شاكر فريد حسن
الأستاذة هيام ابو الزلف شاعرة وقاصة وناقدة قادمة من أعالي الكرمل الشامخ ، تعيش قصيدتها بكل خلجة شعورية من خلجاتها ، وهي مسكونة بالوجع الشعري .
هيام من مواليد عسفيا في الثاني والعشرين من كانون الثاني العام ١٩٦٠ ، عشقت الحرف والكلمة منذ نعومة اظفارها ، ولقيت الاهتمام والتشجيع من والدها الصحفي شفيق منصور ،،الذي كان يشتري لها كتب الاطفال لها لتقرأها، وخاصة كتب كامل الكيلاني ، وهي تكتب كل ما تشعر به ، ولم تصدر باكورة نتاجها الشعري الا بعد اربعين عاماً من ” التيه” في محاور وفضاءات الابداع ، وبعد طول انتظار وترقب وترتيب الاوراق حتى نضجت بالكامل ، وهي تزهو وتسمو الى رحاب الأبجدية .
تجربة هيام ابو الزلف الممتدة واضحة المعالم ، ولها القدرة على الخلق والالهام الشعري ، وتتمتع بطيف واسع ورحب ، تتنفس الحبر أنيناً وحنينا. ، وخفقات عطاء ، ونبضات قلب وروح ، تكتب حروفها على اوراق الخريف المتناثرة ، التي تفيض شوقاً وحنيناً لاهباً ، وتسيل لعاباً من مداد يراعها ، او ليست هي القائلة :
نثرت الشعر على النثر بكفي
مدىً للحب لا يحصره سور
فما كانت مساحات المعاني
سوى سجن يعاتيه الشعور
عباراتي تخون القلب دوماً
وبوح الصمت تخفيه السطور
هيام ابو الزلف تابعت كتاباتها منذ اكثر من اربعة عقود ، ومنذ ان بدأت تنشر محاولاتها وكتاباتها في صحيفة ” الأنباء” المحتجبة عن الصدور ، وقد وجدت من خلال سبر اغوار نصوصها انها تحمل دفقاً وسيلاً شعورياً وجدانياً ونفسياً ولغوياً ، وتحمل كذلك صداها وارتعاشاتها، وانها تعبير عن ألم ووجع انساني حقيقي نابع وناتج عن الولادات والاجهاد في الصور الى الضفاف الأخرى ، وهي مستودع للعبارة الرشيقة الرقيقة الناعمة ، وموهبة شعرية متألقة تتميز بروعة الأداء والصياغة للروح المشرقة ، والنفس الشعري الأصيل ، والبلاغة الجميلة ، والعاطفة الرزينة العميقة بأبعادها الشعورية وصورها المبتكرة بجماليتها وحيويتها ، وتسكب حروفها بجمالية فنية واسلوبية ذات بصمة مميزة كنتاج لتجربة طويلة وخبرة وتعمق واهتمام بالجوانب الفنية للغة وحالات التمظهر فيها ، والماماً بالقوالب والالوان والأصناف الأدبية الابداعية .
هيام ابو الزلف تتعامل مع الأدب والشعر كشغف وحاجة روحية ، انها تطارد الكلمات ، وتسبح في بحر الخيال الشاعري ، تغازل النجوم والقمر والصمت على صهوة الكلام ، تناجي مياه النهر وخرير الماء وحفيف الشجر ، فترتوي القلوب والجداول حباً وأملاً وجلنار .
هيام ابو الزلف تشدو للطبيعة الغناء ، والكرمل الأخضر ، ترثي عشاق القلم والكلمة الملتزمة واعلام الشعر الذين فقدناهم تباعاً ، نزيه خير وسميح القاسم وسلمان ناطور ، تناجي الحبيب ، وتكتب عن الحب والارطان ، وتحاكي الواقع الاجتماعي البائس ، وتغوص في عوالم المرأة والانوثة والخصب ، وهموم الانسان ، والكينونة ، والوجود ، والفراغات النفسية والمادية ، وتسعى للبحث في هذه القضايا الانسانية الحارقة ، وبحسها الانساني العاطفي وكلماتها وتعابيرها والفاظها الجميلة الراقية تمنحنا الدفء وتعطينا الامل وتبثه في نفوسنا ، رغم الالم والوجع .
هيام ابو الزلف ، كما قالت عنها المبدعة د. راوية بربارة مثل غالبية النساء والمبدعات في مجتمعنا المحافظ التقليدي ، تخشى البوح ، وتخاف قراءة المجتمع للنص وكأنه هي ، وكأنه واقعها الذي تعيشه أثناء القراءة لندخل حجرات قلبها ونكشف الأسرار ، لذلك طال صمتها :
لقد طال صمتي وحار الفؤاد
ومالي من الامر يغدو علي
وما كان لها منفذ الا الكتابة
وكم شاغل الحرف فكري لانجو
ويبدو لي الموت مني الي
لكنها على بوحها ما زالت تخشى المجاهرة بمشاعرها وتقسو على نفسها فتكتب كلماتها وتستر المعاني وتراعي طقوس العبادة ، رغم أن حبها عبادة :
اراني وأرى شعوراً تعالى
فحرفي خجول ويبقى
شقياً
وسادية الصمت فيها بلائي
وان مت جهراً
فاقسو علي .
اننا امام أديبة وقصصية وروائية وشاعرة مرهفة تتقن لغة الحير بشكل لافت ، وامام مبدعة لا تؤمن بأن الورد هو ملك الزهور ، وبأن النسر هو ملك الطيور ، فإضمامتها الشعرية التي قدمتها الينا عبر سنوات طوال ذات الوان واصناف شتى ، فهي تعطر سماءنا بأجمل الطيوب والروائح الشذية الندية .
وامام من تمتلك الموهبة الصادقة الحقيقية والتجربة العميقة التي تنزف الماً وجرحاً ، وتجعل من الكتابة الابداعية غاية ، بل وسيلة من الوسائل غير المتناهية لفهم معنى الحياة بكل ابعادها، انها تعتمد التكثيف والايحاء والتأويل ، وما تخطه من شعر يأتي واضحاً وأنيقاً وبسيطاً وعميقاً ،فهو غيوم من الرقة والذوق والجمال الروحي ، فننتعش بعطر غيوم ياسمينها ونبضات حروف وجدانها المرهف .
” اسار الكلام ” هو العنوان الذي اختارته هيام ابو الزلف لمجموعتها الشعرية الأولى ، التي اهدتها الى كل من يؤمن بقيم الحق والخير والجمال ، في كل زمان ومكان ، والى كل من بحدث – تغييراً – ولو بسيطاً ، في هذا العالم نحو الافضل ، والى كل من يعزف على وتر الخير في نفسي ، والى بناتها الغاليات سحر وغادة وامل وغالية وسارة ، والى رفيق الدرب سليم ابو الزلف .
مجموعة هيام الشعرية متعددة المحاور والاغراض والموضوعات والموتيفات ، فيها قصائد حب وعشق وحزن وبكائيات ومراثي ، وبوح وجداني عاطفي ، وشعر وطني واجتماعي ومناسباتي ،صادق الاحساس ، ووصف لجمال الطبيعة وما يحيط فبها . فهي اضمامة جميلة من الزهور نستمتع بأريجها وشذاها العبق ونترنح بسناها الفياض ، مصبوغة بالألوان الطبيعية الزاهية ، وصادرة عن القلب ندية زكية وعفوية .
اننا نلمس في هذه القصائد، المعنى الجميل والالفاظ الهادئة ، والشفافية ، والسلاسة ، والرقة الجمالية ، وقوة السبك ، والأداء الحسن ، والايقاع الموسيقي ، والشاعرية الخلابة .
هي نصوص عفوية شفافة ، جاءت تلقائية من نبض روحها ، بعيداً عن الحشو والاسهاب والاطناب ، لا تتصنع الحالة ولا تستعير اسلوباً من الأخرين ، انها لا تكتب الشعر ، وانما تكتب القصيدة ، بحيث ان هنالك فارقاً واختلافاً ما بين الشعر والقصيدة ، فالشعر موجود في كل تفاصيل حياتنا ، بينما القصيدة فهي بناء هندسي محكم ومحسوب .
لقد راقني واعجبني وادهشني ما جاد به قلم شاعرنا الجليلي الجميل تركي عامر في حفل اشهار ديوانها ، حيث قال : ” في كتاب هيام ( في اسار الكلام ) تجدون كلاماً يعيد البريق لفن الكلام / تجدون كلاماً يقول كلاماً بدون كلام يترجم بوح الهيام / تجدون كلاماً يعيد الحياة لما فاتنا من رميم وعظام / تجدون قصائد حب بإبرة حلم وخيط سلام / تجدون قصائد حرب على حلفاء الظلام .
النص الشعري عند هيام ابو الزلف فضاء متعدد الأبعاد ، تتعدد اضلاعه كتعدد الموضوعات والمضامين التي ينطوي عليها ، والعشق الوجداني يمنحها عاطفة عامرة ، ولا يمكن لأي قارئ اقتحام عالمها ودنياها الشعرية ما لم يكن محصناً بثقافة لغوية وتراثية .
هيام ابو الزلف شاعرة تمتلك رؤيا واضحة ، تصحو على مذبح النهر ، وتفيق على فنن قافية ، تتجرع حنينها للردى واعادة الصبيب لمجرى الكلمة كي تكتسي سندساً من خضرة ، وتقترن بالكلمة المنحوتة التي تضفي عليها السحر والبهاء ، واودعتها كل الاسرار .
الكلمة طريدة لدى هيام ابو الزلف ، وعملية اقتناصها تحتاج الى وقت ومهارة فائقة ، ولعل مبالغتها في التقاط واصطياد الكلمات المناسبة في المقام اللائق بها صوتاً وحرفاً وتركيباً ، واللغة في تجربتها بهاء وجلال وصفاء اذ بلغ بها تعاملها معها الى درجة الشعور بنوع من القدسية تجاهها ، فهي النواة التي شيدت بها صرح عالم شعري غني بالصور ومتماسك البناء.
هيام ابو الزلف شاعرة فصيحة اللسان والبيان ، لديها قريحة شاعرية ممتزجة بعاطفة حساسة قوية ، واكثر ما يعجب في شعرها رهافة الفاظها وسهولة تعبيرها وجمال موسيقاها ، وهي التي تؤثر الايجاز متى استوفت القصد والمعنى الذي تبغيه ، وقد جاءت نصوصها من اعماق القلب كتراتيل وتسابيح واناشيد صلاة وخفقات ونبضات فكر وروح وسنابل فرح .
تحية دافئة الى شاعرتنا الكرملية هيام ابو الزلف ، ونتمنى لها مزيداً من العطاء الشعري والادبي ، وننتظر بفارغ الصبر روايتك المخطوطة ، ولك الحياة الرغيدة العريضة .