-1-
كثيرٌ من اللغة العربيَّة قائمٌ على عاملين، لا يعيهما كثير من الناس، أو لا يقدرونهما حقَّ قدرهما، هما: الإيجاز، والمجاز، وكلاهما قائمٌ على عدد من الآليَّات، من أبرزها: عامل الحذف، الذي يندرج ضمن ما يُطلَق عليه بالمصطلح الحديث: الفراغ النَّصِّي، والذي قال فيه (عبدالقاهر الجرجاني)(1): «هو بابٌ دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيهٌ بالسِّحر، فإنك ترى به ترك الذِّكر أفصح من الذِّكر، والصمت عن الإفادة أَزْيَد للإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تنطق، وأتمَّ ما تكون بيانًا إذا لم تُبِن. وهذه جملةٌ قد تُنكرها حتى تَخْبُر، وتَدفعها حتى تَنظُر.» وكثيرًا ما يقع بسبب هذين العاملَين التأويل البعيد، أو تخطيء المتحدِّث أو الكاتب. ذلك أن مِن الناس مَن إذا لم تأته الجملةُ كاملة، بأفعالها وأسمائها وأحوالها وصفاتها، ارتبكَ عقله، فذهب إلى الخطأ في فهمه، أو إلى تخطئة غيره. فإنْ أَردفَ ذلك شغفٌ بالتنطُّع اللغوي، رأيت هنالك العجب العجاب!
لإيضاح المسألة نسوق مثالًا دارجًا، تتكرَّر كلَّ عامٍ تخطئةُ استعماله. هو تبادل الناس التهنئة بعبارة «كلُّ عامٍ وأنتم بخير!». إذ يهبُّ في وجهك بعض فقهاء اللغة قائلين: ما هذه الواو؟ يجب القول: «كلُّ عامٍ أنتم بخير!». ولو كانت العربيَّة في الصوغ والإفهام على هذا النحو السطحي العقيم، ما كانت ذات بلاغة، بل ما كان فيها شِعرٌ قط، ولا كنايات، ولا أمثال، ولا خطابة، ولا أساليب تعبيريَّة ملتبسة، تومض بالمعاني إيماضًا، وتتطلَّب التخريج ومراجعة الدلالات والقراءات. ومَن أَنِسَ بكلام العرب، وعرف أساليبها، وخَبِر تنوُّعها، لم يستشكل مثل تلك العبارة، ولا شكَّ في صحَّتها، كما لن يغفل عن مقدار الفساد الذي يلحقها بحذف واوها. ذلك أنها عبارة قائمة على إيجاز الحذف، محتملةً تقديرات، كلها صحيحة سليمة، ولها نظائر من كلام الفصحاء، وبلا حصر. من ذلك أن يكون التقدير، ببساطة: «[ليأتِ] كلُّ عامٍ [بخير] وأنتم بخير». ولو قلنا: «[ليأتِ] كلُّ عامٍ وأنتم بخير»- على أن كلمة «أنتم» معطوفة على «كلّ عام»- لصحَّ. أو يمكن أن يكون التقدير «ليعود عليكم كلُّ عامٍ وأنتم بخير»؛ فتكون الواو حاليَّة من فعلٍ محذوفٍ مفهومٍ من السياق.
وهكذا يتضح أن مَن يخطِّئ مثل هذا التعبير إنما ينتظر أن يتخلَّى له الناس عن لغتهم، فيسوقون الجُمل مرهَّلةً بالتفصيل والشرح، وإلَّا فإن صاحبنا لن يفهم، وسيحكِّم عجزه عن الاستيعاب، أو يسخِّر مبادئه اللغويَّة الأوَّليَّة الساذجة في تخطئة خلق الله، والتعالُم عليهم، والتظاهر بالغيرة على سلامة اللغة؛ فإذا هو ينظمُّ إلى حزب (قُلْ، ولا تقُلْ)، بباطلٍ أو بحق! وما كذلك لغة الضاد. وما خلا العربُ بعدُ- حتى في عاميَّتهم- من السليقة الأصيلة في التعبير، ولا من سُنن العربيَّة الأولى، التي لا تُحصَّل بعلم النحو المدرسي الجامد، أو علم اللغة الشكلاني البارد- اللذين يحفظ أربابهما شيئًا وتغيب عنهم أشياء- ولكنها تُحصَّل بمعاقرة النصوص من كلام العرب، وتُكتسب من أدبهم، وبالاستعمال اللغوي الفطري السليم.
هذا، وإن النحو قد يغدو مضلَّة اللغة السليمة، حتى لدى النحاة أنفسهم. فكم من نحويٍّ لا يُحسِن العربيَّة إذا استعملها! وكم منهم من تُوقِعه قواعده النظريَّة في الاضطراب التطبيقي واللبس الصياغي!(2) وأنت إذا قرأت قواعدهم في مسائل بدهية- أَلِفْتَها منذ الطفولة، ودرجتَ على التعبير السليم فيها بلا خطأ- أخذتَ تتردَّد، وتتلعثم، وتتلجلج، مستحضِرًا تشقيقاتهم التي طفِقت منذ القرن الثاني الهجري ويبدو أنها لن تنتهي إلى أن يُنفخ في الصُّور! ذلك أنهم أسرفوا في اصطناع ما لا حاجة إليه من التقعيدات المتناسلة. ولو أنهم اقتصروا على الضروري منها، وتركوا سائرها لاكتساب المتعلِّم تلقائيًّا من خلال النصوص، لكفى ذلك المتعلِّمَ مؤونة الوقت والجهد في ما لا جدوى منه، بل ما ضرره أظهر من نفعه أحيانًا. ويظل الداء المزمن في هذا الميدان تحوُّل النحو العربي إلى تنظيرٍ بلا تطبيق وقواعد رياضيَّة بلا تربية نصوصيَّة.
-2-
أمَّا الأدب، فيزيد على خصائص البلاغة اللغويَّة خاصيَّةَ التعدُّد الضروري في المعاني. وفي ذلك سِرٌّ من أسرار التعبير الفنِّي، ولاسيما في الشِّعر، يجهله غير الشُّعراء، أو حذَقة النقد. نضرب على هذا مثالًا: فلقد عيب قديمًا على الراجز (العَجَّاج) قوله: «وفاحِمًا ومَرْسِنًا مُسَرَّجًا»؛ لتعدُّد معنى «مُسَرَّجًا»: تُرى أهو من «السُّرَيْجِيّ»، المنسوب إلى رجلٍ اسمه سُرَيْج، كان يصنع السيوف، يريد: أنه مستوٍ كالسيف السُّرَيْجِيّ؟ أم بمعنى: «مُشرِق»، كالسِّراج؟ وقد ترى أن هذا هو الوجه المُرَجَّح؛ لأن البيت في سياق وصف جمال المرأة، حيث قال العَجَّاج:
ومُقلَةً وحاجِبًا مُزَجَّجا
وفاحِمًا ومَرسِنًا مُسَرَّجا(3)
فأراد تصوير التقابل اللونيّ بين شَعر المرأة الفاحم ووجهها المشرق، معبِّرًا عن الأخير بالمَرْسِن، وهو أرنبة الأنف. لكن المعنى الأوَّل واردٌ كذلك. إلَّا أن أصحابنا البلاغيين عابوا الرجل في الفصاحة للَّبس في معنى صفة «مُسَرَّج» هذه، وأرهقهم التأمُّل فيها طويلًا، وانشغلوا وأشغلوا، وحَشَوا مجلدات كتبهم بالسهر جرَّاء عجاج العَجَّاج والاختصام فيه.
هنا يصبح معنى «الفصاحة»: الوضوح المطلَق، وواحديَّة المعنى. وهنا تصبح «الفصاحة» بضِدِّ «البلاغة»! والحقُّ أن لا عيب في الكلمة فصاحةً، ثمَّ هي- شِعرًا- من طبيعة التعبير الشِّعريِّ تمامًا، بمعنيَيها المحتملَين كليهما. غير أن البلاغة العربيَّة ظلَّت نافرةً من التباس الكلام، فضلًا عن الغموض فيه. لأنها- ببساطة- تقيس الشِّعر بمقاييس الخطابة، ولغةَ التأثير بلغة التفكير! وتلكم النكبة البلاغيَّة التي واجهها (أبو تمَّام) وأضرابه وأحفاده مع هؤلاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (2004)، دلائل الإعجاز، باعتناء: محمود محمَّد شاكر (القاهرة: مكتبة الخانجي)، 146.
(2) انظر، مثلًا، كيف تناقَضَ صاحب كتاب «النحو الوافي»، (مصر: دار المعارف، 1974)- ربما لخطأ طباعي- بين قوله، (1: 281): «وإنْ كانت [ياء المتكلِّم] منصوبة بالحرف (لعل) جاز الأمران [=حذف نون الوقاية أو إثباتها]، والأكثر حذف النون»، وقوله (1: 283): «فإنْ كان الحرف الناسخ هو (لعل) جاز الأمران، والأفصح الإثبات!». أي أن الأفصح أن نقول: «لعلَّني»! وهذا بنقيض الصواب، وإنما الصواب أن حذف نون الوقاية هو الأكثر الأفصح بعد (لعل): «لعلِّي». وهو أمر يعرفه كلُّ طفل حفظ بعض آيات القرآن أو تلقَّاها. غير أن «المتنحوي» قد يقع على هذه العبارة الخاطئة في كتاب النحو «الوافي» فيظنها صوابًا، ثمَّ يذهب إلى تطبيقها، والدعوة إليها، والإلزام بها، غافلًا عن النصوص والاستعمال الفعلي للغة، وهما بضِدِّها.
(3) انظر: العجَّاج، (1971)، ديوانه، رواية الأصمعيّ وشرحه، تحقيق: عبدالحفيظ السطلي (دمشق: المطبعة التعاونيَّة)، 2: 33؛ الخطيب القزويني، (2003)، الإيضاح في علوم البلاغة، باعتناء: إبراهيم شمس الدِّين (بيروت: دار الكُتب العلميّة)، 14.