اهدتني الصديقة الشاعرة استقلال بلادنا المعروفة ب ” ابنة البروة ” اصدارها الشعري الأول الموسوم ” آسفة على الازعاج ” ويضم بين دفّتيه مجموعة من النصوص والمقطوعات الشعرية والنثرية التي كانت قد كتبتها ونشرت غالبيتها، ونلمس فيها ثورة داخلية عارمة تجتاح الشاعرة، لما تحس به من قلق واحباط نتيجة الوضع الراهن والصراعات التي تحيط مجتمعنا وأمّتنا العربية من محيطها حتى خليجها.
وتبدو استقلال في ديوانها شاعرة جريئة، غاضبة، متمردة، مهمومة، حازمة، لا تعرف الزيف ولا المداهنة ولا الاستسلام، معجونة بفكر وطني وطبقي واع وسامق، واحساس فلسطيني وطني قوي، مجبولة بالحزن والعشق لوطنها وبروتها وترابها، ملتحمة بقضايا شعبها وهموم أمّتها ومجتمعها، منحازة لفقراء الشعب وبسطاء الناس وعامة الشعب، تستوحي أشعارها من واقعهم ومعاناتهم وهمومهم ومأساتهم الانسانية، وتكتب عنهم ولهم بلغة بسيطة وشفافة قريبة من ذائقتهم الشعبية.
انها، كما تقول عن نفسها، تلك الانسانة البسيطة المتمردة التي امتلأت مرارًا وتكرارًا بكل أسباب الموت فاختارت الحياة.
وهي من عشاق الصمت، التي تعطي كل قلبها أينما تحلّ فيدوسه الظلاميون ويجاوزون المدى فتقضي اوقاتها وهي تردد: تركت اجدف قوارب الحب، فأين مجاديفكم والمغارف؟
وتصرخ قائلة: ” اغرفوا الحب من منابع قلبي واغسلوا في قلوبكم ” المقارف “!
وهي رهينة المحبسين، تعيش بين نارين، نار الحروب اللعينة، ونار مجتمعها الظالم .
والقصيدة لدى استقلال كما تقول : ” ليست اختراعًا، انها لوحة أدبية تتشكل من كلمات مألوفة، قابلة الصياغة في كل مرة من جديد، شرط انتقاء الكلمات الاولى فيها بحذر شديد فتتوهج من اللوحة صورة ” غير مألوفة ” لأمر ” مألوف “.. وهل رأيتم حجارة صمّاء تسدّ مياه الوادي !!!.
فبعد زحزحة الحجارة من مكانها تتدفق المياه في الوادي جريانا جريانا .. هكذا شأن القصيدة حيث تنساب فتؤثر، ولا يبقى في الوادي غير حجارته “.
لقد استمتعت بقراءتي لديوان استقلال بلادنا، وانا الذي كنت شاهدًا على ولادة قصائده وقراءتها من قبل ، فاستهوتني وشدّتني اليها بمضمونها واسلوبها العفوي المنساب.
فهي قصائد بسيطة التعابير والمفردات، عميقة المعاني والدلالات، ذات ايحاءات وأبعاد مختلفة، تحمل الطابع الوطني والسياسي والاجتماعي، تعبر عن معاناة ومأساة شعبنا، وتعكس الهموم الوطنية والجماعية، وعذابات الانسان الفلسطيني ومعاناته من القهر والظلم والتمييز العنصري والاضطهاد القومي.
وهي قصائد غاضبة، متمردة، شفافة، صادقة وواضحة، نستشفّ فيها روح مظفّر والنفس النوابي، وتؤكد حبها لشعبها، واعتزازها بهويتها وانتمائها وفلسطينيتها وعروبتها، ونجد فيها الكثير من المعاني والاشارات والدلالات الوطنية والاجتماعية والانسانية. وتتسم بشعور وطني جارف، واحساس وجداني مرهف، وعاطفة متدفقة.. فلنسمعها تقول في قصيدة ” ظل بلادي ” :
تضاريس وجهي تؤلم الناظر
قد تغيّرت
وتضاريس بلادي
الماء الأبيض في عيني
يقلقني
ومجرى الماء في الوادي
قد تغيّر !
معالم وجهي آسرة تشد الناظر
يرى قلبي في عينيّ
ومعالم بلادي
عيناي ترنوان للسيادة
وحلمي يطاردني فيهما
لا يغادرني
هو ظل بلادي”
ولا تتوقف نصوص استقلال بلادنا عن تصوير نكبة الفلسطينيين والتهجير من بروة الدرويش، ورصد الهموم الفلسطينية ومعاناة الأهل في الداخل الفلسطيني اليومية، بل تنطلق الى آفاق رحبة وفضاءات وأمكنة أخرى، فتكتب عن المفاوضات العبثية، وعن غزة وصمود شعبها ومقاومته، والحرب الدامية المستعرة في سوريا الشام، والارهاب الظلامي في البلاد العربية . وتبعث برسالة من تحت السماء للشاعر الغاضب أحمد مطر ، نقطف منها:
بعون طعنتين من عندي حتى عندك موصولتي النزف
من ” قلب بلادي ” حتى ” كبد بغداد ” دونما حذف
وانا أعزف على جرحك يا صديقي وجرحي:
آه من ” جدف حتفك ” يا صديقي وحتفي!
آه من ” قصف عمرك ” يا صديقي وقصفي!
عدوك عدوي يا صديقي
آااه وشرفي!
طعنة تسلم ع نواحي شط العرب
وتمرّ ع ” تنومة ” شي خطفي…
وتضمن استقلال نصوصها رؤىً وصورًا متداخلة ومتآلفة تبدو مقطعًا شعريًا وجدانيًا متجانسًا وقصيدة عضوية، وحالات الكتابة مختلفة لديها بين القوة والمتانة والتماسك والرقة والتمرد. وللحب والوطن حضورهما المزدوج والمتفرّد في عمق نصوصها، ونجدها تلجأ الى استخدام الحوار المسرحي والروح القصصية السردية والدراما والتناص، وهذا يبرز بشكل جلي وواضح في العديد من قصائد الديوان.
وغني عن القول أن قصائد ديوان ” آسفة على الازعاج ” هي صرخات غضب، ومشاعر وطنية وانسانية صادقة، وسمفونيات عشق للوطن والبروة بشكل خاص، وتعرية للواقع الاجتماعي والسياسي، الذي يسمه الزيف والتلون والنفاق والرياء والانتهازية والشيزوفرينا، وصرخة بوجه أنظمة العهر والعمالة، وقوى الظلام والتخلف.
استقلال بلادنا نذرت شعرها لوجدان الانسان الفلسطيني المهجّر من أرضه ووطنه ويحلم بالعودة، وصورها الشعرية تنبض بالحياة والمشاعر الحقيقية، وتتدفق مثل السيل بانسيابية، وبصياغة شعرية فنية لا تكلّف فيها، بلغة سلسة بسيطة تخاطب الفكر، وتلامس شغاف القلب والروح، وبأسلوب خال من التعقيدات التعبيرية، وبعيدًا عن اللغو والحشو الفارغ.
“استقلال بلادنا” يمامة جليلية تشدو عذب الألحان، وتعزف بفرادة ملحمة المعنى على أوتار التار، خلعت عليها صفات التميز والامتياز، نصوصها الشعرية أنيقة حسًا ومعنى وابعادًا وطنية واجتماعية، نقرأها ونصغي لها دون ازعاج، ومبنى القصيدة عندها أكثر اكتمالًا مما هو عليه عند البعض الآخر، ومن هنا فديوانها يقع في منطقة الشعر الجغرافية، وليس في باب الألغاز والكلمات المتقاطعة، ما يعطي بوحها وتعبيراتها وخيالاتها ونصها نبضًا حارًا. وقد حافظت عبر قصائدها على رونق شعري خاص، وروح شاعرية وثابة.
فخالص التحيات للصديقة الشاعرة استقلال بلادنا، على أمل اللقاء المتجدد مع اصدارات شعرية مستقبلية، ومزيدًا من السطوع والتألق والابداع المتواصل.