– زمان –
كنت العاصفة ..
تحمل الريح منك معنى الثورات
وعذاب الوجد، عشقا، يدمي القبلات
ايها الواقف في الاعراف، والرعد، في الافق الموات
متحدة الزعتر العمر، واريج العبير في كل الجهات
عبرت الليل مسكونا بصوت الانبياء
تضع بالشعر جسر الحب، وشوقًا للعطاء.
– مكان –
يتلاقح فيّ الموت، وجرح الشوق، وغيم التذكارات
تنهل بقايا الوجد، وعمر الوجع الآتي، وخاصرة الشرق
تموج بعقدة خصي الذات.
ساءلني المقهى:
عصر العهر على الابواب؟
تلقفني الصمت.. تلاشت في شفتي الكلمات اقفلت القلب،
تكالبت اللقمة والدجال، ووجوه مثلومة باللاءات
رفعني الخوف على عتبات الشيخوخة
ينمو مع زغب العينين، مع الشيب الطفلي
ويتولاك الصمت مع الصوت تهتف بالنتنة
تتحداك النفس التائهة من بين اصابع نشرة اخبار
وسحاق الارض مع الاموات على ارصفة الفقراء
ما زلت كما أعرف، في الغرف الضيقة المأمونة
استلقي كحبال الكرمة
في شوق امرأة تزني، تلد الاطفال لكل المهزومين لعصر آت.
هذا النص الشعري- النثري، كان الراحل نواف عبد حسن قد نشره في مجلة رابطة الكتاب العرب ” مشاوير ” في العددين ٤ و ٥ من السنة الاولى، ايلول وتشرين اول ١٩٧٨، وفي حينه لفت الانظار، لكونه جاء بعد فترة طويلة من انقطاع نواف عن الشعر، وربما عن الكتابة الشعرية.
المرحوم نواف عبد حسن لم يكن مثقفًا وقارئًا مميزًا واسع الاطلاع فحسب، بل كان ايضًا شاعرًا مبدعًا متفردًا فحسب، رغم قلة انتاجه، حيث كان لا يكتب الا عندما تلح عليه الفكرة، وكان ينشر ما يكتب في صحيفة ” الأنباء ” و “الشرق ” و ” مشاوير “.
وكان نواف يجد في الشعر متنفسًا في كثير من الأحيان للتعبير عن القهر الداخلي وعن الرفض والغضب المتأجج في صدره تجاه المشهد السياسي والثقافي والأدبي والاجتماعي.
وكانت حياته مشحونة بالإحساسات العنيفة، ووجد في الشعر الأكثر تعبيرًا وضرورة على ملاحقة واحتواء هذه الاحساسات العنيفة والانفعالات الوجدانية المركزة ، وكما قال في قصيدته، فقد تلاقح فيه الموت وجراح الشوق وغيم التذكارات.
وقصيدة نواف ” بين خطوتين ” هي انعكاس واضح لجحيمه الشخصي كفلسطيني، فهو لا يهادن ولم ينغمس في مواجهة رهيبة ومخيفة مع كابوس الى درجة الاستمالة، وناتجة عن الاحتجاج والرفض لما هو قائم وسائد، ونابعة ايضًا عن خلفية تقوم على استيعاب الاحداث، وفهم الالم بقدر ما تقوم على الاحساس به.
وهو كمثقف ومبدع فلسطيني، مسلح بفكر كنعاني وثقافة موسوعية، محشور بحكم الانتماء التاريخي، في خضم مسيرة عربية بلهاء ومشبوهة ودون اي مستوى فكري وحضاري، ويقودها زناة العصر وشيوخ النفط وسلاطين الأمة والبرجوازيات العربية، التي لا تمت الى مظهرها الخازجي العصري سوى برابطة الاستهلاكية الدنيئة، مسيرة تافهة عقيمة ليس لها على الاطلاق قضية سوى تكريس الأنظمة المشيخية السلطانية على حساب مزاعم وادعاءات مفضوحة، والانسان العربي في هذه المسيرة محشو بالمسلمات، وما هو سوى انسانًا بليدًا وقاصرًا عن الثورة والتمرد والاحتجاج على واقع الجهل والتخلف والظلامية والتطرف الديني المسيطر في هذه المرحلة، الموسومة بالخسة والغباء والعهر السياسي والفكري والزنى الحضاري.
ونلمس في قصيدة نواف التناغم بين الصور والفكرة والموقف الحاد والكلمة الشاعرة والنغم الايقاعي الغاضب والرؤية المستقبلية ، إنها تعري الواقع وتقدم قراءة واعية للمرحلة، وتتنبأ بما هو قادم، أفلم يقل:
فخاصرة الشرق تموج بعقدة خصي الذات
ساءلني المقهى:
عصر العهر على الابواب
وفعلًا، فأننا نعيش اليوم هذا العهر بكل اشكاله والوانه، سياسيًا وثقافيًا وفكريًا واجتماعيًا وأدبيًا.
وما يسم القصيدة ويميزها عمق المعنى والبعد الفكري، والفعل الجمالي، والصور الشعرية التعبيرية المدهشة التي تؤكد شاعريته، وتجسد انفعالاته النفسية الوجدانية الشعورية، وتعكس موقفه السياسي والفكري المغاير المختلف.
والقصيدة تنم عن تجربة شعرية وانسانية عميقة، ذات أفق وبعد فكري وسياسي،
وتجربة حياتية غنية وثرية خاضت غمار الكفاح، ويتبدى فيها انحيازه التام الى جانب فقراء الوطن.
ومن نافلة القول أن قصيدة المرحوم نواف عبد حسن تعبر عن تجربة انسانية وفلسطينية حية متشابكة مع حالات الوعي والموت والحياة والتمرد ورفض الواقع والحلم المستقبلي، وتزخر بالبوح المتأجج والبعد الرمزي الشفاف.
نواف عبد حسن شاعر مشاكس منصهر بالتجربة، آمن بالكلمة الملتزمة الغاضبة المستفزة التي تترك اثرًا بالغًا في النفس، صادق الأداء، ومتفجر المشاعر والاحاسيس، ويكفي أنه لم يخذلنا بل كان الشمعة التي لم تنطفئ، والقلم الملتزم الذي بقي شامخًا رغم الاعاصير ، وسلامًا لروحه.