تأملات في فكر وممارسات قوى الإسلام السياسي

 

يقول المؤلّف (عبد الغني سلامة) عن الكتاب :

“الإسلام السياسي مصطلح برز في ثمانينات القرن الماضي، وهو ليس على شاكلة واحدة، فهناك قوى معتدلة تبحث عن السلطة من خلال الانتخابات، وقوى متطرفةٌ تستخدم العنف، على أن أغلب قوى الإسلام السياسي تطرح نظريات شمولية تسعى إلى أسلمة كلّ مظاهر المجتمع… الغرض من الكتاب هو توصيف الجماعات والقوى والأحزابِ التي تعمل تحت غطاء الدين والفصلِ بينها وبينه، وإيجادِ علاقة بين حركات الإسلام السياسي، والطائفيةِ، والتكفير، والعنف الديني، ويُستنتج أن معظمَ الحركات تورطت في المسلكيات الثلاث.”

وقيل عن الكتاب:

“الكتاب تصدٍّ واضحٌ لأولئك الراغبين في الإقامة في الماضي، ويخوض في منطقة خطرة يتوجب على المثقفين خوضُها دائما… العنوان مغرٍ لأنه يتعلق بموضوع ملحّ وآني، وأهميةُ الكتاب تنطلق من جرأته الأدبية والأخلاقية في تناول الموضوع”.

وأقول: أن الكتاب\البحث\ الدّراسة أكثرُ من ذلك وأكبر، ولا يمكن لمداخلة أن تفيه حقّه، وهو حريّ بالقراءة، وأضيف:

في فاتحته التي أسماها الكاتب: “قبل البدء وباختصار شديد”، ص6 يكتب:

“هذا الكتابُ يتعامل مع التراث الإسلاميّ بوصفه تجربةً تاريخيّة، صاغها آدميّون من لحم ودم، وكلّ ممارساتهم كانت ممارسةً بشريّة، وأفكارُهم وتصوراتُهم عن الإسلام، وتأويلُهم للقرآن، وفهمُهِم الخاص للدّين.. إنّما هي أيديولوجيّةٌ بشريّة…”

وقبل هذا الكلام، يقدّم الكاتب لنا نصيحة، ومسبقا أقول ورغم مثلنا الشعبيّ القائل: “كانت النصيحة بجمل وصارت بْبلاش ما تنقبل” لم أقبلها، وأمّا النصيحةُ فهي:

” أنصح كلّا من هؤلاء أن لا يقرؤوا الكتاب، ويعدّد منهم:

  • القراءَ الانتقائيّين… محمّلي النّص ما لا يحتمله، وتقويلَه ما لا يقله…
  • أصحابَ الأحكام المسبقة…
  • رافضي النّقد…”

 

لم أقبل النصيحة انطلاقا من انتمائي الجزئي للمجموعة الأولى، من أسماهم الكاتب القرّاءَ الانتقائيّين محمّلي النصَّ ما لا يحتمله، لأنّ إيماني أن النّص وحين يخرج من يد الكاتب ويرى النور لا يعود ملكَه، وحقّ مطلقٌ للقارىء أن يحمّله ما يشاء، لأن كلّ نصّ حمالٌ، شاء الكاتب ذلك أم لم يشأ، وتحميلُه وعدمُ تحميلِه راجعان للنّص نفسه، وإذا وجد القارىء فيه ما يُحمّل ويحتمل فذاك ل-“توك” في الكاتب وليس بالضرورة سلبيّا، وسأعود إلى ذلك لاحقا.

أمّا الآن فما الجنى الذي نستطيع أن ندلوه بدلونا من الكِتاب، نحن كأقليّة وطنيّة عربيّة في بلادنا التي صار فيها دولةٌ ليست لنا وكثيرا قبل قانون القوميّة، إضافة طبعا للجنى الكثير من المعلومات المهمّة في صيرورة وسيرورة مسيرتنا، وهي كثيرة؟!

هذا السؤال أو التساؤل مهمّ على ضوء خلاصةٍ يجب ألّا يساورَنا أدنى شكّ حولها: أن كينونَتا الوجوديّة اليومَ لم تعد الموضوعَ وليس لعدم وجود ما يهدّدها، وإنّما لأننا نملك من الحصانة قدرا ألا نفرّط بها مهما حصل. علما إنّ هذا الوجودَ نتاجَ البقاء كان خطأ تاريخيّا ارتكبته الصهيونيّة إلا أنها لم تعيه إلا متأخرا وارتجاعيّا خصوصا وإنها بقلم رصاص قبلت المثلّث في دولتها.

يغيب عنّا، أن %80 إن لم يكن أكثر، من فلسطينيّي البقاء كانوا حسب قرار التقسيم نوفمبر 1947 في مناطقِ الدّولة العربيّة. تكفي نظرةٌ منّا على خارطة التقسيم لنعرف أن الجزء الّذي خصّص للدولة اليهوديّة “نُظّف” من العرب. فالصهيونيّة لم تتوقّع ذاك التخاذل العربيّ حتّى رغم الهزيمةِ، وبالتالي التخلّي الأمميّ عن احتلالها الأجزاءَ التي نحن سكّانها من الدولة العربيّة، فبقينا.

على ضوء كلّ ذلك صار المستهدفُ من وجودنا وبعد أن استحال قلعُه، هو مواطنُ القوّة فيه؛ الأرض كي يبقى وجود فقير دون ظهير اقتصاديّ استقلاليّ، والوحدةُ القوميّة والوطنيّة كي يكونّ أقليّاتيّا طائفيّا ومذهبيّا مؤسرلا، والتنوّرُ والتقدّم حتّى يبقى متخلّفا ذهنيّا- و”العبرة مش في الشهادات”- وابن التخلّف الأكثرُ من “ّطبيعيّ”، العنفُ بكلّ أشكاله المميتة وألوانه المقيتة.

ربّ سامع قائل: “شو طال ذيلُهْ لعينُه؟”

وأردّ: لا… طال ونُصّ!

عدوّك لا يريد لك الخير ولا يتمناه لك وسيفعل “السبعة وذمّتها” ليكبّ عليك كلّ الشّرور، ومعرفةُ ذلك ليست عبقريّة، وتحميلُه كلّ موبقاتك لا تشبع من جوع ولا تروي من عطشٍ، ولذا فالأهم السؤال: ما هو دورُك في تقبّلِ هذا الشرّ لا بل وصُنعِه!؟

في الكتاب موادُّ غنيّة تصلُح أن تكون إجابةً لهذا وإن كانت تتناول الدّائرة الأوسع، وقد نجح الكاتب إلى مدى بعيد، ومن هنا “طال ذيلًه لعينه!”

 

وللمثال…

أولا، في الطائفيّة والقضيّة الوطنيّة:

الكاتب يتناول في الكتاب ابتداء من ص71 تعريف الطائفيّة ومخاطرَها ونتائجها، والطائفيّة والوطنيّة والمجتمع المدنيّ، وطائفيّة الأحزاب السياسيّة، وإن كانت الدولة الدينيّة طائفيّة بالضرورة، والعوامل الخارجيّة في تأجيجها، وخدمتها للصراعات السياسيّة في منطقتنا، والطائفيّة والصّراع العربيّ الصهيونيّ، ويفتح نافذة على الحلّ.

يُمكن أن يكون للقارىء رأيٌ أخرُ في التعريف الذي اعتمده الكاتب وحصرِها في النّظام، ولكن بغضّ النظر، فإنّني أعتقد:

نتجمّل، والتجمّل نوع من الكذب، إن كنّا ندّعي أن الطائفيّةَ لا تنخرُنا وتفاقمت بين ظهرانينا زمنيّا وسببيّا تماما كما يقول الكاتب عنها في بقيّة المواقع من وطننا العربيّ الكبير، وكذا في الدّول الإسلاميّة. الكاتب كما قلت يفتح نافذة على الحلّ وأعتقد أن علينا نحن هنا الولوج من تلك النافذة، لا بل أن نجعلها بابا مُشرعا، إن أحسنّا قراءة ما يقول وإضافةً على ما يقول.

الطائفية وإسقاطاتها لا تشفيها قوائم انتخابيّة “مْوَنّسِهْ” لا قطريّا ولا محليّا، ولا يشفيها “حشو” النقاش تحت السجاجيد ومهما اخملّت. وفي السّياق الكاتب يتطرّق بعمق إلى المصائب التي حلّت بنا حين أقفلوا علينا أبواب الاجتهاد.

