معلقة غضب: ديوان “رقاع صلاح الدين” للشاعر نظير شمالي بقلم: شاكر فريد حسن 

“رقاع صلاح الدين” هو عنوان الديوان الشعري الذي كان أصدره الشاعر العكي نظير أحمد شمالي، واهداني نسخة منه مشكورًا.

نظير شمالي باحث وشاعر حداثي قدير راق ومميز ، يحتل حيزًا في مسيرتنا الشعرية والأدبية،  ويتوزع نشاطه الابداعي على الشعر الفصيح والعامي المحكي، والقصص ، والبحث التراثي في ذاكرتنا الشعبية الفلسطينية،  والدراسة الأدبية،  وأدب الأطفال.

وكان قد صدر له : ” الفارس الحزين في مدن الموت والغربة، القيء في ظلال المدينة الميتة، طمع ابن عازف الرباب، خليل حسني الأيوبي شاعر في الظل، أنا والناس برحلة عمر في تراب حارتنا، الآخرون في معطف الحزن الأخير، كشكول الناس، والراعي الصغير وثياب العيد “.

وأبرز ما يميز نظير شمالي أنه لا يتصنع الكلام في صياغة تعابيره، فهو قادر على السباحة والغوص في بحر لغتنا الجميلة واصطياد ما يحلو له من مفردات وكلمات تتدفق وتنساب معه كالسيل العارم.

جاء ديوان ” رقاع صلاح الدين ” في ٦٠ صفحة من الحجم الكبير، وأهداه الى صلاح الدين الأيوبي.. صلاح الدين والدنيا.. والى أمثاله من عظماء النفوس.

وهو يحتوي على ٧ قصائد طويلة وهي: ” فاطمة أغنية موقوتة في مخدع السلطان، مرات على عتبات القادسية، صلاح الدين: المراثي والأهازيج، مصرع مصارع الثيران في رقصة العري، ثلج ستائرك هذا المساء، رقاع الى صلاح الدين، وترانيم رمادية في الوله الوحشي الأول”.

نظير شمالي يمتلك كل أدواته الابداعية بقوة ، ويعرف كيف يقتنص الحروف وينسج العبارة. فهو يقترف قصيدته بجنون وجموح وجمال واناقة ورشاقة ولغة باذخة، ويكتب قصائده بأشكال مختلفة ومتنوعة، نثرًا وتفعيلة وموزونة، وغالبية نصوصه طويلة نسبيًا، محكمة وجميلة نصًا وروحاً، قلبًا وقالبًا، معنى ومبنى، ما يدل على نفس شعري عميق.

انه باختصار مقترف لكل أشكال وأنواع الكتابة الشعرية، وله مخزون ثري من الموضوعات والموتيفات المختلفة.

تحمل قصائد ديوان نظير شمالي ” رقاع صلاح الدين ” طابع الحدة والغضب، لما آل اليه الواقع العربي، والتدهور في الظروف والأحوال الحياتية والمعيشية والاجتماعية المأساوية. فنجده غاضبًا يائسًا ومحبطًا فاقد الثقة والأمل من أمة العرب، ومن الزعامات العربية المتخاذلة المتواطئة والمهزومة، ويحن الى صلاح الدين ويتمنى لو يعود كي يحرر البلاد من ربقة الاحتلال.

انه يسلط الضوء على الواقع العربي المتردي، ويسقط ورقة التوت عن سودات الحكام والأنظمة العربية، ويعريهم ويكشف حقيقة سقوطهم في مستنقعات العمالة والعهر، مستخدمًا وموظفًا ألفاظًا حادة ومطلقة، واسلوب ناري مشبع بالانفعال والشحن والصخب الايحائي، ويصف الحكام العرب بأقذع النعوت والأوصاف الموحية، بلغة مميزة ومتشابكة مع نسيجه الوجداني، فيقول:

زناة العرب كلهم كلهم صفقوا لقرابين الوطن!

لم يستحوا، لم يستحوا، وما شاء زنديقهم فعل!

أمنوا القصاص، قصاص العبيد

وما أدراك ما القصاص العبيد؟! وما أدراك ما قصاصهم؟

عبيد ينام بلدهم فيض جهل وخدر

في عوالم السفلس في المواخير المهربة

وفي قات من الجلل والتحشيش هم غارقون

فمن أمن العواقب في الناس، فيهم أساء كل الأدب

اجل، لم تستحوا، فاصنعوا ما شئتموه

ويخاطب نظير فاطمة، ويسألها عن الوطن النازف المنكوب المشتت والممزق الذي نهشته أنياب الذئاب، وعن الليل المدلهم الحالك الذي نعيش بين جنباته:

يا فاطمة!

أي ليل داهم نحن فيه

والعمر منا قد تهاوى قبل اطلاع الصباح!!

مزقًا مزقًا تشتتنا بعد يأس شديد.

ويذكرني نظير بفاطمة الشاعر ابراهيم مالك وعطرها، ولكن فاطمة نظير تختلف عن فاطمة مالك، في كل شيء.

فعند مالك هي الأنثى التي يعيش معها وينشد لها أغاني الحب بكل احساس وانفعال، بينما فاطمة نظير فهي المرأة المتمردة الغاضبة على واقع البؤس والقهر الانساني، التي تحلم بالغد والمستقبل المشرف.

وحتى في دنيا الحب والعشق، نجد شاعرنا نظير شمالي كئيبًا أدكن، فقنديل العشق انطفأ، ولم يعد في القلب رنات للوتر، وما عاد في الأفق سحر للسحر، ولا رائحة للعطر وعبق الحياة، فيقول:

رمادي كئيب وردك، سيدتي

شمعية رسائله، باهت ثوبك الأزرق

رمادية، قاحلة كل الكلمات…

لمن الغناء، سيدتي، وقنديل العشق انطفأ ؟!

ويكثر نظير من استخدام الألفاظ النابية القوية لتفريغ غضبه المشحون وللتعبير  عن سخطه، كالتحشيش، التهديل، التهريج، التدجيل، التصفية، سكين الخدر، نخب الخيانة، سيقان عاج ومرمر، مواخير العروش، وعروش المواخير” وغيرها.

ويمكن القول أن قصائد الديوان ترصد عمق المأساة التي نعيشها، وقد أجاد فيها التعبير عن مكنونات صدره، من مشاعر صادقة النوايا والمعاني، اذ أنه يحمل قلبًا مترعًا بالحسرة، ويسيطر عليه الحزن والاحباط واليأس الشديد.

وغضب نظير هو غضب متحالف ومنساق وراء حلم التغيير للواقع المر المعاش، وفي ديوانه يغلف معانيه بغلاف اللون القاتم المتوائم مع احساس الغضب المتصاعد، ويعلن عبر خطابه الشعري عن أصل الأمر يعود الى خيبات الأمل والأماني وغياب الأمان، بعدما فسدت الذمم، وتلون المداوي بلون الخداع، حيث لم يعد هناك أمل في علاج ولا شفاء، ولا حتى عزاء. فالجرح عميق، والشكوى لا تعزينا.

ويتجلى التوظيف الحقيقي لمفردات نظير شمالي في عمله الرائع المؤثر، حيث تتضافر فيه موجات الشحن الانفعالي الغاضب بموجات الأبنية الشعرية الممتدة والموظفة لخدمة روح المضمون الشعري الصادح بمعاني الرفض لكل ما يجري على أرض العروبة من تدنيس وتخريب ودمار وقهر وسفك دماء وخيانة كبرى وتآمر على قضية وحقوق شعبنا الفلسطيني.

نظير شمالي شاعر ثوري في الفكر والفن والشعر، يحذف الفواصل بين شعره وشخصيته، فهو واقعي الرؤيا، ينفذ الى قلب الانسان، يفجر أخطر القضايا، مؤمن بالتمرد والثورة على الواقع الفاسد والمدجن، منطلقًا من مفاهيم مرتكزة على أصول فكرية وثقافية.

وليس نظير شمالي في شعره الغاضب الرافض الا ثمرة حية من ايمانه العميق بالأدب الصادق، ورسالة الشعر الحقيقية. فالفن الابداعي المؤثر والفاعل الملتزم لا يولد الا اذا كان المبدع أو الفنان حرًا، وكانت حريته هذه عميقة في داخله. وقصيدته تحمل صوت الغضب والثورة والتمرد، وتطرح الموقف الانساني والسياسي والفكري المنحاز للجماهير دون مواربة.

نظير شمالي قامة شعرية متفردة، يستمد وجوده الشعري وحضوره الابداعي من خصوصيته الشعرية على المستويين الموضوعي والفني، انه شعرية تنزع الى الحب والحرية والعدل والجمال الكوني.

وما قصائد ديوانه ” رقاع صلاح الدين ” الا دليل ساطع على شاعريته الفذة، وعلى غضبه الساطع، وغلبة موضاعات الواقع العربي الراهن، واقع الذل والمهانة والسقوط الأخلاقي.

ويمكن اعتبار هذا الديوان بلغته واسلوبه ومضمونه من أجود وأجمل ما صدر في  بلادنا في السنوات الأخيرة من دواوين شعر .

فلنظير شمالي محبتي وتقديري، على أمل أن نلتقي به في اصدار شعري آخر .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .