صدرت الطبعة الثانية من كتاب ” حصاد العمر”، الذي يروي مذكرات الأديبة الفلسطينية الابطنية الحيفاوية سعاد قرمان، التي تضيء الشمعة الثانية والتسعين من عمرها المديد وحياتها العريضة، وما زالت بكامل حيويتها وعافيتها، وفي أوج العطاء الثقافي والابداعي، ولم تتوقف عن الكتابة والمشاركة في الأمسيات والندوات والحلقات الأدبية والثقافية.
سعاد قرمان شاعرة وكاتبة عريقة مخضرمة
تقطن قرية ” ابطن ” قضاء حيفا، وتعيش في بيتها الريفي الفلسطيني الوادع المحاط بحديقة غنّاء مليئة بالورود والزهور والأشجار المثمرة. وهي امرأة فولاذية، عصامية، مهندمة، أنيقة المظهر، شفافة الروح، قارئة مميزة، مثقفة من طراز رفيع، وتملك حسًا وطنيًا عاليًا.
ولدت سعاد في عروس حيفا العام ١٩٢٧، والدها التاجر المعروف عبد الرؤوف قرمان، أحد وجهاء المدينة، انتقلت مع أسرتها للعيش في قرية ” ابطن “. أنهت دراستها الثانوية في راهبات الناصرة، وحصلت على شهادة البكالوريوس باللغة الانجليزية وموضوع التربية من كلية ” اورنيم “، عملت في مجال الصحافة كمحررة لزاوية المرأة في صحيفة ” اليوم “، وفي التلفزيون، واشتغلت كمعلمة للغة الانجليزية واللغة العربية والدين الاسلامي بمدرسة ابطن الابتدائية حتى مستهل التسعينيات، حيث قدمت استقالتها من سلك التدريس.
وهي من مؤسسي رابطة الكتاب الفلسطينيين العام ١٩٨٠، وانتخبت كرئيسة للهيئة الادارية لمسرح الميدان لمدة خمس سنوات.
تكتب الشعر والنثر، وتتراوح قصائدها بين العمودية والتفعيلة، ونشرت كتاباتها في العديد من الصحف والمجلات الادبية والثقافية، صدر لها في الشعر: ” حنين الهزار ١٩٩٥، وعريشة الياسمين ١٩٩٧، بالإضافة الى كتاب مذكراتها “حصاد العمر” ٢٠٠٨.
ما يميز نصوص سعاد قرمان الشعرية والنثرية نزعتها الانسانية الوجدانية، وهي مشحونة بعاطفة قوية صادقة، مغموسة بالوجدان، ثائرة على الظلم، متمردة على الطغيان، موسومة بطابع الوصف العام، والطبيعة في شعرها تتحول الى لوحات فنية تتجسد فيها ملامح الجمال الناطق، ويتحول الغزل الى لواعج قلبية تجسد ما يمور في الأعماق من احاسيس، وتنطق ما يعتمل في النفس من انفعالات جياشة، وهكذا مع بقية موضوعاتها وأغراضها الشعرية.
وقصائدها مغلفة بألفاظ سهلة وتراكيب تتسم بالقوة والجزالة، والاستعارات والايحاءات، والصور الشعرية الخلّابة.
ولنقرأ هذا النموذج من شعرها، حيث تقول:
محزونةُ يا ليلُ لا تزرع سوادَكَ في دمي
دعْ فيه لونَ الأرجوان ، وضَعْ بريق الأنجمِ
واترك لقلبي خفقة الأمل الخفي المُبهَمِ
واجعل هدوءك بلسمًا للروح، احلى بلسمِ!
أهفو إليكَ كتوأمٍ يسعى للُقيا التوأم
واحنّ للظلماء تخفي حسرتي وتألمي
فتلفني بغلالةٍ .. وتضمني بتكتّم
وتبثّ في جسدي ارتياحًا بعد طول تبرّم
فأسرح الشوق الدفينَ من الفؤادِ المُفعمِ
وأعود يا ليلَ التأملِ للهدوءِ الملهمِ
وأفيض في بثي إلى الاحبابِ سرّ تألمي
فأنِرْ إلهي دربَهم مِن كل ّ جهلٍ مظلمِ
وأعِدْهُم لي سالمينَ .. مكللين بمغنمِ
وفي مذكراتها تكتب عن حيفاها وحنينها اليها بأسلوب أدبي شعري غاية في الروعة والجمال والرقة، فتقول:
” يأخذني الحنين إليها، أتنسم كرملها مشبعًا بأريج الصّنوبر وعبق التراب، وقد ارتوى بمطر تشرين بعد ظمأ صيف طويل، أرمق الأشجار وقد اغتسلت وتمايلت أغصانها، تسبّح مهلّلة لموسم جديد، يكتنفها غمام ضباب بحنو عليها، ويحجب عنها أشعّة شمس تحاول جاهدة إرسال حرارتها في وداع اخير، انحدر مع سفحها نحو الشاطئ. يحيط بها في عناق سرمديّ، أمواجه تتلاطم متراقصة بين غزو وارتداد، تداعب الرّمال، تجرفها ثمّ تعيدها وقد برد لظاها، وتطايرت رذاذًّا ناعمًا مع الأمواج العابثة، تلطف الجوّ وتبعث فيه ألحانها الهادرة، متواصلة تتغلغل في الفضاء، تخدّر الأعصاب وتغسل عن الرّوح متاعب الحياة “.
سعاد قرمان قيمة وقامة أديبة لها دورها الفاعل وحضورها الساطع واسهامها المتواصل في المشهد الثقافي وحياتنا الأدبية، وفي كتاباتها تضيء جوانب معتمة من الحياة، فلها الف تحية وباقات ورد، وتمنياتنا لها بالصحة والعافية ودوام العطاء والابداع .