موسى حلف شاعر تموزي رومانسي من جيل الثمانينات بقلم: شاكر فريد حسن

 

معرفتي بالصديق القديم الشاعر الغنائي موسى محمد حلف، تعود إلى اواخر السبعينات من القرن الماضي، من خلال ما كان يكتبه وينشره من قصائد وجدانية ذات طابع غنائي، في الملحق الأدبي والثقافي لصحيفة “الأنباء” المحتجبة، ثم في مجلة “الشرق” المحتجبة أيضًا، ثم من خلال الرسائل التي كنا قد تبادلناها في تلك الحقبة الزمنية، وبعدها تعرفت عليه شخصيًا من خلال زيارتي له في بيته بقريته الصغيرة الهادئة النائية عرب الحليف القريبة والمتاخمة لبسمة طبعون، حيث الطبيعة الخضراء الجميلة الساحرة الموحية والملهمة للشعر، وقد قضينا ليلة ماتعة لم تبرح خيالي وذاكرتي حتى الآن، ولكن هموم الحياة وانشغالاتها والتزاماتها حالت دون مواصلة اللقاءات.

وكنت أجريت مع موسى لقاءً حول موهبته وتجربته ومسيرته الشعرية نشرت آنذاك في صحيفة “الأنباء”.

وفي العام 1980 صدرت باكورة أعماله الشعرية بعنوان ” رحلتي غربة. ودموع “، وكان قد اهداني نسخة منها. وهي صادرة عن منشورات مكتب “المجتمع” لمؤسسه وصاحبه طيب الذكر المرحوم الصديق الشاعر ميشيل حداد (أبو الاديب)، ثم صدر ديوانه الثاني الموسوم ” بطاقات البدء والنهاية ” في العام 1992. وكان الصديق الشاعر والكاتب عامر جنداوي قد كتب متابعة نقدية عنه في مجلة “الشرق” لصاحبها الأديب د. محمود عباسي.

موسى محمد حلف عانق نور الحياة في الخامس من نيسان العام 1959 في عرب الحلف، أنهى دراسته الثانوية بالكلية الأرثوذكسية بحيفا، والأكاديمية بدار المعلمين العرب في حيفا، ثم اشتغل معلمًا فمفتشًا للغة العربية بلواء الشمال، وحصل في العام 2017 على لقب المفتش المتميز من قبل وزارة التربية والتعليم.

ومنذ صغره شغف موسى بالمطالعة وقراءة الكتب، عشق الحرف والكلمة ولغة الضاد، وكان ميالًا للشعر وكتابته، امتلك موهبة حقة، وكانت البذرة صالحة، لكنه اختفى وغاب عن ساحة الأدب والإبداع، ولا ادري اذا كان ما زال يكتب، أم ان هاجس الشعر قد تركه، فمنذ فترة طويلة لم اقرأ له.

عرف موسى كصاحب الكلمات الملحنة المغناة، منها أغنية ” الموج الأزرق ” التي لحنها الفنان طه ياسين وأداها المطرب خليل أبو نقولا، وأغنية ” ناطرك على العين سهران ” للكرملي سمير أبو فارس، وهي ايضًا من الحان طه ياسين، وسواها.

نشر موسى قصائده وأشعاره في عدد من الصحف والمجلات والدوريات الأدبية والمحلية، وكانت على مستوى راقٍ. وهو شاعر تموزي رومانسي حالم، وصوت رهيف شفيف، اتصف بالرقة والطلاوة وشفافية الروح، وصدق الحرف، وأناقة الكلمة، وجمال التعابير وسبك الكلمات وصياغتها. تنوعت مواضيعه واغراضه وموتيفاته، وقد تغنى بالحب والطبيعة والجمال، تغزل بالمرأة، وناجى الحبيبة، وخاطب أمه واهداها ديوانه الأول، وحاكى الوطن والطبيعة، وتحدث عن الحزن والسفر والترحال، وتألق في الغزل والوصف، واكثر من البوح الرهيف، واستخدام ضميري المتكلم والمخاطب (أنا) معتدًا ومعتزًا بنفسه، لدرجة أنه استهل ديوانه الشعري الثاني بالعزة والأنفة والشموخ، قائلًا:

أنا المدّ في عاصفات البحار

وموج سيرغي وصرح أشم

وقارب حب. اذا ما المحار

تغنى فاثلج صدر الخضم.

وموسى في قصائده يكثر من توظيف واستخدام التعابير الرومانسية، ذات الدلات والايحاءات المختلفة، كالزهر وحبات الندى والقمر والشمس والنجوم والبحر والسماء والمطر والخمائل والنرجس والغسق والغدير والحرير والعطر والنورس والاقحوان والجلنار والغار والجداول واللؤلؤ وغيرها الكثير.

ومن قصائده الأولى اخترت هذا النموذج. فيقول:

ويكبر حبي ليصبح مطرَا

وجئتك أحمل فوق جبيني

غارًا وحبًا

وأشفي جراح الشيوخ

وشوق اليتامى.

وامسح كل سهاد العذارى

ليكبر حبي ويصبح تبرًا

ويصبح أهلي.

فأرجع كل ليالي العتابا

ومن نافل القول أن قصائد ونصوص موسى حلف بمنتهى الجمال والروعة، فيها احساس مرهف، وخيال رومانسي مجنح، وبعد انساني، وروح وجدانية عميقة، وحسن اختيار للمفردة المعبرة العذبة المموسقة الأخاذة المدوزنة، وتأتي منسابة، متناغمة، متجانسة، بعيدة عن التكلف، سهلة ممتنعة وعفوية جدًا.

وكان الشاعر الناقد ا. د. فاروق مواسي قد تناول بالعرض والتحليل والنقد قصيدته ” أنفاس الظباء “، نشرها في كتابه ” قصيدة وشاعر “. وهي قصيدة غزلية وجدانية جميلة، وكما يقول عنها ” فيها أنفاس الشعر الصافي ورقة العاشق اللهفان، وتدل على حالة وجد يعبر عنها بصدق شعوري بعيد عن التكلف أو تركيب العبارات، أنه يتلاحم مع طبيعة بلاده، ويضفرها نجمًا لعينين أخاذتين، هي خلاصة الانتماء ومعنى الوفاء. وكل ذلك تأتي له في بحر ” الرمل. المشبع بالغنائية والشفافية، وخاصة إذا اندفعت فيه ألفاظ رقيقة وتكرارات مترددة بعذوبة، هذا التكرار الذي تساوق في القصيدة من معنى إلى معنى، لكنه المعنى الواحد في الصور المركبة “.

ولنسمعه يقول في هذه القصيدة الرائعة:

عندما يرسم طل الفجر

عينيك قصيدة.

ويغني لحنَهُ.

جدول في ناظريك

وشراع ينطوي.

في قاربي.

أسلب النجم. وأهديه

لعينيك وشاحا.

حين أرض. أنت فيها

ترتوي غيثا دقيقا

وندى.

يكبر الزيتون فيها

ويصير النرجس الفتان.

نارًا تتلظى.

في قلوب العاشقين

عندما ينقش عصفور

على خد الورود الحالمة.

حلما حرا. وشوقا غردا

وحبال النور فيها.

يكتوي ثلج السفوح الناعسة

أجمع الورد لنهديك غلاله.

كلما زينك الصمت جمالًا

وخيالًا جامحا.

يصبح الصمت صلاة

وطقوسًا. نزرع الدفء

على سمر الشفاه التائهة

عندما في السفح ينمو

“زعتر”

وتوشح.

نفسها الوديان بالعطر

الذي

ملأ السفح بأنفاس الظباء.

أكتب الشمس لعينيك

نشيدًا

كي يصير الصبح أحلى.

كي يصير الغيث رقراقـًا

جميلا.

كي يذيب النجم في عينيك

للكون قصيده.

وفي الاجمال، موسى حلف شاعر غنائي ايقاعي حساس، وصوت شعري دافئ عذب خلّاب في سمفونية الشعر الرومانسي، سرقته مهنة التفتيش، غاب عن الأنظار، لم ينتشر ويشتهر، وبقي في دائرة الظل، فخسره الشعر والابداع الصافي، فله أجمل واطيب الامنيات، مع محبتي وشوقي وتقديري، ونأمل أن نقرأ له نصوصًا جديدة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .