رحى يوم المرأة ـ قصة قصيرة بقلم: ميسون أسدي

استيقظت هذا الصباح، على صوت زقزقة العصافير وقد شق نور الشمس الدافئ في آذار الممطر والذي كان قارسًا على غير عادته فاستبشرت بأنّه ينتظرني نهار جميل مع هذه الزقزقة المنعشة للروح والقلب، تبسّمت في وجه النسيم الذي داعب شعري. وأوّل ما خطر على بالي، هو أن أذهب إلى البحر لأتمشّى على الشاطئ واستنشق عبير هواء البحر، وجبت الغرفة عدة مرات جيئة وذهابا، ولكنّ الطقس ما زال باردًا في ساعات صباحي الأولى رغم إطلالة الشمس الخجولة، فأمسكت كتاب “رحى الحرب” للكاتب الروسي قسطنطين سيمونوف، وطالتني الشمس وأنا منهمكة بالقراءة فقرّرت أن أعمل استراحة مع فنجان قهوة على شرفتي في مدينة حيفا.

****

ما أسهل ان تقتنص الأفكار شخصًا حالمًا مثلي، وتنكأ جرحه، فبدأت التساؤل بيني وبين نفسي: يا إلهي، يا للعجب، البارحة كان الثامن من آذار يوم المرأة العالمي، والكل تغنّى وتغزّل بالمرأة وما تعطيه للإنسانية جمعاء. عملت البارحة بقوتي الجسدية والنفسية فنظفت الحديقة حول بيتي وسافرت مدّة ساعتين في السيارة لأغرس شجرتي أفوكادو في أرض أبي التي صادر معظمها حكومة إسرائيل وبقيت قطعة صغيرة نحميها برموش العين خوفّا من ان تلحق بأخواتها التي صودرت.

****

تعبت وشقيت كما في كلّ أيّام السنة، لم يكن عيدًا بالنسبة لي كما هو مقدّرًا لباقي نساء العالم. والأنكى من ذلك، أنّني لم أجد من حولي أحدًا يشد على يدي ويؤازرني في مثل هذا اليوم ويثمن عطائي وجهدي لبيتي وأهلي وجيراني وبلدي وشعبي.  فأنا امّ معطاء لا تغلق كفّ يدها، فأحسست بالدمع يطلع لي. أخذت أفكّر، لماذا أنا من المنسيين دائمًا. لِما لا يكيل بصاعي أحد؟ الست كباقي النساء؟ ألم تحمل بي أمي تسعة أشهر؟ دارت حرب ضروس مع نفسي، وكل ما يعتمل في النفوس من ضراوات ودناءات. أقاتل هذا وأحارب ذاك وفتحت جبهات على روحي ونارًا استعرت في صدري ولم أخرج منها، إلا عندما عدت وغصت بكتاب “رحى الحرب” فعشت حالة الحصار النازي لمدينة ستالينغراد البطلة وانغمست في معاناة الحرب وهمجيتها ولم يقطع تلذّذي بالقراءة إلا حين جاءني هاتف من امرأة في عمري تخطت عامها الخمسين من مدّة وهي أرملة ترفرف في عالم الحرية وسألتني:

  • ما هو برنامجك لهذا المساء؟

فسألتها بطريقة تكيّف جوابي حسب كيفي:

  • لماذا تسألين؟
  • سأدعوك انت وصديقة أخرى لنتعشّى في مدينة عكا، تكريمًا لثلاثتنا بمناسبة يوم المرأة، لأنّنا ثلاثتنا نستأهل التكريم على وجبة عشاء والثناء لأنفسنا على دورنا كنساء و، و، و…

خيّم سكون لا يعكره إلا حفيف نفس وروح الصديقة عبر الهاتف. لم أستوعب ما قالته لي في بادئ الأمر، فهي امرأة أرملة متديّنة جدًّا وبعكسي تمامًا، والقواسم المشتركة بيننا قليلة، والصديقة الثالثة المدعوّة هي من كوكب آخر غير كوكبنا، شابّة تصغرنا سنًّا، مطلقة وتبحر في بحار بعيدة عن بحارنا. والاثنتان بحارهما لا تلتقي مع بحاري، فكل منّا تغنّي على ليلاها، وتجمعنا فقط الوحدة النفسية، وعدم التقدير لنا كنساء، بل والاستخفاف بنا حقيقة، ونحنّ على من يمنحنا ولو نصف ابتسامة.

فكّرت قليلًا وقلت لروحي: يا إلهي، يضع قوته في أضعف خلقه، وصحيح من قال “يأتيك بالأخبار من لم تزود” فأجبتها بكلّ محبّة:

  • شكرًا جزيلًا أيّتها العزيزة، أُثمّن ما تقومين به عاليًا إنّك تفرشين لي عشًّا من القطن وكأنّي فرخ طير، ولكنّنا لسنا بحاجة إلى عشاء، يمكنكما زيارتي في بيتي أو بيتك ونقضي سهرة ممتعة معًا.

اجابت بلهفة:

  • أودّ أن نكرّم أنفسنا، من واجب الانسان إلا يتقهقر أمام أعمال الخير التي يستطيع الاضطلاع بها. فنحن أمّهات ومتطوّعات وخدومات للمجتمع. انّه احساس يرفع منزلة الذات. أعطيني فرصة لأنفّذ ما خططت له!

وابتسمت ابتسامة متأمّلة وأجبت:

  • ولكنّك فقيرة الحال ومعدمة وأنا لا أريدك أن تبذري فلسًا علينا.

قالت بصوت كالحشرجة:

  • أودّ ذلك من كل قلبي وما سأقدّمه هو أهون الهيّنات.

ضحكتْ ضحكة خجلة، ضحكة تخبّئ بين طياتها امرأة طيّبة تطيب لها الحياة ثمّ أردفت قائلة:

  • صحيح أنا فقيرة من بيت فقير، لكنّني مثل أمّي التي رحلت عن العالم منذ عشرين عامًا، وما زال الناس في بلدي يذكرونها جيّدًا بسبب طيبتها وتعاملها مع الجيران. اعتادت أمّي أن تقدّم الهدايا البسيطة لأصدقائها، فقد كانت تحمل ربطة العلت وربطة الخبيزة وحزمة البصل والزعتر والشومر وكل ما تقطفه من خيرات الأرض التي لا تكلفها غير مجهودها، وتقدّمها هدايا لمن حولها. نالت التقدير والاعجاب على فعلها هذا بسبب ما استطاعت تقديمه، وأنا ايتها الصديقة مثل أمّي.

تنهّدت من أعماقي واعترفت لها:

  • يا إلهي ما أجمل كلامك الذي يمسّ شغاف القلب وما أجمل ما تقدمينه… بالمناسبة، ما اسم أمّك؟
  • أمي هي أمّون الماميش؟ وهي من بلدة صفورية، وسكن أهلي في بلدكم دير الأسد بعد أن شردوا من أراضيهم أيّام النكبة… آنذاك، ذاقوا المر. لا أريد أن أطيل عليك بقصص التاريخ، قولي لي باختصار، هل ستلبين الدعوة أم لا؟
  • سألبي الدعوة لعيونك وعيون أمّك أمّون الماميش. وشكرًا لك من أعماق قلبي.

اضافت وهي تضحك في عبّها:

  • ولا شكّ أنّ أمّي في قبرها تباركني على خطوتي هذه!
  • ما تقولينه صحيح، فانّ الحبّ والعطاء يحوّل وحش البر حَمَلًا والملاك شيطانا.

انحلّ ما كان من عزمها وحزمها ومالت إلى المزاح وقالت بصوت ضحوك:

  • حسنًا، الآن سأسافر إلى البلدة المجاورة لأشتري ثلاث هدايا، لكل واحدة منّا هديّة، فإذا لم يذكرنا أحد في يوم المرأة، نحن سنذكر بعضنا البعض أليس كذلك؟

أدهشتني هذه السيّدة وتلعثمت الكلمات بين شفاهي وضاعت خلف لساني. أطلقت تنهيدة عميقة إلا أن تمالكت نفسي ونطقت بالكلمات:

  • وهو كذلك، ما أروعك يا صديقتي، أنت تفاجئينني كلّ مرّة من جديد.

****

أعتقد أن ما جال في خاطري هذا الصباح قد وصل إلى أمّها أمّون الماميش في قبرها، وتلك القديسة بدورها نقلته إلى ابنتها، ومن ثمّ خطّطت الابنة لهذا اليوم الجميل كي تسعدني وتسعد سيّدة أخرى واقعة بين شِقي الرَّحى، ولنطلّق هموم الحياة ومتاعبها ونسعد ثلاثتنا معًا…

جهّزت بدوري ثلاث هدايا خاصّة لأقدمها في هذا اللقاء المفاجئ وغير المتوقع، لنرتوي من ثمالة الحياة.

عدت إلى كتاب “رحى الحرب” وقد تغيّرت رؤيتي للنص، فقد أصبحت أرى الأمل حتّى في قمّة المأساة، وأصبحت أرى القتل والدماء، ما هي إلا بارقة أمل نحو يوم سعيد قادم، وكما انتصر المحاصرون في ستالينغراد، حتما ستنتصر المرأة، وما الحرب إلا سجال، كرٌ وفرٌ…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .