّ
وْثَوْب المَجِد حَيَّكتو بِدَرْزيّ
بْمِسْلِم وْمَسيحي وِدِرْزي
كلنا بْ هَـالوَطَن أحبابْ..
ويستشهد بمقولة للشيخ حليم تقي الدين:
كونوا أجاويدَ في قولٍ وعمَلِ
إنّ الديانةَ في الأخلاقِ والشِيَمِ
ويعرض لنا في نهاية هذا الفصل ص225، صورة رائعة من إرشيفه، تبيّنُ شخصيات متكاتفة، تؤمن بالتسامح الديني والعلماني، رغم أنوف كافة الغيبيّين، السلفيّين والتكفيريّين، وفيها رسالة واضحة، لا تقبل التأويل، لكل هؤلاء المنبوذين الذين يُمَنهِجون للتقوقع وللتعصب الأعمى، ويعملون على غسل أدمغة الناشئة..
في الفصل السادس، والأخير، يتطرّق الكاتب الى بعض أعمال زملائه، من حكايات وأعمال أدبية مميّزة، وهذا ينقصنا في هذه الفترة العصيبة، حيث انقطعت الصالونات الأدبية البيتيّة، وأغلقت معظم المجلات الأدبية أبوابها كالمنبر، المواكب، الشرق، البيادر، وأصلا نحن شعب ينقصنا من يقوم بالدعم والتشجيع لما يصدر، ومثال على ذلك استعراض قام به الكاتب لرواية (رفيف) وهي باكورة أعمال الكاتبة الشّابة أماني زيد خطيب، وحكاية الشيخ الراحل سعيد خير الدين مع السجين الأمني أحمد سليمان ارشيد، وحكاية منقولة عن لسان الشاعر الكرملي الراحل نزيه خير، تتعلق بمختار طيرة الكرمل المهجّرة، واستعراض لعمل ترجميّ للكاتب أمين خير الدين، عن العبريّة للكاتب العبري الجريء جدعون ليفي، ولا ينسى أن يذكرنا بالذكرى السنويّة المئة والتاسعة الستين لميلاد القدّيسة مريم جريس الياس حداد\بواردي في قريته حرفيش العامرة.
الكاتب نمر محمد نمر أصدر العديد من المطبوعات ومنها (الشهيد كمال جنبلاط)، وضعه في 16\3\1977 وتمّت طباعته ونشره عام1978، وجدير بالذكر أن المؤلف زار ضريح الشهيد عام 1982، وقدّم الكتاب هديّة للزعيم وليد جنبلاط، عن طريق أحد حرّاس الحزب التقدمي الاشتراكي، لتواجده في ذلك اليوم في بيروت. ومن خلال متابعتي لما ينشره الكاتب نمر نمر، وعبرَ منابرِه الناصعة، فإنه حقا “يجيد التمييز بين شعب اسرائيل\ دولة اسرائيل وحكومات اسرائيل”.
أخيرا أوافق الكاتب الصديق أمين خير الدين بأنّ الكتاب لم يستوف حقه من حيث المنتجة والتصميم، وحجم الخطّ، والصفحات، إن الكتاب جدير بإعادة الطبع، والتعامل معه بتقنيّة أكثر وخبرة أكثر. كذلك أثني على رأي الكاتب المجتهد، شاكر فريد حسن، بأن مؤلف الكتاب نمر نمر، شخصية أدبية واجتماعية وتربوية تحظى بالاحترام والتقدير، وهو كاتب عاشق للّغة العربية، ملأ صفحات الكتب، المجلات، الدوريات، الملاحق الثقافية والأدبية بالخواطر، القصائد والكتابات الأدبية، التي يطغى عليها روح السجع، البلاغة والبيان، وما يسمِه قدرته على انتقاء الكلمات والمعاني الجميلة، ذات الوقع والتأثير على الوجدان الانسان. ولعل في طرح الدكتور منير توما، وصفا دقيقا لأسلوب الكاتب نمر نمر، حيث كتب في مقال نقدي بعنوان (الكاتب الشيخ نمر نمر في بيادرهِ القروية والعبرية– “نقد الأفكار والمواقف وتصوير شخصيات أصحابها، وما تُحدث في نفس قارئها من لذةٍ تارةً، واندهاش واستغراب تارةً أخرى، وهو الجانب الذي يحيل الكاتب الأدبي الى عملٍ ممتع، يلذ العقل والشعور، إذ نرى من خلالهِ خصائص الكاتب الأدبي العقلية وملكاتهِ وقدرته على طرافة العرض والتصوير، وفرادة السرد والتحليل…”
أتمنى للكاتب أبي فكري المزيد من العطاء المميّز، الذي يوثّق واقعنا وتراثنا وحاضرنا بماركة مسجّلة على اسمه، وبطرحٍ خاص ومغاير لرأي الأغلبية القريبة المحيطة، والمثل بيقول (في الآخِر ما بيصِح إلا الصحيح!).