خيول نداء خوري  بقلم: شاكر فريد حسن 

 

بين يدي الآن ديوان ” الخيول ” للصديقة الشاعرة الفلسطينية/ الجليلية نداء خوري، كنت قد تلقيته هدية منها قبل فترة وجيزة.

نداء شاعرة مبدعة من قرية فسوطة في اقاصي الجليل الأعلى، تشغل محاضرة كبيرة للأدب العبري في جامعة بن غوريون بالنقب.

اقتحمت بوابة الشعر النثري منذ شبابها المبكر، ونشرت نتاجها الأدبي في الصحافة الأدبية والثقافية الفلسطينية التي صدرت في البلاد، وشاركت في عدد من المؤتمرات والمهرجانات الدولية للشعر وحقوق الانسان، وترجمت قصائدها الى عدة لغات عالمية منها الانجليزية والعبرية، وكتبت حول ابداعاتها واصداراتها مجموعة من الدراسات الأكاديمية، وحظيت أشعارها باهتمام نقدي واسع من الكتاب والنقاد، منهم على سبيل المثال نبيه القاسم وبطرس دلة وكاتب هذه السطور وسواهم.

صدر لها عدد من المجاميع الشعرية منها: ” أعلن لك عن صمتي، جديلة الرعد، النهر الحافي، زنا الريح، ثقافة النبيذ، خواتم الملح، أجمل الآلهات تبكي، الخطايا، والخلل “.

نداء خوري تنهج وتعتمد في كتابتها القصيدة النثرية، وما يميز قصائدها التكثيف، الايجاز، الغموض، الرمز ، الابهام، الصور الشعرية التلقائية، البناء السردي والدرامي، وتوظيف الرموز الدينية المسيحية، للتعبير عن عالمها الروحي والداخلي العميق.

قصائد ديوانها ” الخيول ” متنوعة في أغراضها، دافئه، جريئة، صريحة، عنيفة، متوترة ومضطربة، مترعة بايحاءات ورؤى شعرية كثيفة، تجمع بين الذات والعام، وتحمل في مضامينها وبين ثناياها الهموم الفردية والجماعية، هموم المرأة ومعاناتها، القضايا الاجتماعية والوطنية والسياسية والانسانية العامة، والحرية المفقودة.

انها محملة بهواجس وآلام المعاناة الذاتية، وتبوح بمشاعرها وخفقات قلبها وارتعاشات صدرها واستجابة جسدها بكل جراة وصدق وشفافية.

ونجد في العديد من هذه القصائد مشاعر الألم والوجع والاحباط وخيبة الامل نتيجة تردي الأحوال والأوضاع الاجتماعية والسياسية، وهذا ما تعكسه وتجسده قصيدة ” وجع من لحم وتراب ” .. فتقول:

منذ شربنا من البئر

ضعنا

أنت وأنا

سيرة عطشى

نسل أنين

ماضينا

كأس موت

عهد تراب.

يكسرنا الماضي

ملء الصفحات

وجع

من لحم ودم

نعيد مواعيد الوعد

والوعيد

مستقبلنا كتب في الماضي

يقرأ علينا السلام

ويعيد

هو المستقبل آت

لينفينا من جديد

وتبدو نداء خوري في نصوصها متمردة على الواقع، رافضة القهر والكبت المجتمعي، مطالبة بفك القيود التي يفرضها المجتمع الأبوي على المرأة، على صوتها وابداعها ومواقفها ، وهذا ما نستشفه في قصيدتها ” عذراء زانية “:

عذراء ذئبة

تستدعي الطعنة

تثبتها في الجرح

تتأكد أنها جريحة

تطلق في البراري

صرخ عوائها

أو لا تكون

كانت عطشى

تعرت لتلاقي الماء

قتلوها بالعار دفنوا

أمها في الخلاء

فإن مررت

وحف وحشك بجرحها

أنزفها العواء

تملؤك بالنشيج

تقتلك بكبرياء.

ويحفل ” الخيول ” بالصور التعبيرية التي تستشرف من خلالها الحالة النفسية للشاعرة  نداء خوري، وهذه الصور متلاحقة تتعانق مع الفكرة في سياق متوهج بالحيوية:

يأتينا العطش على شكل كأس

يلهينا بالاشتهاء

وعرائش الجنائز تتقدم

تشرب حسرتنا

وينفتح

باب الخاصرة

معصرة

نعبره

ببعثتا في الأبيض

وتبدأ الجنازات

يتلوها الورد

ونأتي

على صهوة

نطالع منازلنا

وفي وجوهنا

تعوي الأبواب

تصير خيولًا

على باب الخاصرة

ننزف

وينز حليب الورد

على شكل ثدي

طفل مقتول.

ونجد في الديوان الرؤى الجمالية للأشياء والأماكن والصور والخيالات عبر مفردات متوهجة وايقاعات موسيقية متسارعة في بعض الاحيان وبطيئة في أماكن أخرى.

وما يسم كتابة نداء خوري النثرية مقدرتها الواضحة على المزج بين واقعية الكلام والمعاني من ناحية، ورمزية اللغة الشعرية المتخيلة من ناحية ثانية.

وإذا تأملنا هذه القصائد في مستوياتها المختلفة، نجد انها تنبع من منظور انساني ووجداني وفكري خالص.

وتحاول نداء خوري جاهدة اختراق الزمان والمكان، والتعبير عن التوق الانساني الى العدل والحرية والحياة الاجمل والأفضل، وتفيض نفسها بالأسى والاغتراب والتجافي مع الواقع.

وتتجلى ” رسولية ” نداء خوري في عدد من قصائد ديوانها، التي تتدفق بنزيف الكلمات، وتنبض بالحياة والتمرد واللوعة والقلق والأمل والتفاؤل، رغم قتامة الحال وحلكة المرحلة.

نداء خوري تهفو للكلمات وتعانقها، تعزفها قبل أن تكتبها وتنزفها، وفي نصوصها بوح صريح وعاصف باللهب والغضب المستعر في احشائها وبين جوانحها.

ومن نافلة القول أنها نصوص قلقة متمردة منشغلة بالبحث عن وطن نقي ومجتمع صادق، وحالمة بالمستحيل.

في ” خيول ” نداء خوري تحضر  الاسطورة والرموز الدينية والتراثية، وتتشظى الكلمة، وتتحول اللغة الى كتابة شعرية مرئية، وكل ذلك بحسها المرهف وشاعريتها الجميلة، وما قصاندها الا انعكاس لروحها وعاطفتها وعقلها  الرزين الواعي الراجح، ووجدانها الشفيف.

نداء خوري شاعرة متجددة مع كل اصدار جديد، في الكلمات والمعاني والصور، في المضمون والجوهر، في الايقاع الموسيقي، في الطرح والرؤيا والأفكار. فهي تجربة شعرية حققت ارتقاءً عاليًا بالسقف الجمالي لمغامرة الكتابة الشعرية والقصيدة النثرية في مسارها الموسوم بنقلات نوعية على مستوى الوعي الشعري.

نداء خوري، أيتها الصديقة الجميلة الراقية المبدعة والملهمة، بوركت الحركة الأدبية بك وباصداراتك، واتمنى ان تبقي على درب الابداع والتجدد في زمن كثرت فيه الكتابات، مع خالص المودة والتقدير.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .