حين هاتفني الدكتور محمّد حمد يسألني رغبتي المشاركة في أمسية إشهار مجموعته القصصيّة الأولى “غيبة الغنمة”، التي يُنظّمها قسم اللّغة العربيّة وآدابها في كلّيّة القاسمي، قال جملة طمأنتني وأسعدتني. وهي، على ما أذكر: سأكون سعيدًا بسماع كلّ الملاحظات التي تُقال. والحقيقة أنّني لم أستغرب ذلك بحكم معرفتي بكون الدكتور محمد باحثًا أكاديميًّا جادًّا، يرغب في التّطوّر، ويتقبّل النّقد برحابة صدر وتفهّم واحترام. ممّا يؤكّد بالتّالي، أن ليس غايته من تنظيم هذه الأمسية سماع المدائح والمجاملات وكلمات التّهليل والتّكريم، بقدر رغبته الحقيقيّة في سماع النّقد الصّادق البنّاء.
إلى المجموعة:
تتكوّن مجموعة محمّد حمد القصصيّة “غيبة الغنمة” من ستّ عشرة قصّة تتفاوت من حيث الحجم، وفي اقترابها وابتعادها عن المبنى التّقليديّ- الهرميّ للقصّة القصيرة. وأوّل ما يُلاحظه قارئ قصص المجموعة هو عدم التزام الكاتب بمنهجيّة محدّدة في كتابة القصّة. إذ كان يُغيّر في أسلوبه من قصّة إلى أخرى. أمّا نجاح الكاتب في هذه القصص، فقد تراوح بين المدّ والجزر، شكلاً ومضمونًا.
في قصّتة الأولى “مقصّات وسكاكين في الذّاكرة” والتي تمتدّ على ثماني وعشرين صفحة، ينقلنا الكاتب إلى جوّ قرانا في الخمسينات والسّتينات، وتحديدًا قرية عيلوط، حيث الحياة ببساطتها وعفويّتها وما يتخلّلها من قصص الحبّ المعروفة والتي تلمع شرارتها الأولى عند نبع الماء. فمحمود الكبش، بطل القصّة، يحبّ وردة ابنة قريته وهي تبادله الحبّ أيضًا.
وأكثر ما يسترعي انتباه قارئ هذه القصّة هو هذا الاهتمام من قِبل الكاتب بتسليط الأضواء على كلّ جوانب الشّخصيّة، مُستخدمًا تقنيّة الوصف بشكل لافت، قاصدًا جعل الوصف الخارجيّ معبّرًا عمّا يريد أن يستشفّه القارئ من خلاله عن هذه الشّخصيّة. وهو وصف، على الرّغم من كونه مُبالغًا به، خفيف على القلب وباعث للبسمة. فمحمود “شاب أمضى من السّيف إذا امتشق من غمده، لدرجة أنّه إن أمسك بشجرة، يكاد يقتلعها من جذورها، وبإمكانه لوحده مطاردة عجل شارد من القطيع، فلا ينفكّ عنه حتّى يمسكه من ذيله، كمن يمسك صوصًا ابن يومين”. وهو حين يمشي يظهر وكأنّه “قارب سباق يشقّ العباب بصدره الممتلئ، في نهر متدفّق التيّار، يستعين في تدفّقه بعضلات مفتولة أشبه بحبال سفن عملاقة، وجسم رياضيّ يكاد يكون لأطلس أو هرقل”.
محمود القويّ، الفائض رجولة، والذي تتمنّاه كلّ فتيات القرية عريسًا لهنّ، هذه الصّورة التي ارتسمت في ذهن القارئ، سرعان ما تنهار في ليلة الدّخلة حين نكتشف أنّ محمود عاجز جنسيًّا. فيكون للمفاجأة وقعها العميق على القارئ العربيّ الشّرقيّ الذي كان قد بنى توقّعاته بحسب ما تُمليه عليه العقليّة الذّكوريّة في إحالة كلّ عيب جسديّ أو تقصير جنسيّ إلى المرأة. فينجح الكاتب في كسر توقّعاته وإحداث الصّدمة مكرّسًا أسلوب الوصف لتحقيق هذه الغاية. وفي حين ينجح الكاتب في ترك القارئ غارقًا في دهشته، نجده غير مقنع في وصفه لوردة، التي تُمثّل في هذه الحالة الفتاة العربيّة، حين صوّرها في ليلة الدّخلة غارقة في نشوة الأحاسيس والجسد. هذا التّصوير الذي يتناقض والصّورة المتعارف عليها والحقيقيّة للفتاة العربيّة وما تتّسم به من خجل وحياء في ليلة زفافها. يقول: “كانت غائبة في لا وعي النّشوة، سابحة في ملكوت ذائبيّة الحواس وفوضى معزوفة الأصابع، غارقة في استشعار الشّفاه المحمومة وهي ترسم على امتداد جغرافيا الجسد خرائط للقبل وتضاريس للتحسّس”.
