أمسية عرفاتية درويشية !…. بقلم:آمال عواد رضوان

أقامَت مؤسّسةُ محمود درويش الجليليّة بالتّعاون مع الاتّحادِ القطريِّ للأدباءِ الفلسطينيّين أمسيةً للإعلاميّ الكاتب نبيل عمرو، حول كتابه (ياسر عرفات وجنون الجغرافيا)، وذلك بتاريخ 17-11-2018 في مقرّ مؤسّسة محمود درويش في كفر ياسف، ووسط حضورٍ من الأدباء والمُهتمّين بالحركة الثقافيّة، وقد رحّب بالحضور رئيس المجلس المَحليّ السّيّد شادي شويري، وأكّدَ دعمَهُ للنّشاطاتِ الثقافيِّة الّتي تعملُ على ترسيخ الحضورِ الفلسطينيّ العربيّ الفاعلِ في البلادِ، ثمّ رحّبَ السّيّد عصام خوري بالضّيفِ والحضور، وقدّم نبذةً قصيرةً عن ضيفِ الأمسية، تلتها مداخلاتٌ لكلٍّ مِن الكاتب سعيد نفّاع، ود. محمد هيبي، ومداخلة مُطوّلةٌ للإعلاميّ نبيل عمرو عن اتّفاقيّةِ أوسلو، والصّفقة والأوضاع الرّاهنة ومواضيعَ أخرى، وفي نهاية اللقاء شكر السّيّد عصام خوري الحضور، وتمّ التقاط الصّور التذكارية! 

 

مداخلة سعيد نفّاع/ نبيل عمرو يضعُ لبنةً هامّةً في طريق تخليصِنا من طفولتِنا الجمعيّة: ما الّذي يمكن أن يُقالَ في هذا الكتاب، بعد ما قاله الأديبُ فيصل الحوراني في التّقديم وتحت عنوان: “قراءة الرقم الصعب”؟!

وللعيّنة يكتب الحوراني: “إنّ هذا الكتابَ استبطنَ شخصيّة عرفات ودوافعَه، ووصف أوجهَ سلوكه، ورصد أهمّ ما اتّسمت به شخصيّاتُ الّذين زاملوه في قيادة العمل الوطنيّ الفلسطينيّ وغيرِهم. وإلى هذا، قدّم الكتابُ نماذجَ منتقاةً بعنايةٍ من بين القادة العرب والأجانب العديدين الّذين تعاملَ عرفات معهم، وأوضح أسلوب القائد الفلسطينيّ الفريدَ في التّعامل مع كلّ واحد من هؤلاء ورأيَه فيهم. إنه الكاتب الّذي يبوحُ دون تهيُّبٍ، بما اختزنته ذاكرتُه من الحكايات الّتي تتّصل بعلاقات عرفات بالقادة الآخرين، فلسطينيّين وغير فلسطينيّين، ثقتِهم ببعضهم وشكوكِه بكثيرين منهم. وفي هذا المجال، تميّز الكاتب بجرأةٍ محمودة على تظهير ما كان مسكوتًا عنه، فوضع على حروف الكتابة الفلسطينيّة النقاط الّتي ما أكثر ما افتقرت هذه الحروفُ إليها، وأضاء أحداثا، ووضع تحت المجهر شخصيّاتٍ كثيرة، والتّحرّر من التمجيد والتفجّع ومن النفاق والتحامل، وأباح للقلم المتمرّس أن يصف الواقع كما هو، ويرسم الشّخصيّات كما هي، أو في الأقل كما تراها عين صاحب القلم النفّاذة، ولسنا نحن إزاء مذكّرات، ولسنا إزاء سيرة، بل إزاء شهادة مبرّأة من التركيز على الذات.”

طبعا الحوراني يطرق في تقديمه أبوابًا أخرى كثيرة ميّزت هذا المُنتَج. وحين أبحرتُ في عباب الكتاب، وجدتُني أوافق على جلِّ ما خطّه الحوراني، فما من شكّ أنّ العنوانَ لافتٌ؛ جنون الجغرافيا، ولكن نبيل عمرو وقبل أن يأخذ بيدنا إلى الفصل عنوان الكتاب، يُمسِّكنا الناصيةَ في تمهيده، فيكتب حول ذلك: “في حال كحال زعيم استثنائيّ ذي طموح صعب، فإنّ الجغرافيا النموذجيّة هي تلك الّتي يتوافر معها فضاءُ حريّة واستقلالٌ سلطويّ معنويّ ومادّي.. فلا معنى لحريّة بلا جغرافيا، إذ إنّها في هذه الحالة تعني أمورًا معنويّة، كالحلم والسباحة في فضاء الأمنيات وليس الحقائق. جنون الجغرافيا فيه الكثير من المشترك.. مع الأمراض الّتي يعاني منها البشر، سواء جسديّا أو روحيّا.. فهي تدفع المُصابَ بها إلى حالات أقرب إلى الهوس والجنون، وهو يسعى للحصول عليها، ولتوفيرِ مستلزمات البناء السلطويّ على أرضها، وكذلك الأمرُ حين يفقدها، ليبدأ دورة جديدة في البحث عن تعويضها، إمّا في أمكنة أخرى وإمّا بحالات أخرى، وقد دفعت الجغرافيا المفقودةُ عرفات إلى الإسراع في إنجاز أوسلو، تمامًا مثلما دفعته الجغرافيا الناقصة على أرض الوطن؛ (فضاء الحرية فيها كما يقول الكاتب في مكان آخر)، لأن يتمرّد على أوسلو، ولو بسلوك يكاد يكون انتحاريّا..”

هل فعلا هذا ما دفعه إلى أوسلو، أم محاولةُ تحييده في مؤتمر مدريد؟! سؤالٌ لعلّ الكاتبَ يفيدُنا بالإجابة عليه في تعقيبه بأكثرَ تفصيل، عمّا جاء في الكتاب مقتضَبا ص272. الطاغي في أدبيّاتنا العربيّة عامة والفلسطينيّةِ خاصّة هو التجمّل، والتجمّل هو نوع من الكذب النابعِ عادة أو على الغالب من “طفوليّة جمعيّة”، يطغى عليها الخوفُ من التناول أو الاعترافِ والجهر بالسلبيّ فينا. فصلاح الدين الأيوبيّ مثلا، بطل “كامل الأوصاف” في جلّ أدبيّاتنا، وبالتالي في تشكيل ذهنيّتنا عنه، رغم ما ارتكبه من مصائب كثيرة سياسيّة واجتماعيّة، وتاريخ حركتنا الوطنيّة الفلسطينيّة في جلّ أدبيّاتنا صحائفُ ورديّة، وهي أبعدُ كثيرًا عن أن تكونَ كذلك، عرفات والثورة الفلسطينيّة أيقونةٌ مقدّسة، كلُّ ما فيها مضيءٌ وهي ليست كذلك.

أعتقد أنّنا كمجتمع وشعب وأمّة شببنا على طفولتنا الجمعيّة، وإن كان ما زال فينا منها الكثير فهذا دور مثّقفينا، إن لم يحسن الأمر ساستنا، أن ينطلقوا بنا نحو شباب وكهولة وشيخوخة تشير بالبنان إلى سلبيّاتها دون إغفال إيجابيّتها، وعندها أعتقد أنّنا نكون قد بدأنا وضعَ خطواتنا في المسار الصحيح، وآن الأوان، وهذا ما فعله نبيل عمرو في كتابه هذا، وبكلمات الحوراني: “تميّز الكاتب بجرأة محمودة على تظهير ما كان مسكوتًا عنه، فوضع على حروف الكتابة الفلسطينيّة النقاط الّتي ما أكثر ما افتقرت هذه الحروف إليها…”       

يفتتح نبيل مؤلّفه بحكاية الجاسوس زهران المنزرع في الصفوف، ويقول: ظلّت حكاية زهران، تلح عليّ في الذاكرة والواقع، وليتساءل: “كيف يصلُ هذا الجاسوسُ إلى عرين أبو عمّار وأبو جهاد؟!” ص27

مباشرة وبعد هذه الافتتاحيّة الصادمة نوعًا ما، ينتقل نبيل إلى عرفات الشعبيّ، معيدًا إليّ مشهدًا عايشته مع وفد رؤساء مجالس محليّة، التقينا عرفات في تونس عام 1993 وتمامًا كما يذكره نبيل حين يقول ص32: “لم يَنجُ ضيفٌ واحد من لقمة عرفات، الّتي تحمل مئاتِ السعرات الحراريّة، والّتي يُصرّ أن يقدّمها بيده لكلّ من يجلس على مائدته.”

غيرَ أن عمرو يعود إلينا في محطّات كثيرة إلى نبر أو نبش “السلبيّات”، ولسانُ حاله يقول قولَ نلسون مانديلا: “ويلٌ للقائد الّذي كلّ مَن حولَه يقولون له نعم”، وللمثال: الحجز/ الاعتقال، وفي سياقنا احتجاز الكاتب، اعتمادًا على وشاية ولمجرّد الكتابة مباشرة للرئيس ص44، والنزوات الرئاسيّة ص47، والأسئلة المريحة ص51، والاغتيالات ص61.

بعد وجبة السلبيّات يعود الكاتب إلى نقاط نور أو العكس، وهذا منوطٌ في فهم المقروء، فمثلا يقول ص66: لقد نجح عرفات في تحييد الإيديولوجيّة، وحتى البرامج السّياسيّة كليّا بعيدًا عن تحالفاته وقراراته، وبرع في وصف دافعه لذلك، حين اختصر الأمرَ بجملة واحدة: “ومن هو الّذي يتخلّى عن المساحة المتاحة من الحريّة، ليُدخِل نفسَه في سجن الأيديولوجيّات؟! ثمّ أي أيديولوجيا نحتاج كي نتحالفَ مع عدد كبير من الدول والأحزاب والمنظّمات؟ إنّ أقربَ ثنائي منسجمٌ فيها تضطرم علاقاته بخلافات وتناقضات سرعان ما تنفجر مع اقتراب أول عود ثقاب!”

لكنّ نبيل والعارف خفايا الأمور، وتتملّكه الرغبة الشديدة في أن يشاركَنا ما آلمه في المسيرة من سلبيّات، لا يغفلها في أيّة محطّة مهما زهت ورديّتُها. فيضعنا في الانفلات وإساءة استخدام الثورة في الأردن ص70، ونتائجِ قرار إسرائيل بتصفية عرفات وفضل السعودية ص76، وتبسيطِ الوجود الفلسطينيّ في لبنان ص79. وأنشطةِ تخريبيّة في سوريا ص218، والتلاعبِ مع حواتمة وحبش في إشكاليّة النصاب في دورات المجلس ص199، والأمثلة كثيرة.

نبيل عمرو يطالنا نحن الفلسطينيّون هنا بواقعة لافتة، تصبّ هي الأخرى فيما ذهب إليه في هذا البابِ من كتابه الّذي أتناوله، “وضع الحدّ في موارسنا”، فيقول ص188 وفي سياق الحديث عن يمينيّة أبو جهاد: “ذات مرّة تلقى عرفات طلبًا بتوفير دعم إعلاميّ للحملة الانتخابيّة للحزب الشيوعيّ الإسرائيليّ راكاح. وقد تجاوز عرفات المحاذيرَ السّياسيّة والمعنويّة ووافق. وأوفدني إلى براغ للتنسيق، وهناك التقيت أعضاء وفد رفيع المستوى من راكاح. أبلغت إليهم استعدادَنا لدعم حملتهم الانتخابيّة، وتقدّموا بعدّة طلبات أخرى، نقلتها إلى عرفات وأحالها على الفور إلى أبو جهاد، وقد ظننت وكنت متأثرًا آنذاك بحملة اليسار عليه أن إحالةَ الطلبات إلى الرجل المتهم باليمينيّة، ومعاداةِ اليسار هو نوع من التعاطي السلبيّ مع الأمر، أما في الواقع، فقد تمّ تأمينُ لقاء مباشر بين قيادة راكاح وبين أبو جهاد، كان لقاءً محرجًا لليسار، فدون نقاش قدّم أبو جهاد كلَّ ما طُلب منه، ووعد بمواصلة الدعم دون تحفظ ودون شروط.”

أعتقد أن القمّة والأوج في هذا السياق الّذي أورِد، سياق الإشارة إلى سلبياتنا، لا بل إلى خطايانا وليس فقط أخطائنا، هي حكايةُ الامرأة وابنها من مخيّم تل الزعتر مع عرفات والكاتب، بعد احتلاله عام 1982 ص88 و92. ففيها من الدلالات المضحكة المُبكية أكثر من كثير، ولا أرى من نهاية أجمل لمداخلتي هذه من كلمات الحوراني في التّقديم: “التحرّر من التمجيد والتفجّع ومن النفاق والتحامل، أباح للقلم المتمرّس أن يصف الواقع كما هو، ويرسم الشّخصيّات كما هي، أو، في الأقل كما تراها عين صاحب القلم النفّاذة.”

يعطيك العافية وإلى اللقاء في الجزء الثاني “شرخ في القمّة”، علّي أجد فيه ما عرفته خلال أسْري، ومن مصدر أوّل عن إطلاق النار عليك!

مداخلة د. محمد هيبي بعنوان “نحن الرّقم الصّعب في الشرق الأوسط”!: هي عبارة أطلقها ياسر عرفات ذات يوم، ولاقت قبولًا كثيرًا ورفضًا قليلا، واعتمد أصحابُ الرفض والقبول دوافعَهم السّياسيّة أو الاجتماعيّة أو الشخصيّة، وكذلك مدى قربهم أو بعدهم من عرفات.

فيصل حوراني الّذي قدّم للكتاب، عبّر عن تخوّفه من أن تُعزّز هذه العبارة الوهم عند الفلسطينيّين وقياداتهم، وقد يكون محقّا في تخوّفه. ويُضيف: “نحن إزاء نصّ يصعُب تقديمه بوصف واحد أو أوصاف قليلة، ويُمكن وصفه بأنّه محاولة جادّة وموفّقة لقراءة الرّقم الصّعب بجانبيه: العام والعرفاتي الخاصّ”.

من الواضح أنّ حوراني التفت أكثر إلى الجانب السّياسيّ، وهذا ما لن أتورّط فيه. ولكنّ حوراني اعترف أيضًا بروائيّة النص، وهذا ما يشغل مداخلتي.

تخييل الواقع هو فنّ بحدّ ذاته، وهو عنصر من عناصر التّشويق في أيّة رواية. ولكن، في هذا الكتاب “ياسر عرفات وجنون الجغرافيا”، نقف أمام رواية من نوع آخر. هي ليست رواية بالمفهوم الفنّيّ للرّواية، بل هي رواية وثيقة، ولكنّها مختلفة أيضًا، لأنّ الرّواية عادة، قادرة على الجمع بين التّوثيق والتّخييل، أمّا هذه الرّواية فلم تفعل، لأنّها تحكي واقعًا فقط لا مكان فيها للتخييل. إنّها وثيقة تاريخيّة وسياسيّة، ويُمكن اعتبارها شهادة أدبيّة على التّاريخ والسّياسة، لأنّها اتّخذت شكل الرّواية بما فيها من سرد جميل. ويتّضح من ذلك، أنّ الكاتب يُدرك أهمّيّة علاقة الأدب بالتّاريخ والجغرافيا، وتلك العلاقة تبرز عادة في ثلاثة جانرات أو أنواع أدبيّة هي: الرّواية التّاريخيّة، رواية السّيرة الذاتيّة أو الغيريّة وأدب الرحلات. وهذه الرّواية تنتمي إلى الجانريْن الأوليْن. فالكاتب عندما يتحدّث عن عرفات، يتحدّث عن نفسه أيضًا، وهذا إلى جانب ارتباط الرّواية بالتّاريخ والجغرافيا، يُعطيها شكلها ومضمونها كرواية سيرة ذاتيّة وغيريّة معًا.

لقد أحسن الكاتب فيها استخدام أسلوب حكاية الواقع أو سرده بما يُشبه التّخييل، وبذلك فقد أبعد الحقائق التّاريخيّة عن الجفاف، وجعل القارئ يُقبل على قراءة الكتاب بشغف حتى غلافه الأخير، هذا بالإضافة إلى أنّه وظّف فيه الكثير من العناصر الروائيّة الأخرى، وقد رسمها وبناها وشدّها بإحكام إلى بعضها البعض، من خلال علاقاتها بشخصيّة المرويّ عنه.

هذه الرّواية تُحاكي أسلوب التّخييل ولكنّها لا تعتمده، فالكاتب ينطلق بالنصّ من واقع ليكتبه أو ليكتب عنه، بدون حاجة للتخييل، ولكنّه فيما يكتبه عن هذا الواقع، يشدّنا أكثر بكثير من التّخييل، ربما لأنّه يستبطن دواخل المرويّ عنه، ويُضيء لنا صفحات من حياته خفيت علينا رغم معرفتنا الجيدة به، أو هكذا كنّا نظنّ. وهو يعرف كيف يربط هذه الصّفحات وكثرة ما فيها من أحداث، بالزّمان والمكان، خاصّة عندما يتحدّث عن ارتباط المرويّ عنه بالجغرافيا في زمن محدّد، وما سبّبته له هذه الجغرافيا من جنون، سواء كان ذلك في محاولات امتلاكها، أو في محاولات عدم خسارتها. والجغرافيا هنا تعني الأماكن الّتي تواجد فيها المرويّ عنه ومن يُمثّلهم، وبشكل خاصّ في مصر والأردن وسوريا ولبنان، ذلك لأنّ ارتباطه بهذه الجغرافيا، ليس ارتباطا سياسيّا فحسب، ولا كبديل جغرافيّ مؤقّت لفلسطين، بل هو ارتباط نفسيّ أوّلًا وجغرافيّ ثانيًا، لأنّ تلك الجغرافيا هي امتداد نفسيّ وجغرافيّ لفلسطين الّتي حرص عرفات أن يبقى قريبًا منها، لأّنّه يرى العودة إليها حتمية. ولطالما أجاب عرفات بعد كلّ أزمة أو هزيمة، ردّا على السؤال: “وإلى أين الآن؟”.  كان جوابه دائمًا: “إلى فلسطين”!

في الرّواية عادة، راوٍ ومرويّ ومرويّ عنه. أمّا ما يُميّز نبيل عمرو فيها، فهو أنّه الكاتب والرّاوي والمرويّ عنه أيضًا، كأحد بطلين رئيسيْن. وإن كانت بطولته تبدو ثانويّة، إلّا أنّها بلا شكّ، ليست هامشيّة، فهو ليس مجرّد سارد يقتصر وجوده على السّرد، بل هو شخصيّة تلعب إلى جانب المرويّ عنه، دورًا أساسيًّا في الأحداث والتّعاطي معها.

نبيل عمرو الكاتب أظهر حضورًا مميّزًا، وقدرة فائقة في ملكته للغة وتطويع عباراتها بما يخدم موضوعه ورسالته، وما يحتاجه فيهما من مباشرة أحيانًا، وإيحاء وتلميح أحيانًا أخرى. وتميّز بقدرته على السّرد، في استخدام إشكالٍ مختلفة للسارد أو الرّاوي، وفي تحكّمه بزاوية السّرد الّتي ينطلق منها، وقد استفاد كثيرًا من قربه اللصيق بالمرويّ عنه. وقد برز ذلك في معلوماته وشهادته الموثوقة على ملامح عرفات الشخصيّة وأحواله النفسيّة وطرق تفكيره وممارساته، وذلك إلى جانب المادة الفكريّة والسّياسيّة الّتي أعاد بواسطتها بناء شخصيّة عرفات بشكل روائيّ، رغم صعوبة الأمر، إذ لا يختلف اثنان في أنّ شخصيّة عرفات، هي شخصيّة إشكالية إلى أبعد الحدود، وفي كل المجالات. هي ليست شخصيّة قلقة فقط، بل هي مثار قلق لكلّ من حولها. وهذا حسب قاله الكاتب، جاء نتيجة “الانطباعات الّتي تولّدت من خلال معايشة عرفات عن قرب، ومشاطرته كثيرًا من أيّامه المجيدة والبائسة” (ص 13).

في الرّواية أيضًا، شخصيّات أخرى كثيرة، ولكن ما يلفت النظر، هو تسليط الضوء أو ما يُسمّى بلغة الرّواية، التبئير، على شخصين من شخوصها، هما الرّاوي والمرويّ عنه، ولكن دون أن يغمط حقّ أيّ من الشّخصيّات الأخرى، فقد كان حضورها جميعا مقنعا.

على الغلاف الأول تُهيمن صورة المرويّ عنه، وقد انضوت تحتها صور لشخصيات قد تكون مساوية له بالحجم والقدر والقدرة، أو تفوقه، ولكنّ مصمم الغلاف لم يقصد هيمنة عرفات على تلك الشّخصيّات، بل يُشير إلى أنّه كان يُمسك بكل الخيوط سواء في المنظومة الفلسطينيّة أو العربيّة، مدفوعا بقلقه أو بما يسميه نبيل عمرو “جنون الجغرافيا”. وهذا ما جاءت الرّواية تقوله: إنّه كان قادرا على الشدّ بكل الخيوط واللعب بكل الأوراق”. ولكن، رغم الهيمنة الواضحة لعرفات على سير أحداث الرّواية ومسار شخصياتها، إلّا أنّه لم يستطع تهميش شخصيّة الرّاوي، الّذي يبدو مهيمنا على السّرد كراوٍ وكشخص من شخوص الرّواية، يُشارك في أحداثها ويتحمّل تبعاتها.

قد يكون الرّاوي في بعض الروايات، مجرد تقنية يُوظّفها الكاتب، تقوم بالسّرد نيابة عنه. أما نبيل عمرو الرّاوي، فهو ليس مجرد همزة وصل بين الكاتب والنص، أو بين الكاتب والقارئ، أو بين القارئ والنص، إنّه تعالق فريد بين الكاتب والرّاوي والشخصيّة المشاركة بأحداث الرّواية.

التعالق هنا، يعني أن القارئ يشعر بالحضور الدائم للكاتب، أو الرّاوي، الأنا الشاهد المشارك كأحد شخوص الرّواية، عاش الأحداث وشارك فيها قبل سردها. وليزيد من مصداقيته وحيوية سرده، يوظّف لغة الحوار، ويُشارك فيه بحيوية مع باقي الشّخصيّات، وخاصّة مع المرويّ عنه، إذ يُنطقه باللهجة المصرية الّتي يُحبّها. وعندما سُئل نبيل عمرو: “لماذا تستعمل اللهجة الدارجة عندما تنقل كلام عرفات، بينما تستعمل اللغة العادية عندما تنقل كلام غيره معه؟”. كان جوابه واضحا ومقنعا، يُؤكّد أنّه أراد أن يُقدّم لنا عرافات كما هو، حيث قال: “عرفات هو الشخصيّة المحورية، وهو بطل روايتي، فأريد للقارئ أن يتخيّله عندما يقرأ أقواله. أما الآخرون فأريد للقارئ أن يعرف ما قالوه، سواء تخيّلهم أو لم يتخيّلهم”.

هذا الرّاوي يتحوّل أحيانا إلى راوٍ كليّ المعرفة، أي كأنّه يتحدّث من خارج النص ولا علاقة له بما يجري فيه إلّا معرفته بكل شيء وهيمنته على سرده. وأحيانا تراه وكأنّه يجمع بنجاح بين الرّاوييْن: الشاهد المشارك وكلّي المعرفة في شخصيّة واحدة.

وهذا يظهر عندما يتحدّث عن الحالة النفسية للبطل وغيره من الشّخصيّات، فالحالة النفسية تلعب دورا هامّا في هذه الرّواية، إذ من الأهمّيّة بمكان، ذلك البوح الّذي يلائم الرّواية النفسية، والّذي لجأ إليه الكاتب، فأضفى به مصداقية على ما يقوله عن عرفات وعن نفسه وعن الشّخصيّات الأخرى الّتي أحاطت بعرفات، ولعبت في مسيرته دورا بالغ الأهمّيّة، مثل (أبو الوليد) سعد صايل، و(أبو إياد) صلاح خلف، و(أبو جهاد) خليل الوزير، وغيرهم. فقد رأينا الرّاوي في أكثر من موقع، يُحاول استبطان دواخل هذه الشّخصيّات، وقراءة أفكارها، وخاصّة دواخل عرفات وأفكاره، وبكل تأكيد دواخله هو كشخصيّة تتحدّث عن نفسها.

 

في بوحه أظهر نبيل عمرو موضوعية وجرأة غير مسبوقة، لم نرهما على الساحة الفلسطينيّة حين يكون الكلام عن عرفات، ولكن له وعليه. وقد كان واعيًا تمامًا لإشكاليّة شخصيّة عرفات، في السّياسة وغيرها، وإلى أنّ إقدامه على هذا العمل يحتاج إلى كثير من الموضوعية الّتي تُغالبها العواطف، خاصّة وأنّه اختار أسلوب الرّواية الّتي تُبرز كلّ ذلك، خاصّة في وصفه لتصرّفات عرفات. وبكلّ تأكيد، نجح نبيل عمرو في مهمّته نجاحًا باهرًا، فقد استطاع رسم شخصيّة عرفات بملامحها المجهولة لمعظم القرّاء، وبهذا شوّقنا للجزء الثاني من الكتاب.

وختامًا، أودّ الإشارة إلى تقنيّة الميتاقصّ الّتي أصبحت ظاهرة منتشرة في الرّواية العربيّة الحديثة، وقد وظّفها نبيل عمرو بشكل موفّق لما فيها من إشارة، إلى أنّه هو المؤلّف والرّاوي وأحد شخصيّات الرّواية، المشاركة بشكل أساسي وفعّال فيها.

في الكتاب ملامح ميتاقصية كثيرة ومهمّة، ولكنّ أبرزها ثلاثة:

تقديم فيصل حوراني وهو قراءة موضوعيّة لمادة الكتاب بكلّ أبعادها.
تمهيد وتوضيح الكاتب، وهو إعلان نوايا كان لا بدّ منه، يُساعد القارئ على استيعاب مادّة الكتاب بكل ما فيها من تعقيدات ومفاجآت.
الاختزالات في بداية كلّ فصل. وهي نصوص ممهّدة وموجّهة، تختزل الفصل وتدفع إلى قراءته.

هذه الملامح الثلاثة تقوم بدوْرها بشكل مقنع جدًّا، إذ لا تدفع القارئ إلى القراءة فقط، بل تستفزّه للتفاعل مع ما كان، لكي لا يغرق في الوهم كما أشار إلى ذلك فيصل حوراني، وليُشارك في رسم ما سيكون.

نبارك للأخ الكاتب نبيل عمرو هذا الإصدار الجريء، وننتظر إصداره القادم، الجزء الثاني من حياة القائد ياسر عرفات وحياة الثورة الفلسطينيّة المستمرّة.

(الوسط اليوم)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .