الوقفة الأولى… مع قُلها وامضِ.
وقعت الهزيمة عام 1967م على رؤوس العرب عامّة والأدباء وخاصّة المصريّين؛ مفكّرين وكتّاب وشعراء، وقع الصاعقة، وبكلمات أحد الدّارسين “ضاع فجأة زمن التهليل وحلّ زمن العويل”، لدرجة أن الكثيرين منهم “طلّق” الكتابة عجزا أحيانا وإحباطا أخرى لسنوات، ومنهم الشاعر أمل دنقل، ولكن هذا عاد والتقط الأنفاس سريعا وقال قوله: “قُلها وامضِ”. لو كان أمل دنقل فلسطينيّا أتخيّله كان قال: “أضرب هالخميرة يا تلصق يا تعلّم”.
يراودني ومنذ مدّة طويلة السؤال: هل ما نعايش اليوم وطنيّا وقوميّا، محليّا وإقليميّا، ما عايشه أشقاؤنا المصريّون بعد الهزيمة، والتي سُمِيت تجمّلا النكسة؟!
الوقفة الثانية… مع “العرب والدّروز” وضياع الطّاسة!
المتابع والمراقب يشهد أن الاختلاف في ردود الفعل على القانون بين “العرب” و-“الدروز” هي بارزة وفي الكثير من الاتجاهات والتوجّهات والعمل. فالعرب ما زالوا يتخبّطون عاجزين وأمّا الدّروز فيخبطون خبط عشواء. لكن ما هو بارزا أن وسائل الإعلام المؤسّساتيّة فتحت الأبواب على مصاريعها أمام كلّ من هبّ ودبّ من الدّروز وكلّ راح يدلو بدلوه وعلى الغالب دلاؤه ملأى بالمياه الآسنة، وسط غياب أو تغييب مثيرين للشكّ شبه كلّيّين للعرب.
العرب والدّروز؟!؟!
نعم “العرب والدّروز”… وهنا بيت القصيد!
في اجتماع طارئ في بيت الكرمة في حيفا ال-29 من تموز بادرت إليه النائب عايدة توما سليمان، “اجتماع عربي يهوديّ ضد قانون القوميّة العنصريّ” كما جاء في الدّعوة، لم يغب “العرب والدّروز” عن جدول أعماله. تطرّقت النائب سليمان للموضوع في افتتاحيّتها، وكان محور مداخلة بروفيسور قيس فرّو الافتتاحيّة. لا شكّ عندي بتاتا أن بروفيسور فرّو وحين تناول الموضوع أكاديميّا، مصوّرا محلّلا، صوّر وحلّل الحالة التي تمرّ بها القيادات الدّرزيّة والأطر المختلفة (ضبّاط احتياط وغيرهم) الموالية للسلطة وخلفيّات انطلاقتها وأسباب بروزها الإعلاميّ، ولكن ليس هذا ما تركه شكل الكلام على المتلقّي اليهوديّ والعربيّ في الاجتماع، وتولّد الانطباع وكأن الكلام يدور عن الدّروز ككل وما يفعله هؤلاء يمثّل كلّ الدّروز. لفتُّ نظر بروفيسور فرّو مقترحا أن ينوّه موضّحا، وقبِلَ الاقتراح.
بغضّ النظر عمّا جاء أعلاه، ولكن حين يصير خطاب “العرب والدّروز” كذلك جزءا من هكذا اجتماع وبغضّ النظر عن الأسباب والدّوافع والهدف، يحتّم الأمر أخذ الحالة الدّرزيّة بعمق أكثر وجديّة واعتمادا على الوقائع البحثيّة العلميّة، وهذا موضوع الوقفات الآتية والتي سبقتها العشرات، ولكن قلّما وقف فيها كُثر على ما يبدو (אין לי זמן!)، ولعلّ من نِمْس “قانون القوميّة” هذه المرّة يجيء دِبْسا، وإن لم يجىء، فطابت ذكرى أمل دنقل وعزاؤنا في قوله: قُلها وامضِ!
الوقفة الثالثة… مع القيادة الدّرزيّة.
للدروز فلسطينيّا كانت وعلى مرّ التاريخ قيادة دينيّة واحدة، (بالمناسبة وللمعلوميّة والتاريخ، فحتى العام 1754م أيام عمر الظاهر الزيداني، كانت القيادة للشيخ حمّود نفّاع وقد تنازل عنها للشيخ محمّد طريف في ذاك العام طوعا). أمّا على المستوى السياسي أو والاجتماعيّ فلم تكن للدّروز مرّة قيادة واحدة أسوة ببقيّة العرب وكجزء منهم شعبا وقيادة، لست الآن في صدد كتابة تاريخ ولكن كلّ المصادر التاريخيّة تثبّت ذلك.
حتى 1956م كان التوجه العربيّ هو الغالب لدى القيادات وفي مقدّمتها القيادة الدينيّة، بدء من هذا العام ولأسباب لا مجال للدخول فيها في هذه العُجالة، تغيّر الحال وصار الغالب وما زال من القيادات موال للسلطة. ولكن بين هذا وبين وضع هذه القيادات مع “أل” التعريف كما هو متداول مؤسّساتيّا، وعربيّا للأسف، واليوم في سياق الجدل القائم على قانون القوميّة، وكأنها قيادات لكل أو على كلّ الدّروز، فهذا مجافٍ ومنافٍ للحقيقة الموضوعيّة التاريخيّة.
كانت وما زالت قيادات “عربيّة درزيّة” لها امتدادها العروبيّ وطنيّا وإقليميّا ولها معسكرها العروبيّ بين الدروز الفلسطينيّين. صحيح أنّ “الغلبة” هي للقيادات المواليّة، ولكّن هذا لا يبرّر لأي عربيّ كان وحين يتناول الأمر بسياق قانون القوميّة أو غيره أن يستعمل المصطلح “القيادات الدّرزيّة” مجترّا من حيث يدري أو لا يدري المصطلح المؤسّساتيّ. ومن العام إلى الخاص وللعيّنة فقط، وعلى طريقة أمل دنقل!
الوقفة الرّابعة… مع القاعدة.
كل من يريد الحقيقة التاريخيّة عن الدروز الفلسطينيّين ودورهم في الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة ومنذ أن قدِم اليهود في الهجرة الأولى أواخر القرن ال-19 وحتّى العام 1948م بالوثائق التاريخيّة الصهيونيّة قبل العربيّة، ، فأدعوه (حتّى لو اعتبر ذلك ترويجا) لكتابيّ الدّراسي: “العرب الدّروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى ال-48″، والذي صدر سابقا في الأردن ولبنان وطبعته الخامسة اليوم في المتناول، كي يعرف، إذا أراد (ויש לו זמן)، أن كلّ ما يُقال اليوم في وسائل الإعلام عن الدروز وتعاونهم مع اليهود قبل ال-48 ما هو إلا دجل دجّالين في أضعف الإيمان.
هذا تاريخيّا، أمّا حاضرا (والحاضر بدء من 1956م)، فما هو حال القاعدة الدّرزيّة وهل هكذا قيادات وأطروحاتها تمثّلها جميعها؟!
- التجنيد الإجباري:
- عام 1956م وتحديدا في نيسان من تلك السنة بدأ سريان مفعول قانون التجنيد الإجباري على الدروز (والشركس)، بعد أن أبطلت الحكومة الإعفاء الذي كان ساريا عليهم أسوة ببقيّة العرب وغيرهم من القوميّات في البلاد، واليهود المتشدّدين. كان عدد الشّباب الدروز من الأجيال التي يسري عليها التجنيد 487 شابا، امتثل منهم لأوامر التجنيد فقط 128 شابا يعني %26 (من أوراق بروفيسور قيس فرّو)، ومن بيت جن مثلا كان العدد 35 شابا ولم يمتثل أحدٌ. قُمعت المعارضة، وصحيح تاريخيّا أن الغالبيّة الدّرزية وفي العقود التي تلت انصاعت ونجحت المؤسّسة وقياداتها المواليّة. وحتّى العام 1975م كان المجندين الإجباريّين الدّروز يجنّدون فقط لوحدة خاصّة سُمّيت “وحدة الأقليّات 300″، وكانت في عداد كتيبة (גדוד) والكتيبة بضع مئات، بدء من هذا العام (1975) فُتحت بعض الوحدات الأخرى أمام المجنّدين الدّروز، وكان سبق ذلك اتّساع رقعة الخدمة الدائمة خصوصا بعد حرب 1967م وعينيّا في حرس الحدود وشرطة السّجون.
- ومرّت الأيام… عام 2008 وتحديدا في شباط وعلى جدول أعمال مؤتمر هرتسليّا (ليس أيّ مؤتمر) طُرح بحث هامّ تحت عنوان “معيار الشعور بالوطنيّة الإسرائيليّة بين الأجيال الناشئة”، جاءت نتائجه فيما يخصّ الدّروز “قنبلة”، إذ بيّن هذا البحث أن الشعور بالوطنيّة الإسرائيليّة لدى الدروز قد تدنّى منذ بداية العقد إلى (1.6) نقطة من أصل سلّم من (6) نقاط بينما كان (4) نقاط من أصل (6) نقاط في بدايته. كما وأنّ نسبة المتهرّبين (بلغة البحث) من الخدمة الإلزاميّة تعدّت لأول مرّة ال%50. وخلاصة البحث كانت أنّنا (الدولة) في صدد خسارة مجموعة سكّانيّة صديقة علينا العمل على تلافي هذا الخطر. (كان الصحافي وديع عواودة قد شارك في المؤتمر وكشف عن البحث ونقل المعطيات حينها ضمن تقرير موسّع في صحيفة حديث الناس).
- على ضوء هذا البحث ونتائجه وردّا وعلى الطريقة “الجيفلزيّة” بدأت المؤسّسة وأذرعها من هكذا قيادات تطرح الأكذوبة؛ أن نسبة التجنيد عند الدّروز هي %87 وأعلى منها عند اليهود، والمؤلم الجارح وإن لم يكن أكثر أنه راحت وسائل إعلام عربيّة وشخصيّات قياديّة عربيّة تجترّ.
قبل عامين قرّرت قيادة الجيش حلّ الوحدة الدرزيّة والتي كانوا غيّروا اسمها فصار يُطلق عليها وحدة الحربة (גדוד חרב) وقامت قيامة هذه القيادات، لأن هذا حرمها من طقوس الظهور في الاحتفالات العسكريّة والتهليل لأسيادها. حينها كتبتُ وأعيد ذلك حرفيّا:
“حدا ناوي يفهم ويستوعب عاد؟!
إذا كان في خيرْ في زوبعة الفوج الدرزي في الجيش فهو هذا…
روج أزلام السلطة أن نسبة المتجندين بين الدروز فوق ال-%80 وطبعا الإعلام العبري معيّد…بس المصيبة أن الإعلام العربيّ ببعض صحافييه يجتر وراءه…
الناطق الرسمي باسم الجيش اللي “الله” ما قدر يْطلّعْ منه معطيات “بِقّها” المرة وقال إن تعداد الفوج 400 عنصر وهنالك 2300 عنصر في وحدات أخرى… ماشي وبدنا نمشي معاه ونحلف في حياته أنه أرقامه صح…
تعداد صف ال-12 في بيت جن 207 طلاب وخليه يا عمي من هذا الجيل مش عمال يتعلم 23 فقط يعني مجموع أبناء الجيل 230 منهم بنات (معفيات من الخدمة) النص… يبقى 115 في بلد سكانها قرابة ال-11 ألف يعني عند كل الدروز في 115 شاب لكل 10 آلاف مواطن ضرب 12 (عدد الدروز 120 ألف) يعني يساوي (=) 1380 شاب في سن التجنيد ضرب أربعة أجيال (المتزامنة خدمتهم) = 5520.
قديش معطيات الجيش؟!
400+2300= 2700 (وصدق الله العظيم !!!!)
إحسبوها:
2700 على 5520 = %49 (وين ال%84 وال%87%) … ناوي حدا عاد يفهم ويستوعب؟! ”
- والناطق العسكريّ مرّة أخرى… مؤخرا اتصل بي الإعلامي جاكي خوري وفي جعبته معطيات عن عدد المتجنّدين الدروز والتي استطاع، بشقّ النفس، أن يحصل عليها من النطاق الرّسمي، اتّصل يسألني إذ أن المعطيات “تشرْبكْ”! وماذا فيها؟!:
- فيما يتعلّق في النِسب يقف الناطق بين الأعوام 1991-1995(!) ومع هذا يصرّح أن النسبة عام 91 كانت %81 وعام 95 كانت %75! وحين يدلي بالعدد يتطرّق للأعوام 2012-2017 ويصرّح أن العدد عام 2013 مثلا كان 911 متجنّدا وفي العام 2017 كان 853 متجنّدا! (طبعا الناطق يحكي عن المتجنّدين ولا يحكي عن كم بقي منهم أو أنهى منهم- سل السّجون العسكريّة؟!)
- طيّب (وبغض النظر عن السّجون) هات نحسبها ومجنون يحكي وعاقل يسمع!
خريجو الثانويّة في بيت جن عام 2018م، 226 طالبا، ضف إلى ذلك %15 متسرّبين (المعدّل العام) فالمجموع 33 طالبا، إذن المجموع الكلّي لأبناء الثامنة عشرة هو: 259 طالبا، %50 ذكور ملزمون بالخدمة العسكريّة، يعني 130 شابّا.
عدد سكان بيت جن قرابة ال-12 نسمة، وعدد الدروز الكلّي في البلاد 130 ألف نسمة. يعني: 130 ضرب 10.83 = 1408 شباب، منهم تجنّد 853 شابا (على رأي الناطق) إذا النسبة %60.
بغض النظر ولنفرض أن معطيات الناطق العسكريّ “توراة من سيناء”، فهل القيادات الدرزيّة موضوع الحديث تمثّل كذلك بقيّة ال%51 حسب المعطى الأول أو %40 حسب المعطى الثاني؟!
- الانتماء والهويّة والتجنيد وجامعة حيفا.
في العام 2008م طرحت جامعة حيفا القسم المتعدّد الثقافات، الدراسة التي قام عليها بروفيسور ماجد الحاج والدكتور نهاد عليّ عن “الدّروز والدولة بمرور 60 سنة”، وبالتعاون مع الجمعيّة الدّرزية للديموقراطيّة- وجيه كيّوف. الدّراسة استمرّت قرابة السّنة وقد فحصت كلّ نواحي الحياة عند الدّروز، وفيما يخصّ سياقنا جاء أن %63.7 يرون بالمركّب العربي جزءا من هويّتهم، ونفس النسبة %63 ضدّ التجنيد الإجباريّ، %28 ضد التجنيد بكلّ أشكاله و%35 مع أن يكون اختياريّا. فهل تلك القيادات “القايمة” على قانون القوميّة ومنطلقاتها تمثّل كذلك هؤلاء؟!
الوقفة الخامسة… ومع السؤال الأكثر من شرعيّ.
ما دامت هذه هي المعطيات الموضوعيّة العلميّة، وما دامت النتيجة أن القيادات موضوع سياقنا لا تمثّل هؤلاء على الأقل، فلماذا ما زالت أكثريّة القاعدة الدّرزيّة لم تجد بعدُ طريقها إلى أبناء شعبها (هذا إذا نظرنا إلى الانتخابات البرلمانيّة كمعيار)؟!
رغم النتائج وبغض النظر، وعودة إلى سؤال ” أل” “قيادة الدرزيّة”… في الجولات الانتخابيّة في العقدين الأخيرين ومثالا انتخابات 2009م وطبقا لمعطيات اللجنة المركزيّة للانتخابات، فإن نسبة التصويت في البلدات؛ الدالية وعسفيا والمغار ويركا التي تشكل %60 من الدّروز في البلاد لم تتعدّ ال%50، فهل أولئك الممتنعين تمثّلهم كذلك “القيادة الدّرزيّة”؟!
لقد تناولت هذا الوضع سابقا بدراسة مطوّلة نُشرت في الصّحف على أربع حلقات، وضمنتها في كتابي: “بين يهوديّتهم وطوائفيّتنا وتحدّيات البقاء”، ولا مجال للدخول هنا فيها، ولكن الإجابة مطلوبة من القوى العربيّة الوطنيّة والوطنيّة العربيّة الدرزيّة- وهي عندها!
الوقفة الأخيرة… مع الله والمسامحة.
حدا ناوي يستوعب عاد؟!
ومن العرب قبل اليهود والله لا يسامحكم!
وها أنا أمضي، وطابت ذكرى الشاعر أمل دنقل!
سعيد نفّاع
أواخر تموز 2018