مجتمعنا يعيش وباء العنف، وقد طال العائلة والعمل والحيز العام وكل الأطر المجتمعية. كُثر كتبوا عن تفشي العنف ومخاطره وكثر طرحوا حلولا واقتراحات لمكافحة ولجم الظاهرة الخطيرة. في مقالي هذا أرمي إلى إثبات الإخفاق المدوي لسلطاتنا المحلية، في المجمل، في توظيف مكانتها واستعمال صلاحياتها لمكافحة العنف، وإلى الكشف عن التشجيع المباشر للعنف احيانًا.
منعًا للإلتباس، يجب التنويه أن عمل السلطات المحلية لا يُنقص من دور ومسؤولية الشرطة ومؤسسات تطبيق القانون، إذ ان الأدوار مكّملة: دور السلطات المحلية يكمن في خلق بيئة تنبذ العنف وتمنعه مسبقًا ودور الشرطة يرتكز على المحاكمة والمعاقبة (وبالتالي الردع).
أولًا، سلطاتنا المحلية تتبنى دورًا خدماتيًا بحت، عوضًا عن مؤسسة حكم محلية (بمثابة حكومة مصغرة) تضع الخطط الاستراتيجية لتطوير المجتمع، التأثير على انماط التصرف والتفكير وإحداث تغيير مجتمعي. للأسف، هذا التوجه مغلوط وهو منافٍ تمامًا لفكرة الديمقراطية المحلية واهدافها. هذا النمط الإداري يظهر بشكل واضح في قضية العنف، إذ تمتنع السلطات المحلية عن بناء خطة استراتيجية شمولية لمكافحة الظاهرة (بل تكتفي بإصدار بيانات الشجب والاستنكار)، رغمًا عن انها تمتلك الصلاحيات القانونية المطلوبة والموارد البشرية والمالية. خطة استراتيجية كهذه يمكن ان تشمل تغييرات جذرية في مجال الأمن، التربية والتعليم، التربية غير المنهجية، الرياضة، الشباب وأن تسند بحملة توعية واسعة النطاق للتثقيف والتوعية وتجذير قيم تقبل الأخر، الحوار والتعددية.
ثانيًا، وللأسف، ليس فقط ان سلطاتنا المحلية تعزف عن بناء خطط مناسبة لمكافحة الظاهرة، انما للأسف نراها لا تقوم بواجباتها القانونية العينية في هذا المجال. مثلًا، في مسح اجريناه مؤخرًا تم الكشف ان اكثر من ٧٥ سلطة محلية عربية (من اصل ٨٥) لم تعين لجنة لمناهضة العنف، أو أن اللجنة لم تلتئم ولو لمرة واحدة، رغم أن القانون يلزم بتعين اللجنة (التي تشمل ممثلين من منتخبي الجمهور والشرطة وقسم الرفاه الأجتماعي ومسؤول مشروع “مدينة دون عنف”) منذ العام ٢٠١١! زد على ذلك، مشروع “مدينة دون عنف” الهادف إلى خلق بيئة مناهضة للعنف تحول في العديد من بلداتنا إلى فرصة أخرى لتوظيف المقربين بدلًا من اصحاب الكفاءات، والأمثلة كثيرة.
ثالثًا، سلطاتنا المحلية لا تقوم بدورها في بلورة وتطوير أطر مناسبة للشباب، خصًوصًا في مجال البرامج غير المنهجية والرياضة. في غالبية سلطاتنا المحلية اقسام الرياضة والشباب مهمشة، ولا تحظى باهتمام كاف ولا بموارد وافية ومناسبة. كذلك، نرى في العديد من الأحيان أن سلطاتنا المحلية تفشل، مرة بعد مرة، في المطالبة والحصول على الميزانيات التي تخصصها الوزارات لمشاريع في هذا المجال (كما يظهر في تقارير مراقب الدولة في السنوات الأخيرة). في المجمل، عدد البرامج غير المنهجية في سلطاتنا المحلية قليل جدًا، وإن وجدت، في أغلب الأحيان نراها محدودة من حيث المشاركة والتأثير.
رابعًا، عامةً الحراك في سلطاتنا المحلية ليس ديمقراطيًا وفي غالب الأحيان يرتكز أساسًا على سبل تعامل عنيفة منها العنف الكلامي، الابتزاز ولغة التهديد والوعيد. التعامل بين الائتلاف والمعارضة لا يرتكز على الاحترام المتبادل والحقوق الديمقراطية لكل طرف وبدلًا من التعاون من أجل المصلحة العامة نرى المناكفات والمشاحنات الفارغة من أي مضمون عملي وموضوعي. التسجيلات المصورة لجلسات البلديات والمجالس العربية تثبت أن لغة الحوار معدومة وأن لغة القوة والعربدة، أحيانًا حتى التراشق الكلامي والتشابك بالأيدي، هي سيدة الموقف. هكذا، التعامل داخل سلطاتنا المحلية هو عنيف في جوهره وبطبيعة الحال هذا ينعكس على أنماط التصرف والتعامل في الحيز العام والخاص.
خامساً، أما عن الانتخابات المحلية وقيادتها منتخبي الجمهور في الماضي والحاضر والمستقبل، فحدث ولا حرج. في أغلب الأحيان، الانتخابات هي بمثابة احتراب بين حمائل تسمي نفسها قوائم انتخابية هدفها الأسمى الفوز بالغنيمة واستغلالها لمصلحتها الخاصة، على حساب الصالح العام. الانتخابات ترتكز على شراء الذمم (بالمال أو الوعود الغريبة العجيبة) وتفتقر (إلا في حالات نادرة) لخطط عمل واضحة وتصور مستقبلي للقوائم والمرشحين. كذلك، تراجع الأحزاب وعزوفها الشامل تقريبًا عن الحكم المحلي يضعف الانتماء الواسع للبلد والمصلحة العامة ويعزز الانتماءات الضيقة للعائلة او الحمولة، وبالتالي التناحر على أساس الانتماء الضيق. هكذا، تتحول الحملات الانتخابية (والّتي تمتد لأشهر طويلة) إلى معركة عنيفة بين أطراف هدفهم الأساس ليس خدمة الجمهور، إنما خدمة الأنا على حساب المجتمع.
لسلطاتنا المحلية الدور الأول والمركزي في مكافحة العنف، وأساسًا في منع حالات العنف قبل وقوعها. للأسف، سلطاتنا المحلية لا تقوم بدورها وواجبها وحتى تغذي العنف بشكل مباشر. الانتخابات المحلية على الأبواب، والمطلوب منا جميعًا، المصوتين، أن نسأل المرشحين والقوائم عن برامج عملهم لمكافحة العنف وأن نمتنع عن دعم من يغذي العنف في تصرفه وتصريحاته. لجميعنا دور في وضع قضية العنف عاليًا في سلم الأولويات، وعلينا القيام بذلك ” الآن الآن وليس غدًا”.
(كاتب المقال المدير العام لجمعيّة “محامون من أجل إدارة سّليمة” الّتي تعمل لتطوير الإدارة السّليمة في السّلطات المحلّيّة العربيّة).