الجرحُ يا حبيبتي لا ينزف دمًا
الا اذا السكين اليه امتدتْ
الا اذا صيحة المظلوم في العالم دَوّت
فللجرح قَيْحهْ
وللظلم صَيْحَهْ
وبعد كل غفوةٍ صحوة
السكينُ الى جرحي امتدت
منذ أعوام واعوام
وجرحي العميق يمتد أميالًا أميال
كل جرح عامل هو جرحي
كل جرح مظلوم هو جرحي
كل جرح مناضل هو جرحي
وكل جروح هؤلاء انهارًا تصب في
جرحي
ما أحدّ السكين التي الى هذا السكين
امتدتْ
في موسكو ضمدوا لي جرحًا كان
ينزف
في عدن وكوبا
في افريقيا ما زال الدم ينزف
في بيروت ضمدوا لي جرحًا
وفتحوا ….!
في كل زاوية وزاوية
في كل قلعة ورابية
أنا أحيي بجراحي الدامية
يا هذا الجسد الأبي
الى أين تمتد جراحك الى أين!؟
من عكا ويافا وأريحا
من غزة ونابلس وترشيحا
من عمان الى تل الزعتر
من بيروت والى بيروت
في عمان يرقصون على جراحك الدامي
في القاهرة … الزانية تلو الزانية
يا هذا الجسد الأبي
الى أين تمتد جراحك الى أين !؟
هل ضاقت أشلاؤك على هذا السكين ؟
الظالم يَحزُ في جرحك قهرًا
والعاهل يرقص في حلقه دمائك عهرَا
والمرتد يا هذا الجسد لن يدومَ الدهرا
فاقهر ظالمك وانتصب مهرًا
واقهر ظالمك وانتصب مهرا .
وبايات الشهداء سبّح ليلا وفجرا
يا هذا الجسد الأبي
الى اين تمتد جراحك الى أينْ ؟
في شوارع المدينة في وجه الدبابات
في القرية والمخيم
في الخليل والقدس … في الزقاق
والليّات
آه آه يا كل أبطال المخيمات
وهل تخلو شوارع المدينة من
الزانيات ؟
يا هذا الجسد الأبي
ولكن ْ
الجرح لا ينزف دمًا
الا اذا السكين اليه امتدت
لا تزول الزانيات من الشوارع
لا تنتهي رقصة العاهرة
لن يفرغ تجار القضية من البضائع
الا اذا انتصر الجرح ُ على السكين
على سكين الظالم … الظالم
فاقهر ظالمك وانتصب مهرا
وانزف يا هذا الجسد انزف
واجعل من قيحك عبوةً تنسف
كل البوارج والدبابات
كل الاساطيل والطائرات
فقيحُ المظلوم للظالم سم قاتل ،
فجّر يا هذا الجسد فجّر
في يروحام لك أشلاء تحيي
في تل أبيب في كل مصنع وحي
نجمي في ظلمة هذه الليلة ساطعْ
فللجرح قَيْحًهْ
وللظلم صَيْحًهْ
وبعد كل غفوة ًصحوة
هذه القصيدة الملتزمة الجميلة الهفهافة ذات الرؤية الوطنية والطبقية والروح الثورية الغاضبة المتمردة ، خطها يراع الصديق الشاعر غازي قاسم من قرية عارة في المثلث ، وجدتها بين اوراقي المدفونة المطوية المبعثرة في زوايا مكتبتي وأركان غرفتي ، كانت نشرت في صحيفة ” الاتحاد ” العريقة بعددها الصادر يوم الأثنين 12 آب 1985 ، وكم كان لمثل مضمون ومحتوى هذه القصيدة أثر كبير على النفوس ، وكان الاحتفاء أكبر بشاعرها ، في تلك المرحلة العاصفة الزاخرة بالأحداث والمتغيرات والتراكمات السياسية ، مرحلة المد الثوري .
والقصيدة تعري الواقع بكل ما فيه قهر وظلم ووجع داخلي ، وتصور الجرح الفلسطيني ، ومشحونة بالألم والغضب ، ومتأججة بالصدق الانفعالي التعبيري ، وبالمشاعر الوطنية الجياشة ، وفيها انتماء واضح ، والتزام وطني وطبقي ، وانحياز فكري عميق الى جانب الفقراء والمظلومين والمسحوقين والمقهورين والكادحين وكفاحهم بوجه الظلم والاستغلال والجشع الرأسمالي الوحشي .
كذلك نجد في القصيدة نقمة عارمة على تجار القضية ، والحكام والأمراء العرب الراقصين على الجراح الفلسطينية ، والمتآمرين على قضية شعبنا الوطنية .
ويوظف غازي المكان في قصيدته بشكل فني رائع ، وذلك من الوسائل الفنية التعبيرية ذات الاعماق البعيدة ، لما فيه من ملامح ذاتية وسمات جمالية وعواطف انسانية وتجارب حياتية . وتتنوع صور المكان في خطابه الشعري ما بين أمكنة فلسطينية وعربية وعالمية ، ما يدل على وجود علاقة واضحة بين الاهتمام بالمكان وتنوعه في الشعر الفلسطيني المعاصر ، ووجود الاحتلال وممارسته وتأثيره على الواقع الحياتي المعيش .
وغازي كغيره من شعراء الوطن والألم الفلسطيني يعيد صياغة الأمكنة وفق رؤية وطنية وطبقية وسياسية جديدة ، تتخذ صورًا وجدانية وعاطفية وفكرية تتجاوز المساحة الجغرافية المجردة للأماكن الى كونها تشكيلًا روحيًا وجدانيًا ، يزخر بالحركة والحياة والثورة .
ومن يتوغل عميقًا في قصيدة غازي قاسم ، يدرك كيف تجري بفعالية جمالية في تشكيلها واحساسها الجمالي المرهف ، وكيف تنطوي على وعي وطني وبعد طبقي واضح وفهم عميق لطبيعة المرحلة ، ولدور الكلمة والشعر في معركة التحرر والاستقلال ، ولمثيرات الشعرية ومواطن تحقيق اللذة والمتعة الجمالية في ثناياها . فالموهبة الحقيقية والقدرة على توليف الكلمات في أنساق شعرية متوازنة تشي بالعمق والفاعلية والايحاء ، والحس الجمالي ، والرؤى المكثفة المكتنزة ، والحراك الشعوري الخلاق .
وإننا نلمس في القصيدة ذلك التلاحم والترابط التشكيلي النحوي ، والسلاسة المتدفقة ، والشفافية الجميلة ، وأيضًا التناغم والانسجام بين أجزائها ، بحيث تتحول الكلمة الى دلالة تحرك المعنى وتقويه وتمده بالتفاعل والاندماج العضوي الجدلي ، ويظهر ذلك جليًا من خلال الترابط بين ايقاع جمله ومفرداته بصورة فنية متماسكة بارعة ، تنم عن مقدرة شعرية عالية بعمق الكلمة وفاعليتها الشعرية ، وعن براعة واقتدار وتمكن من ادواته في الصياغة الشعرية الفنية ، فيما نجد الصور الشعرية في القصيدة متكاملة بما بينها في اضفاء ألقها الشاعري في السياق وتمركزها على الحدث ، والرؤية الواضحة البليغة ، والوضوح الرائع ، ومتكاملة جماليًا على المستوى الفني والايقاعي .
والكفاءة الجميلة في قصيدة ” وبعد كل غفوة صحوة ” تتأسس على الحراك التصويري ، وتوليف الأفكار بحياكة جمالية تشي بالتضافر والانسجام والموسقة الداخلية والخارجية ، فللفظة فيها ايقاع خاص وموسيقى منسجمة مع البث الإيحائي والشعور الانساني العاطفي الوطني .
كل التحية لك صديقي ورفيقي غازي قاسم ” أبو فتحي ” ، فقد كتبت ووصفت وتوهجت واجدت ايما اجادة في تعرية وكشف الواقع المدجن ، والتعبير عن وجعنا وجرحنا وهمنا الفلسطيني ، والدعوة الى تغييره بواقع آخر أجمل لشعبنا . وها أنت تثبت حضورك ووجودك في المشهد الشعري المحلي ، بقصائدك الوجدانية والغزلية والرومانسية والوطنية والمناسباتية ، التي تؤكد مقدرتك وامتلاكك الموهبة والأدوات الفنية والتجربة الطويلة ، فمزيدًا من العطاء والابداع والتألق والتجدد المتواصل ، وبطاقة حب لك .