على مستوى المضمون لم يأت الكاتب في هذه القصّة بالجديد المميّز، ولكنّه نعم نجح في توظيف أسلوب الوصف لإحداث الصّدمة وقلب المُتعارف عليه والثّابت والمترسّخ في عقليّة القارئ أو المتلقّي العربيّ حين جعل “محمود”- الرّجل عاجزًا جنسيًّا، بينما وردة- المرأة هي القادرة وهي المبادرة والفاعلة.
وبرأينا، كانت القصّة ستكون أجمل لو أنّ الكاتب استغنى عن الصّفحات السّت الأخيرة وأنهى القصّة في لحظة كشف عجز محمود، تاركًا للقارئ مهمّة تكهّن الأسباب.
قارئ قصص المجموعة يشهد هذا الاختلاف الحادّ في أسلوب الكاتب من قصّة إلى أخرى، كما ذكرنا سابقًا. وإن كان هذا التّنوّع في الأسلوب، إلى جانب ما فيه من إيجابيّة تُحسب للكاتب، إلاّ أنّه قد يُضيّع عليه فرصة شقّ طريق فرديّ خاصّ يتميّز به عن غيره من كُتّاب القصّة.
فمن قصص كلاسيكيّة المبنى، إلى حدّ ما، واضحة الشّكل والمضمون كقصّة مقصّات وسكاكين في الذاكرة، أبو السّعود، مرثيّة لطيور النّورس، شجرة الغار، طفل من هناك، إلى قصص غارقة في الرّمزيّة كقصّة أوراق اللّعب، زهرة متوحّشة، غيبة الغنمة، المرأة التي تلد الخراف، المصوّر، مرآة على جناحي فراشة، السّؤال الصّغير. هذه القصص التي تُدخلنا في قضيّة العبر نوعيّة وتداخل الأجناس الأدبيّة، حين يصعب علينا ضبط حدود النّصّ وتعريفه. فلا نجد في هذه القصص المذكورة ما عرفناه في القصّة التّقليديّة من حبكة وحدث، ولا ما عرفناه في القصص اللاّحقة من مونولوج وتحطيم الزّمن. وإنّما تمتاز بشعريّتها وتكثيفها، عبر استخدام الكاتب الكثير للتّناص وتوظيفه للرّموز الدّينيّة والتّاريخيّة التي تستفزّ المتلقّي وتتحدّى قدرته الذّهنيّة ومخزونه الثّقافيّ، حتى بدت لي بعض قصص المجموعة قصائد نثر كقصّة “زهرة متوحّشة”: “زهرة المتوحّشة لقطف زهرة برّيّة، تقفز فوق المدى كفراشات من نوّار اللّوز المتناثر على السّفح. تحتبس في تلك الصّومعة ذكريات طفولة معذّبة، تزمجر فيها رائحة العدم زمهريرًا يصهل، قوافل من خيول كوابيس كانون تحتلم أحلامها اللوزيّة بعاطر النّدى الشهيّ الرّذاذ”.
وفي موضع آخر: “أنا أبحث عن الدّليل في عقبه. لا يمكن للصّحراء ألاّ تشتاق للمطر. الجدب كفر. والصّومعة تشهد على انفصام حتميّ. فكما أنا كذا سيكون. يقبل القطيع والنّواقيس تنشد عذاباته الممتزجة بأنين ناي الرّاعية السّمراء. الغروب يوشك أن يحتفل بعشقه للهفة الشّفق. الكاهن يخلع العباءة القديمة. الرّاعية تعزف على نايه بأصابع عمياء لكنّها مبصرة. تمتلئ رئتاها بشهقة العطر الكستنائيّ. يردّد الصّدى سيمفونيّة الالتحام الإنساهيميّ”.
ومن قصّة “مرآة على جناحي فراشة”: “عصور من الرّحيل مرّت عبر بوابة الشّمس لتصل إلى هاويات الاحتراق، وأنتَ أنتَ، ما زلت تجازف وتكسب الرّهان، أترى يضمحلّ فيك التمرّد على قوافل السّير في المنحدرات، وعلى سفوح قهقهات العبث بخدود غانية؟ ما لكِ وما لهُ؟ ربّما شهوتك لأن تعصري الكلمات في دنّ جناحيكِ، وتطبقي بهما على الكون، فلا يبقى منه سوى أقلّ من ريشة تكتب قصّة خلودكِ، هي البدايات وهي النّهايات لعصور الرّحيل عبر بوابة الشّمس”.
والمعروف أنّ قصيدة النّثر قامت أساسًا على مبدأ الحرّيّة والتّعدّد والتّناقض. ممّا يعني أنّها لا تُحدّد وإنّما كما يقول أدونيس: “تخلق شكلها الذي تريده كالنّهر الذي يحفر مجراه”. وبناء على هذا، فإنّ كلّ قصيدة تبتكر شكلاً من داخل التّجربة الفرديّة الخاصّة غير المعمّمة، ممّا يُحيل هذه القصص المذكورة إلى نصوص مفتوحة لها دلالات متعدّدة تُثير الأسئلة اللاّنهائيّة، وتجعل النّصّ غامضًا صعبًا على المتلقّي، وإن كان هذا يمنح المتلقّي حرّيّة التّفاعل مع النّصّ وخلقه من جديد. ولكن، تكمن الإشكاليّة في بعض قصص محمد حمد هذه، في عدم انطلاقها من أرض صلبة تعود إليها في نهاية المطاف!! ممّا يُفقد هذه النّصوص معناها وقيمتها الأدبيّة، وبالتّالي يُفقد القارئ حماسه واندفاعه إلى سبر أغوار النّصّ.
لم يغفل محمد حمد في مجموعته استعادة مأساة الشّعب العربيّ الفلسطينيّ منذ عام النّكبة. وظهر كاتبًا ملتزمًا بقضايا شعبه معبّرًا عنها برسمه واقع الفلسطينيّ الذي يعاني تحت نير الاحتلال من خلال اللاّواقع الذي يغلّف معظم قصصه، كقصّة “أبو السّعود” حيث صوّر واقع الظّلم الذي يعيشه الفلسطينيّ الذي أُبعد عن وطنه-البروة، لكنّه رغم البعد ظلّ مصرًّا على العودة والجلوس في حقله وأرضه. ومن خلال الحلم وتخيُّل سماع أصوات الذين رحلوا، كانت رسالة القصّة في دعوتها للصّمود والتّشبّث بالأمل والتّصدّي وعدم تنازل الفلسطينيّ عن حقّه في الوجود والعيش بكرامة.
وكانت قصّة “أوراق اللّعب” برأينا، أجمل القصص التي عبّرت عن هذا الهمّ بلغة رمزيّة شحنت القصّة بتداعيات موحية للقارئ بوصفها ما حدث للشّعب الفلسطينيّ من تشريد وظلم، أمام صمت العالم العربيّ القاسي والمخيِّب للآمال. يقول: “أنت تقف على الشاطئ. تنتظر خروج حوريّة البحر. أوراق اللّعب في جيب قميصك المقدود. على الشّجرة القريبة أوراق صحف نفد تاريخها. أبراج الخريف مصابة بالزكام. يتوجّع فيك عرق أندلسيّ. تفترسك عروق دم أخضر لغول متحضّر؛ غول رهيب جاء من الطرف الآخر. وُلد يوم طردوك من غرناطة.
أنت تعبرُ بعد أن طال انتظاركَ. في الجامعة مائدة ومناشير بلاغيّة. الهزيمة تتحوّل إلى نصر. أنتَ تمتشقُ سيفَ طارق. تصدّق أنّ العنكبوت حاملةُ خيول. الصّهيل يتجمّد في حلق القادسيّة. على مرمى حجر مقدسيّ وحجر أسود آلاف الشّهقات. جحافل الحجّاج يتوضّؤون بالدّم. بين الرّافدين بابل مدمّرة. الغول زاد الميم في بداية اسمه فكان الموت.
أنت تقف على رِجل واحدة. كأبي قردان نحيفًا صامتًا. بلسان مقطوع. آلاف الألسن تتكلّم بالنّيابة عنكَ. الضّاد فقد قلبه فصار الضّدّ. أنتَ مُعاقَب”.
أمّا قصّة “غيبة الغنمة” التي اختارها الكاتب لتكون عنوان مجموعته، فقد قامت أحداثها على إغراب واضح يصطدم به القارئ منذ بدايتها التي تقول: “يُحكى أنّ قرية آمنة كان يأتيها رزقُها رغدًا، وكانت تملك غنمة كبيرة جدًّا، يمتدّ طولها من بداية القرية إلى آخرها، أمّا رأسها فيصل إلى الغيوم. كانت تأتي كلّ صباح من أعلى الجبل القريب، وتدخل القرية، تُرافقها جوقة من أعراس طيور الفجر، فتستقبلها القرية استقبال الملوك الفاتحين”.
هذا الإغراب نجده كذلك في قصّة “المرأة التي تلد الخراف” وقصّة “ألفيّة”. والإغراب، كما جاء في مقالة “نظام التّفجية وحواريّة القراءة” للبروفيسور إبراهيم طه، “يُولّد نوعين من الفجوات: بين النص والواقع الخارجي وبين النص والقارئ كنتيجة لاحقة بالفجوة الأولى” والإغراب “بتوليده فجوة بين النص الأدبي وبين الواقع الخارج عنه لا يسعى لتحديد معنى أو تجهيز دلالة ثابتة، وإنّما يطمح إلى خلق رؤية (vision) للنص الأدبي”. ولمّا كان الإغراب شكلاً من أشكال التّرميز المختلفة، فإنّ القارئ سيعتبر نصوص محمّد حمد هذه تحدّيًا ذهنيًّا لقدرته على تحليل النّصّ وفكّ رموزه.
وفي الالتفات إلى الهموم الذّاتيّة الخاصّة، نجد الكاتب في قصّة “المصوّر” يتناول قضيّة المعاناة الصّعبة التي يواجهها الفنّان سواء كان أديبًا أو مصوّرًا أو رسّامًا أو غير ذلك، أثناء عمليّة الإبداع. وهي قصّة تُعنى برصد عوالم الفنّ والمشاكل التي تُواجه الكاتب أثناء عمليّة الكتابة. ممّا يُحيل إلى كونه نصًّا ميتا سرديًّا أو ميتا نصّيًّا يرتكز على تصوير عالم الكتابة السّرديّة المتعدّد والمتناقض، وكيف تكون اللّغة عاجزة عن التّعبير عن الفكر وعن نقل هواجس الذّات.
يقول محمّد مصطفى هدارة: “إنّ من شروط نجاح القصّة أو أي عمل فنّي إحساس القارئ بالمشاركة الوجدانيّة مع الكاتب حتى ليعيش معه في الأجواء التي رسمها دون أن يحسّ بأنّه غريب عليها”.
لو تأمّلنا قصص المجموعة بصفة عامّة، على ضوء ما قاله هدارة، لوجدنا أنّ الكاتب كان مقصّرًا في جعل القارئ مشدودًا إليها ومنجذبًا لطروحاتها. فلغة السّرد السّاذجة في بعض المواضع، والحوار السّطحيّ، كذلك إرهاق جمل كثيرة بتفصيلات زائدة، كان بإمكانه أن يختصرها، أفقد الكثير من قصص المجموعة جمالها وقيمتها وتأثيرها. زد على ذلك الإكثار من التّناص والأسماء والإشارات التّاريخيّة والدّينيّة، ممّا يُثقل على القارئ العاديّ وقد استحال النّصّ أمامه إلى غموض وانغلاق وإبهام.
كلّ هذا أدّى إلى عدم نجاح الكاتب في توظيف جميع عناصر القصّة لخلق وحدة الأثر التي اعتبرها إدغار ألان بو الخاصّيّة البنائيّة الأساسيّة للأقصوصة.
لكن، نستطيع أن نقول إنّ اللّغة التي استخدمها الكاتب في قصصه، تكاد تكون الأكثر جذبًا للقارئ، إذ يظهر اعتناء الكاتب بها واضحًا في بناء جُمَلِهِ وانتقاء ألفاظها والتّلاعب بإيقاعها. إلاّ أنّ هذه اللّغة أيضًا، على قوّتها وجمالها، ما زالت تفتقد إلى القدرة على الإشعاع، إلى هذا البريق الذي من شأنه أن يأسر القارئ ويدفعه إلى النّصّ ليُبحر فيه ويسترسل بكلّ متعة وراحة.
للدكتور محمّد حمد أقول مبروك وليدك الأوّل وكلّي ثقة أنّ الثّاني سيكون أجمل وأنضج، ولكن حتى ذلك الحين، ما زلنا بحاجة لمحمّد حمد الباحث ولدراساته الأكاديميّة الجادّة.
(نصّ المداخلة التي أُلقيت ضمن ندوة نظّمها قسم اللّغة العربيّة وآدابها في كلّيّة القاسمي لإشهار الكتاب، بالاشتراك مع مؤسّسة الأفق للثّقافة والفنون بتاريخ 13.11.18)