كتب مسعد خلد
ربما يستسيغُ البعضُ هذه المقالاتْ الاستعراضيّة التي أنشرها في المواقع والصحف، أو يعتبرُها البعضُ مجرّد َ فعفلاتْ، وما أنا سوى متذوقٌ للأدب، تستهويني الكلمةُ العذبة، والعبارةُ الشاردة تهزُّ أعماقي، توقظُ مشاعري ليلتمعَ فكري سطورا تجري…
لست ناقدا، ولا أنتقي من أريدُ من كتابٍ أو شعراءَ، وذلكَ ليسَ من دافعِ رفعِ أو حطِّ أحدٍ، أو من منطلَقِ (غيرةِ الكُتّابِ)، إنما محاولةُ تسليطِ بعضِ أضواء، على ما أقرأُ من أعمالٍ، اذا ما أخذت مفعولَها في ذائقتي الأدبيةِ، فتخرجُ الى النورِ، لعلها تحثُ (من تقعُ بينَ يديه) على الاستزادةِ والتعمقِ في النصِّ المشارِ اليهِ، فتكونُ مساهمةً في دعمِ وتشجيعِ اقتنائهِ ومطالعتهِ…وفي هذا المضمارِ كتب لي الأديبُ علم الدين بدرية، ابنُ دالية الكرمل في 2011 عبرَ موقعِ ورقستان التركيِّ العامريِّ تعليقا، يتتعلقُ بما ذكرتُه حول أسلوب الأضواء الاستعراضية من جهة، ومن جهة أخرى يتعلقُ بمداخلتي في هذه الأمسيةِ عن مجموعةِ التفاحةِ النهريةِ، وهذا ما كتبَ:
- أخي الكاتب مسعد خلد،تحيّة طيّبة ملؤها المحبّة! وبعد!
أضواؤُكَ الاستعراضيّة النقديّة ، تُلقي الأضواءَ الكاشفةَ على المجموعةِ القصصيّةِ للكاتبِ محمد نفاع بأسلوبٍ شيّقٍ وعميقٍ وتعطي القارئَ صورةً شاملةً عن أسلوبِ الكاتبِ ونهجِهِ السّرديِ، الفكريِ، السياسيِ، التراثي، وأستطيعُ القولَ أنّكَ أعطيتَ صورةً واضحةً للقارئِ حولَ هذهِ المجموعةِ بما تحملُهُ من إبداعٍ أدبيٍ وأسلوبٍ سرديٍ فزِدتَنا شوقا لاقتنائِه واستطلاعا لسبرِ أغوارِهِ..
دمتَ مبدعًا .. قصّة ونثرًا ، مقالاً ونقدًا! مودتي وتقديري!
وهكذا “يا كِرامْ، يا مستمعين الكلامْ”…(صارت التفاحةُ حديثُ الناسِ، وجاءَت البلدةُ تنظرُ الى هذه العجيبةِ (منْ حقْ وحقيقْ)… أصبحت التفاحةُ من مَفاخرِ بيتِنا وحارتِنا وبلدِنا. لم يكن من السهلِ عليّ النومُ مع التفاحةِ تحتَ سقفِ البيتِ.
– ( ديري بالِك! إذا حِبلى ممنوع تشوفيها…)
*هذه افتتاحيةُ المجموعةِ القصصيةِ (التفاحة النهريّة) للأديب محمد نفاع، الصادرةِ عن دارِ رايه للنشر- حيفا عام 2011، تشملُ ستةَ عشرَ قصةً قصيرةً، من “التفاحة النهرية” حتى “نوبة قلبية” تُغلّفُها لوحةٌ للفنان الأردني عصام طنطاوي، وينضحُ إناؤُها بما فيهِ من جمالٍ فنيٍّ وأدبٍ شعبيٍّ وأصالةٍ نثريّةٍ، خطّتهُ أناملُ أبي هشام.
يتميزُ أسلوبُ المجموعةِ – كما في المجموعاتِ السابقةِ كـالأصيلة- وديّة- ريح الشمال- كوشان… بتأثرِه بالأجواءِ الشعبيةِ الفلسطينيةِ، التي حافظت على التراثِ الشعبيِّ ونمطِ الحياةِ الذي كان سائدا، والعلاقاتِ الاجتماعيةِ واللغةِ المحكيةِ والطقوسِ والعاداتِ، مع التمسّكِ بالمحافظةِ على بقائِها حِفظا لجذورِنا…
واذا عدنا الى “التفاحةِ النهريةِ” نجدُ الكاتبَ يدخلُ عميقا الى ثنايا النفسِ، واصفا ما يختلجُ من مشاعرَ وعواطفَ جيّاشةٍ وعواصفَ جامحةٍ، معبرًا عن الكبتِ والحرمانِ، بكلماتٍ قد تبدو للوهلةِ الأولى سطحيةً ومستهلكةً، إلا انها تصوّرُ خبايا الذاكرةِ الجماعيةِ، وتصوّرُ ما كانَ يدورُ في الأفئدةِ الشابةِ، مقارنةً بما يحدثُ اليومَ حيث تبخّرت المشاعرُ، واهتزّتِ الثوابتُ، حتى باتت الشهواتُ طاغيةً على العلاقات…
وحينَ تصلُ الى عبرةِ كلِّ قصةٍ، تنجلي أمامَكَ نهايةٌ مختومةٌ ببراعةِ الخبيرِ، لكنها غير مؤطرةٍ في قوالبِ الشمعِ الأحمرِ التقليديِّ، بل تُلزمُكَ على العودةِ الى ما قرأتَ، لتفهمَ بَواطِنَ خَفيّةً فاتَتكَ خلالَ قِراءَتِك الأوليّةِ..
كتابةُ أديبنا ترسمُ التجاربَ الجماعيةَ من وِجهةِ نظرٍ سياسيةٍ، بلغةٍ ديناميكيةٍ، تُعبّرُ على لسانِ شخصياتِها، ومن بينِهِم شخصيةٌ مركزيةٌ تدورُ حولَها أحداثُ المجموعةِ، لكنني لاحظتُ أنها في بعضِ المواضعِ شملت سردا للسيرةِ الذاتيةِ، وعلى سبيلِ المثالِ: (قصةُ- موقف لنا من الاضراب) كذلك في وصفِ المظاهراتِ والنضالِ والرحلاتِ والبعثاتِ الخارجيةِ في دولٍ مختلفةٍ، أو طرحِ الرؤيا والمبادِئِ والأفكارِ الخاصةِ، والتي يُعَبّرُ عنها الكاتبُ بحنكةٍ وبأسلوبٍ خاصٍ، لكنها تحتكُ في بعض المواضِعِ مع الخطابيةِ التقريريةِ…أما اللغةُ التي تُمَيّزُ محمد نفاع فهي– ماركة مسجلة- على اسمِه، ومثال على ذلك: “لم أكن أتوقعُ أبدا أن تُجري معي مقابلةً مسجلةً ومصوّرةً عن موضوعِ الذئابِ، جعلَ اللهُ مَن هداهُم عليّ من مواطني الجنةِ مع إقامةٍ جبريةٍ…” وفي تمهيدِ قصةِ “عن الذئاب وغزالِه” ص 143، يمكنُ اختزالُ نهجِ الكاتبِ وأسلوبِه من حيثِ اللغةِ والوصفِ الذي يشملُ العلاقاتَ الاجتماعيةَ والفولكلورَ الشعبي ومثالٌ على ذلك أهزوجة:
يا عيني نودي ويا عيني نودي
سِـت الصبايا بيض الزنـــودي
ولا ننسى الأمثالَ الشعبيةَ: حيثُ “يقولُ النمرُ (ص 149): لولا الراعي ونهراتُه أكلتِ الكلب وعنزاته، أما الذئب فيقول: لولا الكلب ونبحاتُه أكلتِ الراعي وعنزاته”. وعن الطقوسِ والعاداتِ نقرأُ ما يلي:”قلتُ لهم (وين رايحين يا ملايكة الرحمن؟)، قالوا: (رايحين نُربُط فِم الوحش عن بقرة ابو فلان…”
وتظهرُ أصالةُ هذا اللونِ الأدبي في وصفِ زَمَكانِ البيئةِ التي عاشَها الكاتبُ في طفولتِه، والتي تفرضُ على القارئِ ان يَدَعَ خيالَه يتتبعُ الطريقَ الوعريَّ:- “في أحدِ أيامِ الصيفِ وموسمِ الحصادِ، وفي بابْ السّدير (هذه منطقة شمال غرب بيت جن) ترابُ الطريقِ مُنمّشٌ بحباتِ الندى، والعصافيرُ النهّاضةُ للتوِّ تغني للفجرِ اليماميِ المتسللِ المتسرّقِ على مهلِهِ يمسحُ بهيبتِهِ جبهةَ وقممَ الجبالِ، ويحيطُ بمهابةٍ على صدورِها وبطونِها، ونسماتٌ لِطافٌ ناعمةٌ كالشعرِ الخروبيِّ المغسولِ تُهفهفُ وتسرحُ وتمرحُ…”
في قصةِ “التفاحةِ النهرية” تظهرُ التناقضاتُ بين الماضي المتمثلِ بما يرويهِ الراوي عن قصصِ الذئابِ، خلالَ أيامِ النخوةِ والمحافظةِ على الأرضِ والعرضِ، مقارنةً بالحاضرِ الذي ترمزُ اليهِ المرأةُ الأجنبيةُ ومرافِقيها، والتي تصفُ ما آل اليهِ أبناءُ هذا العصرِ المرِّ من تعلقٍ بالقشورِ الغربيةِ الغريبةِ، حتى باتَ بعضُهُم يُحاولونَ العودةَ الى الجذورِ، من أجلِ إنقاذِ ما أمكنَ من خطرِ الاندثارِ أمامَ تيارِ التلاقُحِ الاندثاريّ الانصهاريّ… وهنا تكمنُ أهميةُ هذا الأدبِ في تثبيتِ جذورِنا الأصيلةِ، لئلا نَــضيع.
* (ألقيت هذه المداخلة في الأمسية التكريمية للأديب محمد نفاع بمناسبة إصداره الجديد (غبار الثلج) والكتاب الأول من رباعية السيرة الذاتية بعنوان “جبال الريح”، بمبادرة بيت الكاتب بيت جن بإدارة الاستاذ جمال محمود قبلان والمكتبة العامة بإدارة داليا عطيله والمجلس المحلي والمركز الجماهيري في القرية وذلك بتاريخ 28 حزيران 2019)