وثانيا؛ في باب العنف ص191:

العنفُ صار صباحَنا ومساءَنا، فمن منّا لا يشغله هذا الموضوع ويوميّا وعلى المستوى الفرديّ والجمعيّ، وعطفا على ما جاء أعلاه عن التحدّيات الوجوديّة التي نواجه لتشويه شكل وجودنا، فإنّنا نتخبّط في أسبابه، وكعادتنا المتأصّلة، لشديد الأسف، نضع دائما الحدّ في “موارس” غيرنا، وفي سياقنا المؤسّسة، وكفى المؤمنين شرّ القتال، جريا على مقولة أحد القادة عندنا مرّة: “إن ما طلعت الخبيزة الحقّ على الحكومة”.

العنف في موروثنا قبل الإسلام وبعد الإسلام ودعونا لا نطمر الرؤوس في الرّمال. الكاتب وبجرأة يُغبط عليها يتناول هذا الموضوع وجذورَه رغم إنها جرأةً “محدودةُ الضّمان” أحيانا، ولكنها تبقى جرأةٌ مغبوطةً يضع فيها الكثير من النّقاط على الحروف.

الإشكاليّة تبقى في الحلول التي يطرحها وجزئيّتها ووقوفِه عند حدود أستطيع أن أتفهّم جزئيّا عدمَ قدرته على تخطّيها، خصوصا عندما تلامس النّصوص. ربّما يتوقّع منّي السامع أن أفصح وأفصّل ولست بفاعلها، أولا لأني مجرّد متداخلٍ وثانيا والأهم لأن ما جاء في الكتاب أكبرُ كثيرا من مداخلة وأيّ مداخلة لا تستطيع تغطيتَه، فليقرأ المعنيّ الكتاب وهناك سيجد ما يشبع فضولَه وزيادة، في هذه وفي غيرها.

في هذا السياق، وإن كنت خصّصت الجزء الأخير من مداخلتي للمآخذ على الدّراسة، ولكن وبما أن الكاتبَ يتناول في هذا الباب موضوعا جدَّ مهم وتحت عنوان لافت: ” الكبت الجنسيّ والعنف المقدّس”، وجدته يكتب:

“وفي حقيقة الأمر فإن نظرةّ الكنيسة للمرأة والجنس كانت من نفس الزاوية التي رأتهما فيها الدّيانة اليهوديّة من قبل، بل وامتدادا لها، وفي مرحلة لاحقة، حمل الإسلام السياسيّ على يد بعض الفقهاء، ومنذ وقت مبكّر نفسَ المفاهيم…” ص207

ربّما يكون الجزءُ الأوّلُ من هذا صحيحا، ولكن هل الجزءُ الثاني صحيح: “الإسلام السياسيّ الّذي حمل أم الإسلام؟!”

وهنا لا لابدّ من الإشارة إلى مؤلّف الدكتور محمّد شحرور: “الكتاب والقرآن”، والذي اعتمد الكاتب بعض أدبيّاته في سياقات أخرى، لعلّ فيه إجابةً!

وثالثا؛ الأدباء والدّين:

الأدباء؛ مفكّرين كانوا أو كتاباً أو شعراء أو فنانين، يعني؛ مثقّفوا الأمّة، كلِّ أمّة، كانوا عند كلّ الشّعوب وما زالوا متقدّمي الصفوفَ وعلى الأقل بخرائطِ طريق أمام الأمم، وليس الأمر عندنا كذلك إلا على ما قلّ، فالغالبيّة غائصة فيما غائصة فيها الصفوفُ من كوابح “ميراثيّة موروثيّة”. الكاتب يلج هذا الموضوع ص 148 و153 وما يقوله هنالك حريّ بالاطّلاع وعميقِ تفكير.

أمّا المآخذ، ومن باب عدم قبولي النصيحة وحقّي في تحميل النّص لأنه صار ملكي ولأنه يحمل في كتابنا، فهي:

أولا: ص43 يكتب الكاتب: “… الكثير من حركات الإسلام السياسيّ الأصولي أيضا لا تؤمن بالقوميّة العربيّة وتصفها بالمقيتة والنتنة، ولا تؤمن بالنزعة الوطنيّة وتعتبرها غريزة حيوانيّة، وتحارب العَلمانيّة بوصفها شكلا من الكفر والتعدّي على الدّين ووو … وهي تحمل مشاريع تفكيكيّة للدولة الوطنيّة، فهي في سعيها لِ… ولِ… لن تتورّع عن الاستقواء بالقوى الخارجيّة… والأمثلة على ذلك واضحة وكثيرة وأبرزها إمارة حماس في غزّة وحزب الله في الضاحية الجنوبيّة و … و … داعش في بغداد وطالبان في أفغانستان…” هكذا!

