لولا زرقة الأمل والعينان الزرقاوان على غلاف الكتاب لجاء ديوان ” زرقة الأمل” * للشاعرة الشفاعمرية، علا عمر خطيب موشحا بالسواد، الدال على الحزن والغضب والقلق وتوجيه اصبع الاتهام، هي حياة سوداوية تعكس ما يمر على الشاعرة من تكون تلك المشاعر فهربت الى الشعر تبوح من خلاله عما تشعر به، والشعر كما هو معروف يتحسس ببروز الأنا الفردية من حيث تولد الأفكار وتنبع العواطف، وفي هذا يقول المعلم كمال جنبلاط ” الشعر هو شعر الداخل الباطن، لا الخارج، والموسيقى موسيقى الجنان لا الأنغام المسموعة والألحان”. والشاعر يكتب الشعر ليفهم نفسه أولا لا لكي يفهمه غيره، على حد تعبير الشاعر الإنجليزي سيسيل داي لويس، كما ورد في كتاب علي شلش “في عالم الشعر” (ص 7)، فكم بالحري عندما تكون شاعرة؟ فما الذي حمله لنا ديوان الشاعرة علا عمر خطيب ” زرقة الأمل”؟ هذا ما سأحاول تلمسه من خلال هذه المراجعة السريعة للديوان.
في هذه العجالة سأدخل الديوان من باطنه وليس ظاهره وأضع نفسي مكان الشاعرة لأحاول فهم ذاتي، فالشاعرة امرأة خرجت من تجربة الزواج في مجتمع شرقي وباتت بعرفه “مُطلّقة”، اذن هي وضعت في قالب معروف، وهي أم معيلة وحيدة، أمامها تحديات كثيرة وهي امرأة متعلمة وعاملة تخوض صراعات طبقية واجتماعية متعددة. ولأنها امرأة مثقفة ومطلعة وشاعرة، فهي تدرك وضعها وتتخذ قرارها الحاسم، بعدم الاستسلام لهذا الواقع الذي يحيط بها، وتعلن قصيدة” لن أستسلم”، رغم المعاناة الشخصية التي تصورها في مطلع القصيدة.
” حتى لو هجرت روحي الابتسامة
ومزّقتني الذكريات..
بعثرني الشّوق للمجهول..
ورفضت الدموع أن تهاجر..
لن أستسلم” (ص 24)
ولأن حياتها كامرأة شرقية ليست سهلة فهي تجد نفسها في وضع “المنتصف” بين الموت والحياة، وضع صعب بين اللا موت واللا حياة، كما عبرت عنه في قصيدة “المنتصف” ص 30. وكذلك في مسألة الاشتياق تقف في المنتصف فهي تقبل وتحجم، تشتاق للحبيب لكن كرامتها لا تسمح لها بالتنازل:
” أعرف أنك الماء..
وأهرب للتيمم” ص 43
لكن المرأة العاشقة ملت وضعها البين بين وتبحث عن حل مقنع، في قصيدة “المنتصف المميت” تولد من جديد، لكنها تموت بالتدريج وكل شيء معلق بين السماء والأرض:
” كأن الحزن عانق الفرح
ذلك المنتصف المميت
يبعثرها ويجمعها” (ص 83-84)
وهي تلخص وضعها الذي أدى بها الى الوحدة، بعدما كان خيال انسان معها وكأنه لم يكن، لذا لم يختلف في حياتها سوى شكل الوحدة:
” اختلفت وحدتي
أصبحت حياة..” ص 86
فما هي علاقة الشاعرة بالحبيب؟ هي علاقة مرارة وخيبات أمل. وعبرت عن ذلك في قصيدة ” طين” (ص 44-45) عندما تركته يشكلها كما يشاء كما يفعل الطفل بقطعة الطين، لكن عندما جف حنانه انكسرت وتلاشت. وهذا الوضع ينعكس في وحدتها القاتلة بعدما عرفت الحب في قصيدة” زوار الليل” (ص 48-49).
وتطلب منه في قصيدة ” ساعدني” (ص 53) أن يكون قريبا منها، ولكن لكي ” ساعدني أن لا أحبك أكثر”، وهذا يذكرنا بالشاعر نزار قباني في قصيدته ” رسالة من تحت الماء”، حين تطلب الحبيبة من حبيبها طلبا مشابها.
لكن الحبيبة لا تيأس من محاولاتها، وتأمل أن ينضج الحبيب ليصبح صالحا للحب في قصيدة ” صالح للحب” كما تقول في خاتمتها:
” أنتظرك لتكبر ذات مساء
ترمي قيودك بعيدا
وتصبح صالحا للحب..” (ص 55-57)
وأمام الأمل الخائب تبقى الحبيبة تتأرجح إلى أن لا تعود تؤمن بالحب:
” لقد مات قلبها
أصبح داخلها جليد” ص 69
فهل حقا كذلك؟ أشك في الأمر، خاصة أن الشاعرة لجأت الى الضمير الغائب في هذه القصيدة وليس ضمير المتكلم كما كان الأمر عليه من قبل.
لكن الحب يبقى الهاجس الأكبر عندها، وأمام خيبات الأمل المتعاقبة لا تجد الحب إلاّ عند حبيب يحبها دون غاية أو غرض، وهذا ما تكشفه لنا في آخر قصيدة من الديوان:
” إنه الله..
الله اللّا محدود
فهو يحبني
يحبني كثيرا” (ص 110)
وهذا هو الحب الصوفي، الحب الحقيقي بالنسبة لها.
ونعود للقضايا الأخرى التي تشغل بال الشاعرة/ المرأة الحاملة لهموم كثيرة كما أشرت في مطلع المقالة، وهي ترى نفسها “فقاعة هموم” لا يبقى منها الا الفتات (ص 12). وفي هذا الواقع الأليم تطلق صرخة احتجاجية في تعامل الرجل الشرقي مع المرأة في قصيدة “شرقي المظلم”:
” لماذا في شرقي المظلم
تُغتالُ النساء مرتين
بعيني رجل ينتهك تفاصيلها
وبيد أخرى يغتصبها
لماذا…؟” (ص 78)
والمؤلم أكثر نظرة المجتمع الشرقي الذكوري للمرأة المطلقة، وهذا ما تطرحه شاعرتنا في قصيدة ” قطعة حلوى”، فالرجل الشرقي يسأل عنها لغاية في نفسه وهي تعلم ذلك، لكنها تتوق لأن يشعر بها أحد بصدق وتنتظر، كمن ينتظر “غودو”:
” من يفهم أحرف كلمتها
ب – خـ – يـ – ر..” (ص88)
وتواصل انتقادها للرجل الشرقي ونظرته الخاطئة للحب، الكامنة في رغبته بامتلاك الحبيب حتى لو بالقوة، في قصيدة “رجع الوجع”:
” آثار أصابعه على جسدي
يده الهمجية
أغلاله على روحي
تمزقني بلا رحمة ” (ص 89)
وقضية أخرى تتعرض لها الشاعرة علا خطيب بالنقد، هي الفتاوى الغريبة حول الحجاب. حيث تؤكد في قصيدة ” غواية” موقفها الرافض للحجاب، رغم مجاراتها للرجل بالقبول كي تثبت له أن الغواية ليست في اللباس أو العري، بل في العيون وأن الحارس الوحيد للبنت هو الأخلاق:
” لا حجاب ولا قناع..
لا يحميها إلاّ أخلاقها
صدقها مع نفسها” (ص 103)
ديوان “زرقة الأمل” لشاعرتنا الموهوبة علا خطيب، يحمل عدة قضايا اجتماعية تتمحور حول المرأة في المجتمع الشرقي، وهي تطبق من خلاله وبجرأة متناهية مقولة الشاعر الفرنسي جان كوكتو، بأن “دور الشعر أنه يكشف ويعري بكل معنى الكلمة”، وهذا ما فعلته شاعرتنا حين أماطت اللثام عن كثير من الزيف والتشويه في مجتمعنا بكل معنى الكلمة، وخاصة في أسمى علاقة إنسانية رفيعة وهي الحب.
كل التقدير لشاعرتنا علا خطيب على اصدار ديوانها الثاني “زرقة الأمل”، على أمل أن تتحفنا بمزيد من نتاجها الشعري الرقيق والسامي، الحامل لنا التفاؤل والأمل حقا.
- زرقة الأمل، مكتبة كل شيء – حيفا، 2019