تراودني منذ زمن الفكرة عنوان المقالة هذه على ضوء ما يشهده مشهدنا الثقافيّ من تداعيّات عصيّة على الإدراك، ويلحّ عليّ السؤال؛ ما هو موقع ومكانة ومضمون الرسالة الأدبيّة في النصّ الأدبيّ؟! وهل تُختزل قيمته منها؟
القصد ليس الرسائل الأدبيّة التي هي إحدى فنون الأدب، والتي شهد تراثنا القديم والحديث كثيرا منها، وحديثا مثلا؛ رسائل ميّ زيادة – جبران خليل جبران. القصد هي الرسالة، الهدف الأسمى، التي يجب أن يحملها النصّ الأدبيّ، وبمعنى آخر؛ القول الذي يجب على النصّ وصاحبِه غَرْفُه ومن ثمّ إيصالُه العطاشَ.
هذه المراودة استفحلت في الآونة الأخيرة على ضوء “التعويم” في سوق الأدب، انتاجا وأمسياتِ إشهار و\أو تسويق، ومواقعَ تواصل وهذه تنغِل نغَلا. فتقرأ ما تيسّر لك وتحضر من الأمسيات ما تيسّر أحيانا ل- “جيبك”، لتجد نفسك وفي الكثير ممّا قرأت ومّا سمعت تسأل:
أين الرسالة الأدبيّة في جلّ ما قرأت وسمعت؟! هل أصابها ضُمور؟! أو هل كشُحَ موقعُها ولم يعد لزهوّها مكان؟! أو هل غابت أو غُيّبت؟! أو ليس هذا ولا ذاك فهي حيّة في النصّ تُرزق، وإنّما تغيرّت بك أنت الأحوال وعدم إيجادك إيّاها هو لتوك في فهمك واستيعابك وربّما في ذائقتك؟!
يبدو لي إنّ ما يعتور حياتنا الفكريّة والوطنيّة والاجتماعيّة في العقود الأخيرة من ارتجاجات (درجة 7 وما فوق على سلّم ريختر!)، جعل الانكفاءَ شبهَ الكليّ نحو الذات ديدَنا وبالتالي أسقط على أدبنا آخذا إياه نحو مدرسة أو نظريّة؛ “الفنّ للفنّ” استراقا وتسرّقا وعلى الغالب كمَثَل الغراب والحجل، فتضعضعت مكانة الرسالة الأدبيّة، وقد اتخذ الكثيرُ من النصوص أشكالا لا تتعدّى الصناعة الفنيّة وإخراجَها وأداءها، وربّما اتخذتها هكذا من حيث لا ندري انسياقا وراء الارتجاجات في المُثل والقيم أعلاه، اللهم في لمحة في النصّ هنا وأخرى هنالك وضربةِ ريشة في اللوحة هنا ومثلِها هناك، وفي الكثير من الأحيان “تجمّلا”، فتجيء هذه اللمحات والضربات حشوا صارخا يسيء حتّى لمثل هكذا نصّ فنّه للفنّ.
حين أزمعت أن أخوض في الأسئلة\التساؤلات، والتخمين عن “التوك” في الفهم والاستيعاب والذائقة أعلاه، يمّمت شطر أدبيّات في الموضوع علّي أجد مِعوانا، فقرأت مقالة بقلم دكتورة؛ اسمها صفيّة الودغيري، تحت عنوان؛ “رسالة الأدب في المنظومة الأخلاقيّة”، تدّعي فيها أنّ:
“رسالة الأدب ينبغي أن تزرع في قلوب أبنائها الشعور بالمسؤوليّة التي تحتّم عليهم أن يتجشّموا الصّعاب، ويأمنوا على أنفسهم مصارع الفِتن… ويزرعوا قيمة الأدب أخلاقا وآدابا قبل الالتزام بقواعده تعبيرا وأداء.”
وتضيف اقتباسا من أديب اسمه؛ عبد الله كنّون الآتي:
“رسالة الأدب العربي، رسالة مقدّسة يجب ألا تقتصر على الأغراض اللفظيّة، ولا المُتعة الذهنيّة، ولا المعاني الذاتيّة التي لا يشعر بها إلا الأديب المتكلّم نفسه، إنّها رسالة ومفهوم هذا اللفظ ممّا ينبغي ألّا يغرُب عن البال، فهو مهمّة تقتضي الهدم والبناء…”
تخلُص الكاتبة فيما تخلُص، إلى:
“العمل الأدبيّ تحوّل إلى فنٍّ خالٍ من جوهره، ومفتقر إلى رسالة تبثّ ثورة في أوصاله وتمدّه بصبيبٍ من دماء الحياة تعصف بجذوره الميْتة وتقتلعها من منبتها السيّء، لتفسح المجال لميلاد أدب عربيّ أصيل، يخدم قضايا الأمّة…”
لم أوافق الكاتبة في كلّ ما حدّدت في مقالتها وخلُصتْ إليه، هذا من ناحية، ومن الأخرى فقد تناولت هي وكما جاء في عنوان المقالة “الرسالة الأخلاقيّة” وأمّا أنا فأورد إبلي في ناحية أخرى لا تقلّ أخلاقيّة. ومع هذا، كلمات كثيرة كانت خطرت ببالي إجابةً وتناولا لتساؤلاتي أعلاه وكثيرة غيرُها تسرح في البال، غير إني وحين قرأت هذا رأيت أن أقتبسه، فهو يختزل جُلّ ما جال ويجول في خاطري نحو مورد إبلي؛ الرسالة في الأدب.
وأدّعي؛ أنّ الرسالة في النصّ الأدبيّ؛ هي الهدف الأسمى وبالتالي هي المقياس وهي المعيار لقيمته وقلّتِها، وقوّته وغيابِها، وأهدافه وضياعِها. الافتقار إلى الرسالة غيابا أو تغييبا، أو “كشوحها”، أو عدم وضوع عنوانها أو عدم وضوح ما نريد لهذا العنوان ومنه وهذا هو الأهم، كلّ هذه إن اعتورت النصّ تجعل من النصّ الأدبيّ “طقْع حَكِي” ومهما جمُل لبوسه بفاقع الألوان وعلا رَنينُهُ بمنغّم الألحان، فلن يشفع له لا جمال اللبوس ولا عذب الرّنين.
صحيح إنّه يحقّ للشاعر كما الكاتب، أن يشعَر ويكتب تنفيسا عن مكنونات نفسه وبثّ لواعجه الذاتيّة والشكوى وحتّى البكاء، ويكتب الماورائيّات في كل ما يشاء، ويكتب الوجدانيّات صبح مساء، ويُطلسم قدر ما شاء. ولكن عندما تصير نصوصه كلّها تدور في هذه الدوائر لا تتخطّاها، فما للناس وله ولمثل هكذا نصوص اللهم إن شاطروه ذاتيّاته؟!
نُدرة أو قلّة هم الناس الذين يعيشون لأنفسهم، الإنسان بطبيعته يعيش لنفسه وللآخرين، يعيش لدائرته الصغرى فالأوسع والأوسع. وِسُع دائرته واكتظاظها وتداخل أخريات معها يقررها، عند الميتافيزيقيّين، قدرُ هذا الإنسان والدور المنوط به من لدُن القوّة الأعلى في الحياة وتجاه الأحياء، وعند الفيزيقيّين، تقرّرها إرادته وخياراته في الحياة.
المُنتِج وفي سياقنا؛ باحثا كان أو مفكّرا أو كاتبا أو شاعرا أو فنّانا، وبغضّ النظر إن اعتبر نفسه من الأُوَل أو الأُخَر أو كان خليطا من هؤلاء ومن أولئك، دائرته هي أوسع كثيرا من ذاته، تشمله وتشمل الناس وحولها دوائر أخرى وأخرى؛ عائليّة ومجتمعيّة ووطنيّة وإنسانيّة. نصّه ليس ملكا له حتّى وهو في أدراجه متأهبّا للانطلاق، واختبار رقيّ ورفعة هذا النصّ ليس مواصفاته الأدبيّة النظريّة وإنما في الرسالة التي يحمل، فالأولى، المواصفات الأدبيّة، لن تنفع في النصّ بدون الثانيّة والثانية لا تنفع بدون الأولى وقد تنفع حتّى لو جاءت الأولى “مْبَهدَلة” بعض الشيء، ولنا في الكثير من المُبدعين مثلٌ.
هذا بارز عند بعض شعرائنا المعروفين، فإن رحت تقيس انتاجهم بالمواصفات الأدبيّة النظريّة ستجد فيه من المثالب الكثير، لكّن عمق وقوّة الرّسالة التي حمل إنتاجهم “بهّتا” كلّ خلل في المواصفات النظريّة، وبقيت هذه رهن اجتهادات الباحثين والنقّاد بعيدا عن عقول وقلوب الناس في معارك حياتهم؛ الهدف الأسمى للمُبدع.
النصّ ينغرف ويغرفُ معه الرسالة الأدبيّة من صخب الدائرة التي يولدان في فلكها وفيها يعيش مُولِّدُهما، وبحكم وطبقا لدور المُولّد يُغرفان من الصغرى فالأكبر. وحين يتعدّى الصخب محيط الدائرة الأصغر ويتداخل أو يتشابك في مساحات الدوائر الأخرى فالنصّ وحملُه يُغرفان من صخبها كلّها مجتمعة. إن اغتُرفت الرسالة هكذا فقد وضعت خطوتها الأولى في الطريق، وإن قارعت الصّخب ودون هوادة فهي بهذا تشقّ الطريق، وإن أضاءت الطريق فقد بلغت المأرب، وحينها يستطيع النصّ القول: “اللهم اشهد إنّي بلَغتُ” (بالفتحة دون الشدّة على اللام).
إنْ كان كلّ ما سقت أعلاه تعميما، فللتخصيص أقول؛ نحن المنتجين الأدبيّين العرب الفلسطينيّين في البلاد، ويصحّ ذلك على غيرنا من أبناء جلدتنا، نشأنا قرّاءً على أدب الرّسالة، وفي سياقنا؛ الرسالة الوطنيّة القوميّة المغروفة من رحم صخب حياتنا الوطنيّة والقوميّة، هذه الرّسالة نهضت بنا نهضة طائر الفينيق الذي جلبناه معنا من جزيرتنا كنعانيّين ويبوسيّين وفينيقيّين وعموريّين، وظلّ فينا وإن درست يبوس وأوغاريت تراجعا منّا، تحت أقدام الغزاة.
نحن ما زلنا نعيش قضيّة وطنيّة وقضيّة قوميّة صاخبتين بكلّ المعاني، وإن كان الصخب فيهما فيما مضى من صنع غرباء والأقرباء تضافروا على ردّهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فهو اليوم من صنع غرباء كثروا وتضافروا وأقرباء كثروا وتنافروا. هؤلاء الأقرباء هم نحن وما فينا من تخلّف ذهنيّ يصطخب، يزيده صخبًا ماديّتنا المستفحلة فغالبيّتنا العظمى تعيش “بحبوحة”، وإن وهميّة ستنهار كقصور الرمال على الشواطئ عند أول موجة تطالها، ولكنها تصطخب فينا؛ انكفاءً ذاتيّا وانكفاءً مجتمعيّا وبالتالي انكفاءً وطنيّا وقوميّا. هذا التخلّف الذهنيّ الممهور بماديّتنا ينخرنا اجتماعيّا وسياسيّا وهذا النخر يتناسب طرديّا وطنيّا، فطموحنا الوطنيّ، وكنتيجة حتميّة، يعيش قصورًا ذاتيّا بعد أن أفقده هذا التخلّفُ وتداعياتُه قوّة وآفاق الانطلاق.
هذا هو التحدّي الأساس أمام حملة القلم، فإن انكفأت أقلامهم في نصوصها في وجه هذا التحدّي؛ ضمورَ رسالة أو كشْح رسالة أو حتى غيبةَ رسالة، فهذا خطأ ما زال يمكن إصلاحه، ولكن إن حَمل الانكفاء “تغييب رسالة” فهذه خطيئة لا تُغتفر لا بل جريمة جزاؤها حرق الأقلام والأوراق وليكن الحبر الوقود.
أدّعي: إنّ الرسالة الأدبيّة روح النصّ الأدبيّ، هي أولا وآخرا القضايا الأساس في حياتنا، والقضيّة الوطنيّة ومعوّقات رقيّها هي قضيّتنا المركزيّة كانت وما زالت وتصطخب اليوم أكثر، وإن افتقد النصّ مثل هكذا رسالة، والرسالة ليست فقط قول هي قول وفصل قول، إن افتقدها قلّت قيمته وضعُفت قوّته وضاعت حاجته. هذا هو المعيار الأهم لرقيّ أي نصّ أدبيّ وقبل وفوق كل المواصفات الأدبيّة النقديّة وبالذات المستوردة منها.
هل نصوصنا الأدبيّة أو غالبيّتها اليوم، تعاني ضُمور هذه الرسالة؟! أو هل تقاسي غيبتها؟! أو تئنّ تحت تغييبها؟!
أترك هذا للقاريء، ولكنّي أدعو نفسي وأدعوه أن نقيّم العمل الأدبيّ طبقا ل-“الرسالة الأدبيّة” في النصّ الأدبيّ ومدى ارتباطها بال-“صخب” الذي نعيش وطنيّا وقوميّا وإنسانيّا وسياسيّا واجتماعيّا، والأهم حين تحمل الرسالة مع الداء الدواء والهدم والبناء، وهذا لا يعني أن نهمل لبوس النصّ الأدبيّ، وإلا تحوّل الأديب إلى خطيب والنصّ إلى خُطبة، وللخُطب ناسها وإن أمكن أن يكونوا أدباء ولكن حينها بعباءة خُطباء!
سعيد نفّاع
أوائل تموز 2019