الارض، بقلم: الشيخ توفيق حلبي إمام في قرية دالية الكرمل

 

بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (الأعراف 10). أي جعلناها لكم قرارًا ومهادًا، وهيئنا لكم فيها أسباب المعيشة. مما يفيد الإنسان في القيام برسالته في الحياة وهي تعمير الأرض والاستفادة من خيراتها وكنوزها. ولأن الموضوع الرئيسي في هذا العدد يتحدث عن الأرض والمسكن والتخطيط في قرانا، رأيت من واجبي أن أبحث عن كيفية حصول آبائنا وأجدادنا على ملكية الأرض في الزمن القديم، حيث كان شائعًا أن الإنسان يستطيع أن يستصلح أية أرض يريد،  فينظفها ويسويها ويبدأ بزراعتها، وهذا الفعل يسمى “كسر الأرض” أي أن الفلاح كان يحمل فأسه  ويستصلح ما أمكنه في منطقة معينه فتصبح ملكه يورثها إلى أولاده  كيف يشاء، هكذا كان الحال إلى أن جاء قانون الأراضي العثماني الذي أضر في الفلاحين  وقيدّهم، فلقد تعرضوا إلى كثير من المضايقات والمحاكمات والضرائب المجحفة التي فُرضت عليهم، وما يلفت النظر في تلك الفترة أن الفلاحين والأهالي تهربوا كذلك من تسجيل الأرض على أسمائهم خوفًا من الضرائب الباهظة بالمال والمنتوج التي كانت تجبيها السلطة العثمانية وأعوانها في كل ناحية،  وكل هذه الأسباب مجتمعة أبعدت أهالينا عن الرغبة في استصلاح الأراضي.

ففي زمن الإمبراطورية العثمانية بالذات كانت الأرض بمعظمها ملكًا للدولة، والتاريخ يذكر أنه في بلادنا عيّن – ولأول مرة -السلطان سليمان القانوني سنة 1567م لجنة لمسح أراضي السلطة العثمانية بما فيها البيوت. فدُوّنت أسماء المالكين في سجلات، وأصدر السلطان سنة 1602م قرار في حفظ السجلات في نظارة الدفتر )الخاقاني( ومنحها القوة الثبوتية المطلقة. ولا تزال تلك الدفاتر محفوظة في مدينة إسطنبول. وفي 21 نيسان عام 1858م صدر قانون الأراضي العثماني الذي جاء لكي ينظّم وضع قائم ولم يأتي بشيء جديد، وهو معتمد في الأساس على المجلة العثمانية التي هي بدورها تستند على الدين الذي يقول أن الأرض هي وقف أبدي للأمة الإسلامية كلها ولهذا هي ملك السلطان، الدولة، بيت المال، ولقد كان لهذا القانون التأثير الكبير على أجدادنا الفلاحين حيث أن الأرض كانت هي وسيلة الإنتاج الرئيسية لمعظم السكان. وفي السنة التالية، 13 كانون ثانٍ 1859م بدأ العمل بنظام الطابو، وهو تسجيل العقارات ونحن نقول حتى يومنا هذا لمن يريد نقل الملكية) تطويب(. وبموجب هذا القانون قُسمت أراضي الدولة العثمانية الى خمسة أقسام:[1]

أولًا: الأراضي المملوكة ) مُلك ( وهي الأراضي المملوكة ملكية خاصة والتي يتصرف بها صاحبها كيف يشاء.

ثانيًا: الأراضي الأميرية ) ميري (وهي الأراضي التي تعود ملكيتها لبيت المال، وكان التصرف بها فقط بإذن وتفويض من مأمور من قبل الدولة، وهذا البند وضع نصوصًا تضمن عدم إهمال الأراضي الأميرية من قِبل المتصرف بها وذلك بإبطال حقه في التصرف بها في حال عدم تسديد الضرائب والرسوم عنها، وعدم زراعتها وفلاحتها لمدة 3 سنوات متتالية.

ثالثًا: الأراضي الموقوفة:) الوقف( وهي أراضي أميرية أوقفها وحددها السلطان سليمان وما تبعه من سلاطين بالإضافة الى الأراضي التي خصصها بعض الأغنياء أو الأراضي التي أوقفها بعض الفلاحين وخاصة بعد صدور التنظيمات  للتهرب من دفع الضرائب والرسوم.

رابعًا: الأراضي المتروكة : وهي الأراضي التي تُرك حق الانتفاع بها لعامة الناس أو لأهالي قرية، وقسّمت الأراضي المتروكة وفق قانون الأراضي العثماني إلى قسمين :

  1. الأراضي المتروكة لعامة الناس كالطرق والأسواق العامة والساحات والمسطحات المائية من بحار وبحيرات وأنهار وعيون ومجاري سيول الأودية وغير ذلك مما ترك لاستخدامات الناس.
  2.  الأراضي التي تُركت لأهالي قرية أو عدة قرى كالمراعي والبيادر والمحتطبات، ولا يحق لأي شخص أن يبني أو يغرس أشجارا في الأماكن العامة المتروكة لعامة الناس لأن التصرف في هذه الأماكن يعتبر تصرفًا في ملك الغير.

خامساً : الأراضي الموات : وهي الأراضي الخالية والبعيدة عن العمران وليست بتصرف أحد، وتبعد عن أقصى العمران مسافة ميل ونصف الميل أو نصف ساعة سيراً على الأقدام بحيث لا تُسمع فيها صيحة الرجل الجهير الصوت. وسمح قانون الأراضي العثماني بإحياء هذه الأراضي من قبل الناس شريطة موافقة الحكومة على ان يكون إحياؤها في مدة لا تزيد عن ثلاثة سنوات وإذا لم يستصلحها خلال هذه المدة تؤخذ منه وتعطى لشخص آخر، أما إذا أحيا الفلاح أرضاً مواتًا بإذن الحكومة فعليه دفع بدل الطابو.

وهكذا استمر الحال على الفلاحين في بلادنا تحت الحكم التركي، وعندما دخل الانتداب البريطاني أخذ بإصدار القوانين بشأن الأراضي، قانون تصحيح سجلات الطابو 1920م، وقانون انتقال الأراضي : الذي كان بموجبه انتقال الأراضي مرهون بموافقة حكومة الانتداب وأكد أنه لا يسمح للشخص الواحد امتلاك أكثر من 300 دونم من الأراضي الزراعية، وليس أكثر من 30 دونم داخل مناطق السكن وشرط أن يزرع الأرض ويحسنها بنفسه وقانون الأراضي الموات سنة 1921م : الذي ينص على أن كل من نقّب أرضاً مواتًا أو زرعها دون الحصول على موافقة مدير الأراضي لا يحق له أن يحصل على سند ملكية بشأن تلك الأراضي ويعرّض نفسه للمحاكمة، وطبقت نوعًا جديدًا من الإدارة العقارية للأرض، ضمن هذا الإطار حل الدونم المتري الذي يساوي ألف متر مربع بدل الدونم العثماني الذي هو 3/919 متر مربع، وكذلك فَرضت حكومة الانتداب البريطانية عدة ضرائب على كاهل الفلاح وفي حالات وصلت الى 30 بالمائة من دخله، مما اضطره إلى اللجوء للمُرابين للاستدانة بفوائد عَجِزَ في الغالب عن تسديدها مما اضطره إلى البيع،  وكل هذه الأمور مجتمعة أدت الى تركيز مساحات كبيرة من الأراضي في بلادنا بأيدي فئات قليلة من كبار الملاكين الإقطاعيين.

وبعد خروج الانتداب البريطاني، وقيام دولة إسرائيل كان هناك استمرارية لقوانين الانتداب [2]وبمساعدة المحاكم تركزت جميع أراضي، المتروكة، الميري، واكثر أراضي الموقوفة، والموات بيد الدولة تحت مسميات مختلفة، وتقدر بنحو %93 من كل مساحة الدولة وهي 20770 كيلو متر مربع، منها 13270 كيلو متر مربع ملك الدولة، 3400 كيلو متر مربع على اسم سلطة التطوير 3600 كيلو متر مربع تملكه الكيرن كيمت لإسرائيل ويبقى حوالي 1500 كيلو متر مربع ملك خاص للمواطنين عرباً ويهوداً أي حوالي %7 فقط.

ولكي نوضح للقارئ كيف ان جميع هذه المضايقات على اختلاف ازمنتها واحوالها أدت الى تناقص ملكيتنا للأرض أورد هذه المعلومات عن بلدي دالية الكرمل ومثلها جميع القرى، ففي سنة 1922م زمن الانتداب البريطاني كان عدد سكان دالية الكرمل 993 نسمة يملكون 31730 دونم أرض [3]، واليوم عدد سكان القرية أكثر من  17000 ألف نسمة  ومساحة أرض القرية المتبقية حوالي 10 آلاف دونم، وهذا يعني أن الشخص الواحد سنة 1922 كان احتياطي ما يمكنه أن يملكه حوالي 31 دونم واليوم هو بالكاد يملك 600 متر مربع، وهذا يتنافى مع تعاليم قيمنا وتراثنا وما أوصانا به مشايخنا ومفكرينا أمثال الشيخ المرحوم أبي محمد جواد ولي الدين( حيث كان يشدد على التمسك في الأرض وعدم تركها مهما قست الظروف، والمكان يضيق عن سرد كل ما قاساه وتحمله أسلافنا لكي يحافظوا على الدين والأرض والعرض، فعلينا أن نسير على خُطاهم ونوصل الأمانة إلى أصحابها أجيال المستقبل، ولا نفرط ولا بواحدة من هذه الركائز الثلاث التي يقوم عليها وجودنا كطائفة في هذا الكون، ونحن الموحدون معروفون بأننا لا نُهاجر ولا ننتقل من المكان الذي ولدنا فيه بسهولة.

وأخيرًا ما أصدق ما قاله جبران خليل جبران:” ما أكرمك أيتٌها الأرض وما أطول أناتك، ما أشد حنانك على أبنائك المنصرفين عن حقيقتهم إلى أوهامهم، الضائعين بين ما بلغوا إليه وما قصروا عنه، نحن نكلم صدرك بالسيوف والرماح وأنتِ تغمرين كلومنا بالزيت والبلسم، نحن نصبغ وجهك بالدم وأنتِ تغسلين وجوهنا بالكوثر.”

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .