الصورة بلطف عن “شذى الكرمل”
حقيقةٌ تاريخيّة تغيب عنّا أو تُغيّب عنّا، وأحيانا مع سبق إصرار وترصّد، أن بقاءَ فلسطينيّي البقاء، فلسطينيّي ال-48، هو وليدُ ظرف جيوسياسيٍّ لم يُخطّط له وإذا صحّ التعبير “ظرفٍ قدريّ”. ال- “156 ألف” فلسطينيّ الذين بقَوا بعد النكبة هم بغالبيّتهم العظمى سكّانُ الجزءِ الذي خصّص للدولة الفلسطينيّة حسب قرار التقسيم تشرين ثاني1947م. الجزءُ من فلسطينَ الذي خُصّص للدولة اليهوديّة “نُظّف” من العرب اللهم إلا من بعض التجمّعات القليلةِ التي كان تعامل زعماؤها مع الحركة الصهيونيّة، أو بسبب فشل تنفيذيّ من قبل الحركة الصهيونيّة.
الصهيونيّة التي حلُمت بكلّ فلسطين لم تحلم في أكثر أحلامها ورديّة أن تبقى في هذا الجزء الفلسطينيّ، لا أمميّا ولا عربيّا، إلا أن العجزَ لا بل التّخلّيَ التآمريّ العربيّ واللامبالاةَ الأمميّة المُبيّتة تجاه عاجز متخلّ متآمر، أعطتها إيانا لقمة سائغة، غير أنه تبيّن وسريعا أن هذه اللقمةَ مرّةً عسيرةً على المضغ والابتلاع، فالصهيونيّة لو كانت توقّعت هذا لكانت قذفتها ووفّرت على نفسها تداعيات المضغ والابتلاع.
دون فهم وإدراك وتذويت هذه الحقيقة والواقعِ الذي ولّدت، لا نستطيع أن نفهم سيرورةَ وصيرورة الحراك الثقافيّ الفلسطينيّ عند فلسطينيّي البقاء أولئك، الذين كان عليهم أن يشحذوا الهممَ حياتيّا، وأدبيّا كلمة وتنظيمًا، لحراسة بقائهم، ليس شكلا فقط وإنّما مضمونا. وانطلقت المحاولات:
أواخر الخمسينات وبعد أن أخذ من تبقّى من الأدباء النّفَس، تمّت محاولاتٌ كثيرة لتنظيم الأدباء، وشكّل بعضُ الكتّاب القوميّين “رابطة المثقّفين العرب”. لكنّ هذا المولودَ لم يعش طويلا، فالقوى السياسيّةُ الفاعلة حينها بين العرب لم تكن تؤيد تشكيلَ اتحاد عربيّ من ناحية، ومن الأخرى فالمؤسّسة طبعا كانت ضدّ أي تنظيم كهذا، ولكنها عملت في أواخر الستينات أوائلِ السبعينات وبالتعاون مع بعض الكتّاب العرب وربّما بمبادرتهم، على تشكيل “رابطة الكتّاب العرب” تابعة للهستدروت – نقابة العاملين العّامة – خلت هذه الرابطة من الكتاب اليساريّين والقوميّين، وكانت جزءًا من روابط الكتّاب الإسرائيليّين اليهود.
هذا الوضع استمرّ حتى أوائل الثمانينات حيث كان انطلق قبل ذلك على الساحة العبريّة “اتحادُ كتّاب إسرائيل”، إذ كان الكتّاب اليهود بغالبيّتهم منضوين تحت “اتحاد الكتّاب العبريين”. ضمّ هذا الاتحاد – اتحادُ كتّاب إسرائيل – كتّابا عربا، فنائب الرئيس فيه كان عربيّا وما زال، وقد حمل “منصبَه” هذا تزامنا مع انتخابه لاحقا نائبا لرئيس “اتحاد الكتّاب العرب في إسرائيل” الذي سيذكر لاحقا.
حاول “اتّحادُ كتّاب إسرائيل” أوائلَ الثمانينات وعلى يدِ أعضائه العرب ضمّ الكتّاب اليساريّين (الشيوعيين) لصفوفه فلم يوفّق، ومن نافل القول إنه لم يوفّق مع القوميّين. وبدأت القوى السياسيّة الفاعلة إعادةَ النظر في موقفها والعملَ على تأسيس اتحاد عربيّ للكتاب ونجحت في ذلك. وفي آب 1986 أُسِّس “اتحادُ الكتّاب العرب في إسرائيل” وعُقد المؤتمر الأول، تمّ فيه انتخاب مؤسّسات الاتحاد، عمادَه كان الشيوعيّون وحلفاؤهم، وانتُخب طيّب الثرى والذكر سميح القاسم رئيسا. كانت الحركةُ التقدّميةُ قد انطلقت، فأطلقت بالمقابل “رابطةَ الكتّاب والأدباء الفلسطينيّين في إسرائيل” برئاسة المرحوم جمال قعوار.
شهدت الفترةُ هذه، أواخرَ الثمانينات حتّى أوائلِ التسعينات، نشاطا كبيرا في سياق التنافس بين التنظيمين، وانطلاقا من مرجعيّة كلّ منهما السياسيّة والتي كانت بينهما “حربٌ ضروس”. وقد كان أصدر كلٌّ من التنظيمين مجلّةً باسمه (الاتحاد: “ال-48″، والرابطة: “المواكب”) لم تدُوما طويلا، وحين انتهت التقدميّة العام 1992 تلاشت بعدها الرابطة تدريجيّا وتلاشى التنافسُ وتلاشى العمل التنظيميّ.
أمّا الاتحادُ فعقد عام 1994 “شبهَ مؤتمر” تغيّرت فيه تركيبةُ الهيئات فاستقال سميح وانتخب الكاتبُ محمد علي طه رئيسا، ودام الأمرُ على حاله – دون نشاط ميدانيّ جمعيّ يُذكر- حتى أوائل ال-2010 حين جرت محاولةُ أعادة إطلاق اتحاد وبتدخّل من الاتحاد العام الفلسطيني في ال-67. لكن هذه المحاولة اقتصرت على قلّة قليلة من الكتّاب فأطلقت “اتحاد الكتاب الفلسطينيين – حيفا”، خلت منه غالبيّةُ الأسماء المرموقة في الساحة الأدبيّة، تبدّل الاسم لاحقا إلى “الاتحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين ال-48” كخليّة من خلايا الاتحاد الفلسطينيّ في ال-67، وعلى أن تقوم هذه المجموعة أو هذا الاتحاد وخلال سنة بعقد مؤتمر عام يُدعى إليه كافّةُ الأدباءِ وتتم فيه المأسسة، لكن هذا لم يتّمْ وبدا أن النيّةَ ومنذ البداية كانت ألا يتمّ.
على خلفيّة ذلك أطلق ثلّةٌ من الأدباء الفكرةَ لإحياء أو إعادةِ التأسيس للاتحاد الذي كان قائما قبل ال-2010، وفي ال-19 من حزيران 2014 قام أصحابُ الفكرة بعقد مؤتمر تأسيسيّ أطلق: “الاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل”، هذا الاتحاد عمليّا وميدانيّا هو تكملةٌ للمسيرة التي انطلقت أوائل الثمانينات، ومن خلال تطوير هامّ جدّا في الناحية الوطنيّة انطلاقا من وحدة الثقافة الفلسطينيّة. هذا الاتحادُ هو العصبُ والعمودُ الفقريُّ للحركةِ الثقافيّة في ال-48 رؤيويّا وتنظيميّا، ينضوي تحت مظلّته الغالبيّةُ من حملة القلم المرموقين أدبيّا، فكرا وقصّةً وشعرا.
لم أجىء بما قلتُ أعلاه من باب المعلومة المعرفيّة، رُغم أهميّتها، وإنّما كأرضيّة للمعاني الكامنةِ وراءَ لقائِنا التواصليّ التكافليّ هذا بكم. علينا أن نذوّتَ أن ليس المهدّدَ منّا، على الأقل اليوم، وجودُنا الكينونيُّ، وليس لأن الصهيونيّةَ لا تحلم وتسعى، وإنما لأنّنا بين أن نكونَ أو لا نكونُ قرّرنا أن نكونَ وردةً على صدر الوطن وشوكةً في حلوق أعداءِ الوطن، علينا أن نذوّت أن المهدّدَ كان ومنذ النكبةِ وإلى اليومِ والغدِ، هو شكلُ وجوهرُ هذا الوجود، وفي كلّ أماكنِ تواجُدِنا.
هذا الشكلُ يجب أن يكون طائفيّا ومذهبيّا، ويجب أن يكون حمائليّا وعائليّا، ويجب أن يكون شوفينيّا رجعيّا، ويجب أن يكون عنفيّا إجراميّا، يعني… يجب أن يكون متخلّفا، وفوق كلّ ذلك يجب أن يكونَ تغريبيّا.
تغريبٌ عن حضارتنا: تراثِنا ولغتِنا والأهمُّ عن بعضنا. يجب أن أفرح أنا الفلسطينيّ الباقي لترح السوادِ الأعظمِ من شعبي في ال-67 والشّتات، وأن أترح لفرحه، لأنيّ إسرائيليّ! يجب أن أكون طائفيّا ويجب أن أكون حمائليّا ويجب أن أكون شوفينيّا ويجب أن أكون عنفيّا لأني عربيٌّ إسرائيليّ!
اعتمادا على وانطلاقا من كلّ هذا تكمن أهميّة الأدبِ وتنظيم الأدباء والتواصلِ ما بين الأدباءِ والناس، وهذه هي التحدّيات التي يواجهُها اتّحادُنا “الاتّحادُ القطريّ للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل. يواجهُها في عشرات اللقاءات مع طلّابنا في المدارس في أيام اللغة العربيّة حفاظا على لغتنا وهويّتنا في وجه الهجوم الشرس عليهما، في عشرات الأمسيات الأدبيّة في ربوع قرانا سلاحا في أيدي ناسنا، في منصّة أدبيّة هي فصليّتُنا “شذى الكرمل” منبرا للكلمة الوطنيّة والتقدميّة التنويريّة.
وتكملة لكلّ ذلك، يواجهُها في مثلِ هذه اللقاءات التواصليّة، فنحن كلّ واحدّ وطنيّا وثقافيّا، وستظلّ ثقافتُنا، فكرُنا وقصّتنا وقصيدتنا، عصيّةً على الحواجز والحدود والجدران.
وروحيّا: لا جدرانَ تغرّبنا ولا حدودَ تبعِدنا ولا حواجز تقطِّعنا، نفرحُ معا ونترحُ معا، ومعا نتحرّر من الاحتلال الثقافيّ ومن الاحتلال السياسيّ.
- نصّ الكلمة التي ألقيت في اللقاء الثقافيّ التواصليّ بين وفد “الاتّحاد القطري للأدباء الفلسطينيّين – الكرمل”، وأساتذة وطلبة كليّة الآداب في جامعة النجاح نابلس.
سعيد نفّاع
الأمين العام للاتحاد
أواسط نيسان 2018
ليس بالضرورة ان يتوافق رأي المحرر مع رأي الكاتب ـ امام اهمية وضرورة تشكيل اتحاد يحتضن جميع ادباء الداخل الفلسطيني وينهي الانقسام.