ثانيا: ثانيا ص276 وتحت عنوان؛ “نماذج لبعض الحركات الإسلاميّة” يكتب: “… تشهد العديد من البلدان الإسلاميّة صراعات داخليّة طاحنة و … و … في لبنان خاض “حزب الله” مغامرتَه (2006) بعد أن تعمّد استفزازَ إسرائيل بهدف جرّها إلى حرب توقّع أن تكون “محدودة” تعيد ترتيب أوراق المنطقة كما تشتهي مرجعيّاتُ الحزب العابرةُ

 

 

للحدود، ولكن النتائجَ كانت كارثيّة و …”. ويضيف: “ثمّ أعادت حماس نفسَ السيناريو … “. هكذا!

خلاصة اعتراضيّة: الكاتب اعتمر قبّعة الباحث في جلّ ما كتبه، فاعتمد المصادر المرجعيّة والتحليلَ والخلاصاتِ ونوافذِ حلول، كما قال هو، ولكنّي أعتقد أنه في “لحظات تخلٍّ” لبس قبّعة السياسي صاحبَ الرأي المسبق في كلّ مرّة تناول فيها ما هو مُصطلح على تسميته محورِ المقاومة. هنا حشره حشرا ولعلّ في عدم ولوجه في أدبيّات أيّ من هؤلاء كما فعل عند الآخرين، البيّنة. أعتقد أن الكاتب أراد ذلك غطاء ليس إلا في وجه من يمكن أن “يتنطّح” له سائلا: لماذا تكتب فقط عن الأصوليّة السُّنيّة؟!

ثالثا: ص114 وتحت عنوان؛ “الطائفيّة والصّراع العربيّ الصهيونيّ”، يكتب:” تحاول الدوائر الصهيونيّة ومنذ نشأتها تصويرَ الصّراع العربيّ الصهيونيّ على إنه صراع دينيّ طائفيّ و … و … وهذا لا يعني أن الإسلام السياسيّ في فلسطين محصّن ضدّ الطائفيّة، فمن المعروف أن الجماعات الإسلامويّة تتعاطى مع الصّراع العربيّ الصهيونيّ على إنه حرب دينيّة بين المسلمين واليهود، في هذا الطّرح بذور للطائفيّة لأنه يستثني المسيحيّين و … و …”

وقد خصّص الكاتب لهذا الموضوع صفحتين ونصفا وصْفًا ليس إلّا، ودون أن يلج عميقا في الموضوع لدحضه وعلى الخلفيّة التاريخيّة الوطنيّة اعتمادا على وجودنا الوطنيّ الكنعانيّ. وأعتقد أن ذلك كان ضروريّا على الأقل على خلفيّة الإشكاليّة التاريخيّة الدينيّة في كلّ ما يتعلّق بالتواجد اليهودي التاريخيّ في البلاد، توراتيّا في سفر إشعيا وقرآنيّا في سورة يوسف، واكتشافات تل العمارنة في مصرَ.

الحديثُ يطول في هذا السّياق، ولكن المسألةَ من العمق بمكان بحيث كانت تستحقّ من الكاتب أن يغوص فيها عميقا وأعتقد أنه كان قادرا وامتنع!

رابعا: لم يخلُ الكتاب من كمّ كبير من الأخطاء اللغويّة كان بالإمكان تجنبُها.

أخيرا؛ تأمّلات عبد الغني سلامة تستحقّ القراءة وأكثر:

إن كنتَ من أولئك الذين نصحهم الكاتب ألا يقرؤوا الكتاب، أو لم تكن، وإن كنت تقبل النصيحة “لا تردّ على الكاتب واسمع منّي واقرأ الكتاب وما بدّي منّك جمل!”

عبد الغني…!

بوركت، وما أحوجنا لمثل هذا الصّوت حتّى لو أنه بُحّ في بعض المواضع وقصُر في أخرى، ولكّني أرى في تركك الخاتمةَ مفتوحة اعترافا أنّ المهمّة أكبرُ من أن يرفعَها صوتٌ وفقط، وهي بحاجة لأصوات كثيرة ومن ذوي القربى عينيّا و-“فهمكو كفاية” بما أقصد ب- “عينيّا”!

وليس فقط لأنّ أهلَ مكّةَ أدرى بشعابها، وإنّما حتّى تُقطع الطّريق على الطائفيّين!

 

(ألقيت هذه المداخلة في نادي حيفا الثقافي في أمسية إشهار دراسة “الأصولية  الإسلاموية الجديدة” للباحث عبد الغني سلامة.)

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .