قصّة… أي تشابه مع واقع محض صدفة!
كان مختار الحارة الغربيّة ومختار الحارة الشرقيّة في بلدنا، والمختار وحتى لا تضيع الطاسة ويلتبس الأمر على أحد، مختار من الدولة وليس من الناس، كانا مثل “الشحمة على النار”، لا يتّفقان حتى على “أكلة مجدّرة”، وقلّة اتفاقِهما هذه يا ما جابت ويلاتٍ على البلد، وكانا يجدان دائما ألفَ حجّة وحجّة ليبعدا عن نفسيهما أسبابَ تلك الويلات، أو كي يدبَّها واحدُهما في ظهر الآخر.
المختاران “أبناء خالات” وشيخُ البلد خالُ الاثنين، وكلّما ساءت الأمور بينهما وبالتالي ساءت على أهل البلد… “طوشة” هنا واعتداءٌ على عائلة صغيرة أو شبكُ عمل بينها، كان على الشيخ أن يحاول لمَّ الأمور، ففي نهاية المطاف هو شيخُ البلد وبالإضافة خالُ الاثنين، وكلمة الخال أقوى أحيانا من كلمة الوالد، ولم يكن النجاح في الكثير من الأحيان حليفَه، وإن حالفه فلغرض في نفس أحدِهما أو نفسيهما، ولا تطول المدّة حتّى تعودَ لتُولَع بين الحارتين.
أمّا على ماذا كانت تُولَع وعلى ماذا كان خلافُهما وكلَّ “ما دقّ الكوز في الجرّة”، فهذه حكايةٌ لا أولَ لها ولا آخر، فليس الاثنان بعاجزين عن إيجاد أسباب الخلاف، والحملُ كان طبعا يقع على ربعيهما لإخراج خلافهما إلى حيّز الميدان بالعصيّ والحجارة والفؤوس أحيانا، دون أن يعرفوا عادة أسبابَه الحقيقيّة، فهذه أسرارُها عند المختارين ولا حاجةَ لمعرفتها، وتكفي كلمةٌ من المختار كي تُشن حملةٌ تأديبيّة، لا يتأدب في نهايتها لا هذا ولا ذاك، ولكن يُسفك دمٌ كثير وتُفجّم رؤوس وتُكسر أعضاءٌ ومن كلا الجانبين، و-“الله ستّار” إذ لم يقع مرّة قتلى، وعزا أهل البلد ذلك إلى أن “شيطان البلد صغير”.
بعضُ أيام وتلتئم الجراحُ وتعود المياهُ إلى مجاريها، إمّا باتفاق بين المختارين على يد بعض العقلاء وعلى رأسهم الشيخ، وإما، وعلى الغالب، يتّم ذلك في مركز الشرطة القريب، الإنجليزي على زمن الانجليز أو اليهودي على زمن اليهود، والتغيير في الاسم ليس إلا، فالمبنى ما زال نفسَ المبنى، والتغيير فقط هو بمن يُشغل المبنى، والمخاتير ظلّت مخاتيرا اللهم البعضُ من الذين “غضب الله” عليهم ولم يمشوا مع الدولة الوليدة.
واستدعاءُ المركز للمختارين، وتقديمُ القهوة التركيّة أو “الوَحْل” كما يسميها أولاد العمومة، لهما ليبلعانها على مضض كُرمى للمستدعِي، وعقدُ المصالحة بينهما، رضاء أو غصبا، لم تكن كُرْمى لعيونهما ولا لدماء “أبطال” أهل البلد الذي بقي قسم منه على مساطب أروقة الاحتجاز العسكريّة بعد أن أُخرجوا منها بكفالتهم، أو لحظوةِ المخاتير عند الدولة “فشْخرة” منهم قدّامَ أهل البلد، وإنّما، كانت المصالحة وإخراج المعتقلين لغرض في نفس الضابط.
وغالبا وعندما لم يكن للضابط غرض، فيتركهما يتناطحان إلى ما شاءا إلى ذلك سبيلا، فيضطر الشيوخ العقلاء أن يأخذوا المهمّة على عاتقهم، ففي الحالة الأولى لا حاجةَ لخدماتهم، وإن عرضوها لا يعيرها أيٌّ من المختارين كثيرَ اهتمام، فالحل والرّبط عند “شيخ المركز”، وكلاهما يدّعي صحبتَه وحين يروح “يتفشخر” أمام أقاربه فيختم: “كلمتي عند الضابط ما تصير كلمتين”.
قُصر الكلام، طالت هذه المرّة “الطوشة” وشيخُ المركز “ولا عند قريش خبر”، وصار “بدها حلّ”، شيخُ البلد، خالُ المختارين، لم يتحرّكْ رغم كثرة الرؤوس التي فُجّمت والعظامِ التي كُسّرت والبيوتِ التي أُحرقت والمزروعاتِ التي أُتلفت.
“إن خلْيِت بِلْيت” هكذا آمن أهل القرى والبلد في سياقنا، ففي كلِّ قرية وكل حمولة وكل حارة يبقى بعضُ العقلاء الذين لا يهونُ عليهم الوضع، ورغم أن صوتَهم يضيعُ هباء في الكثير من الحالات، ولا يعيرهم أيٌّ من الطرفين اهتماما، لا بل أكثرَ من ذلك يُتّهمون بقلّة الرجولة وقلّةِ الخير في نفوسهم لأهلهم، ولو كانوا على غير ذلك لكانوا ركبوا السطوحَ وحملوا العصيّ مع أقاربهم ظالمين أو مظلومين.
شيخُ المركز هذه المرّة لم يتدخّل، وشيخ البلد صامت، وهؤلاء العقلاء يعرفون أن “دبس لا يمكن ييجي من قفا النمس”، أما شيخ البلد العاقل التقيّ الورع فلا بدّ أن وراء صمته أمرا جللا. لملم بعضُهم أنفسَهم وقصدوا بيت الشيخ، رغم المسبّات التي طالتهم في الظهور وهم يسيرون معا ميمّمين شطر بيت الشيخ بعد أن قصُرت أياديهم.
كان ردّ الشيخ عليهم مقتضبا بعد أن سمع كلامَهم الكثير ودون أن ينبس ببنت شفة، اللهم إلا أنه قال كمن يحدّث نفسه: “شبعوا هلْإِخْوَثين…؟! وشبعوا تنابِلْهُم…؟!”
هذا الرّد المقتضبُ كان كافيا لهم ليفهموا أن سكوتَ الشيخ، وأمام سكوتِ شيخ المركز، كان مقصودا، ولا شكّ أن في الكلمات القليلة التي قالها، قال الكثير، وخرج الرّبعُ من دياره مرتاحين.
من الأمور الكثيرة التي كانت تدور في رأس الشيخ في الأيام التي مضت، كانت صورةُ محجوب “راكب الجحش صندل”. ومحجوبٌ هذا رجلٌ فقير في البلد لا يحسب أحدٌ في البلد له حسابا لا “في العير ولا في النفير”، ويملك حمارا هرما “جلدة وعظمة” من شدّة التعب والجوع، فوجبتُه التبن الحاف أو العشب الجاف الخاليان من “المقبّلات” فلا شعيرا ولا كرسنّة ولا يحزنون، وحتى “جْلالُهْ” مقطّع موصّل. ومحجوب، لا “همّ دنيا ولا عذاب آخرة” رائح غادٍ على “شويّة هالأرض” التي يملك، ودائما راكب الحمار صندل. وإن صادف رواحُه أو غدوُه عزَّ طوشة والحجارة تتطاير في كلّ صوب، لا يحيد عن طريقه ولا يعير ذلك أيّ اهتمام، وحتّى لم يكن يحثّ الحمار على الإسراع، فيفرض وقف إطلاق نار مؤقت على الساحة إلى أن يغيب في أحد الأزقّة.
أمّا معنى “راكب الحمار صندل” فهذه مقولة للبلد عليها الحقوق محفوظة، فرغم “تنبلتِهم” كما يقول الشيخ غضبا، إلا أن الله حباهم بخفّة ظل وسرعةِ خاطرٍ وقدرةٍ فائقةٍ على استنباط المقولات التصويريّة، التي لا يضاهيهم فيها أحدٌ وحتّى أفحلُ الشعراء يستصعبون استنباط صور تضاهيها، و”راكب صندل” من تلك الصور.
محجوب عن غير خلق الله كان يركب جحشَه في رواحه وغدوه “جنّابيّ” ولا يكتفي بذلك، فتراه دائما واضعا رجلا على رجل من فوق الرّكبة والعليا أفقيّة، وللسامع أن يتخيّل، أن الصورةَ التي يكون عليها شكلُ رجليه في هذه الوضعيّة ومقدّمةُ الحمار أمامها، وحين تكون قعدتُه على ظهر الحمار فيها، وبطبيعة الحال، بعضُ الميلان نحو الأمام، هذه الصورةُ شبيهةٌ تماما بالرِّجْل المنتعلُ صاحبُها الصندل!!!
المُهم أن الشيخَ وما أن غادره العقلاء، حتّى أرسل منَ يستدعي ابني أختيه إليه محدّدا الموعد في نفس الوقت للاثنين، وكان ما زال للأب والخال والعم وكبيرِ العائلة هيبةٌ وحتّى على المخاتير، إلا حين كانت تتدخّل مخاتير المراكز فتقلب الموازين. لم يكن واردا، طبعا، أن لا يلبيّا الدعوة، ولكن، والحالة كالتي هما في سياقها، كان همّ مختار الغربيّة أن يجد سببا للتأخر ولو بضع دقائق حتّى لا يضطر أن يدخل ديوان خاله خلف مختار الشرقيّة الأكبر منه سنّا، وأمّا الشرقي فكان يحمل نفس الهمّ ولكن السببَ مختلفٌ، فإن سبق سيضطر أن يقف للغربيّ عند دخوله الديوان، والقضيّة قضيّة كرامة!
لم يكن يخفى على أحدهما ما يدور في رأس الآخر، وقد تلافيا الوضع بأن كان الذي يصل قبلا، ينتظر لائذا أو لاهيا في مكان قريب، وصول الآخر ليسبقه بخطوات داخلا لا يلبث أن يدخل الآخر، والأول ما زال واقفا يسلّم على الخال، وهكذا لا يضطر الصغير أن يدخل خلف الكبير ولا يضطر السابق أن يقف عند دخول اللاحق. لم تكن تخفى على الخال لعبة الكرامة الفارغة تلك والتي كانت تثير فيه السخرية والشّفقة أحيانا، ولم يعرها مرّة اهتماما لا قولا ولا فعلا. جلس كلّ منهما متجهّمَ الوجه، ممتنعا عن النظر في وجه ابنِ خالته متّخذين مجلسيهما بعيدين الواحد عن الآخر.
لم تكن نيّةُ الشيخ أن يطيل الأخذ والعطاء بينهما، فكثيرا ما سمعهما وكثيرا ما حلّها بينهما، وكثيرا ما أخلفا وعدهما بما كان يتّم الاتفاقُ عليه أمامَه، فلم يكن يعوّل عليهما الكثير، وربّما أن ممّا كان يؤلمه تلك المقولة الدارجة، “ثلثين الولد لخاله” وهو لا يرى فيهما لا ثلثا ولا ثلثين، ومع هذا قال:
“على إيش كلّ مرّة تختلفوا وتخلفوا البلد، وتخربوا بيوت الناس، وكل واحد منكو قاعد في مضافتُهْ، وأولاد أقاربكو على السطوح وفي الحارات يذبّحوا بعض؟! وهذا “ماكس” الظابط صاحكبو عامل حالُهْ ما معُهْ خبر، واللا هو “وزكوا” على بعض؟!”
و”وزكوا” هذه تُقال في البلد للكلاب ولم تخرجْ من الشيخ، الخال، زلّةَ لسان فقد قصدها، لا بل أضاف… أن ضابط الانجليز الذي كان يجيء البلد أيام الإنجليز وقبل مجيء اليهود، كان يجيء دائما مرافَقا بكلب، اسمُه “ماكس”.
“على إيش كلّ مرّة بتولعوا البلد؟! لو حطّيتوا إيديكو في إيدين بعض ما راح ثلثين أرض البلد! ولو تحطّوها اليوم في بعض بتعملوها جنّة!”. وصمت.
لم ينبس أي منهما ببنت شفة، متأكدين أن خالَهما لم ينهِ كلامه بعد، ولم يرفعْ أيُّهما نظرَه في نظر الآخر إلا عرضيّا.
فتابع: “بكرة جاييكوا مجالس مثل غيركو ومخترة يوك… والله ليجيكو يوم… وقريب… تبوسوا فيه قرعة محجوب الصندل… قوموا انقلعوا وروحوا اصلحوا بين أهاليكو…”
لأول مرّة منذ دخلا البيت وتلقائيّا، راح ينظر واحُدهما في عينيّ الآخر، واقتربا من بعضهما البعض، فهما في نهاية الأمر “أبناء خالات” وبطبيعة الحال بينهما في طفولتهما وشبابهما المبكّر كثير من “خبز وملح” حياة وذكريات مشتركة، اقتربا وتصافحا دون كلام ويمّما شطر الباب خارجا الكبير أمام الصغير، ولم يقفِ الشيخ، خالهما، في وداعهما كما جرت العادة في توديع الضيوف وأيّا كانوا، حاسّا هذه المرّة أنهما كان صادقين إذ قلّ كلامُهما.
سعيد نفّاع أواخر كانون ثاني 2018
لييجي يوم تبوسوا قرعة محجوب قاعد الجحش صندل….