بقلم: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي
يظلُّ الشاعر الحقيقيُّ مُشْكِلًا لغويًّا وقيميًّا لدى طائفة عظمى من متلقِّيه، من حيث لا يفرِّقون غالبًا بين لغة الشِّعر وعالمه وبين لغة الحياة العامَّة وعالمها. ولذا تقع الصدمة بين الطرفَين، صدمة الجمهور بالشاعر، وصدمة الشاعر بعقليَّات الجماهير. وليس للمسألة علاقة هاهنا بالدِّين، من حيث هو، بل بالوعي بطبيعة اللغة الشِّعريَّة ووظيفتها. ولهذا سنلحظ حين نقرأ دواوين الشُّعراء الذين عاصروا (محمَّدًا، صلى الله عليه وسلَّم)- بمن فيهم شاعره الصحابي (حسَّان بن ثابت)- أن في تلك الدواوين ما لن يتقبَّله اليوم أكثر المتنطِّعين تسامحًا؛ لا لأنه متنطع فحسب، ولكن لأنه قبل ذلك في وادٍ والشِّعر في واد.
قال (المتنبي)(1) ذات بيتٍ، متغزِّلًا- مع أن الرجُل ليس من شؤون الغزل في شيء، لكنه وقع في شرِّ أبياته:
يَتَرَشَّفْنَ مِنْ فَمِيْ رَشَفَاتٍ * * هُنَّ فيهِ أَحْلَى مِنَ التَّوْحيدِ
فأوقعَ الشُّرَّاحَ والنُّقَّادَ في حيص بيص؛ لاشتباك الشِّعري بالمقدَّس في بيته! فكان ردُّ فعل صاحبه المقرَّب (ابن جني)(2) أن قال: «وأستغفرُ اللهَ ممَّا يَكره!»
وقال (الواحدي)(3): «هذا إفراطٌ وتجاوزُ حَدٍّ».
ونقل (ابن المستوفي)(4) عن (عبدالواحد بن زكريَّا) قوله: «الأقرب أن يروَى «هُنَّ فيه حلاوةُ التَّوحيد» ولا يروَى «أَحْلَى»؛ لأن في الشِّعر خيالًا». [كذا!] وبالطبع لا بُدَّ أن يكون في الشِّعر خيال، لكن ابن زكريَّا، في ما يبدو، يعني أن فيه إسرافًا في المبالغة، ومن سُنَنِ النقد القديم السائدة تفضيل القريب المأنوس من المعاني على الخيالي المبالغ فيه. وبلفظ آخر تفضيل النثر على الشَّعر!
في حين أشار (عبدالقاهر الجرجاني)(5) إلى أن النفس تنبو عن هذا البيت، وأن فيه إساءة اقتدى بالشاعر فيها بعض المتأخرين.
وثَمَّةَ تأويلات مختلفة لكلمة «التوحيد» في بيت المتنبِّي. فقد قيل إنه التمر التوحيدي: نوعٌ من تمر (العراق)، أو (المدينة المنوَّرة). وقيل: إن الشاعر يعني التوحيد في الحُبِّ، أي حُبّ امرأة واحدة. إلى غير هذين من التخريجات الباردة، التماسًا لتَعس الشِّعر ونَكسه. فلِمَ حَصْر الأمر في توحيد الله؟ ثمَّ ما علاقة توحيد الله أصلًا بالموضوع؟
والحقُّ أن المتنبِّي كان ديدنه أن يوقع قُرَّاءه في الحَيرة بمثل هذه العبارات المتعدِّدة الدلالات؛ لكي يُحطِّم آفاق توقعاتهم، ولكي يسهروا جرَّاها ويختصموا. وإلَّا فليس في سياق الأبيات ما يرشح تأويل التوحيد بما أوَّله به المنكرون بالضرورة، أي «توحيد الله». بيدَ أن الشاعر كان مغرمًا بأن يُلقي المتلقين في شِراك المعاني، لكلٍّ أن يفهم المعنى على الوجه الذي يرى أو الوجوه التي تحلو له، فتتعدَّد القراءات. وتلكم طبيعة اللغة الشِّعريَّة، ابتداءً.
على أن حلاوة التوحيد، بالمعنى الدِّيني، ليست بحلاوةٍ حسيَّة! ومن هنا فإن ما صوَّره الشاعر أحلى- من وجهةٍ حسيَّة- من التوحيد، في تلك الحالة الخاصَّة، وإنما حلاوة التوحيد حلاوة روحيَّة لا حسيَّة. أَ وَلَمْ يأت في «القرآن المجيد»: ﴿ومَا أَكْثَرُ النَّاسِ ولَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين﴾، ﴿ومَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّـهِ إِلَّا وهُم مُّشْرِكُون﴾. (سورة يوسف، 103، 106). فالحُبُّ الحسِّيُّ في الطبيعة البشريَّة، كما ترى، أحلَى من التوحيد، إلَّا بحبلٍ من الله. وأقصى ما يكون المتنبِّي قد اقترف أن قرَّر الحقيقة البشريَّة، التي وصفها «القرآن»، كما هي، بلا نفاق ولا تزييف، وهي أن نزوع الطبع إلى اللذة الحسيَّة أغلب عليه، وأقوى من نزوعه إلى اللذة الروحيَّة. ثمَّ إن الشاعر هاهنا إنما يصف حالةً إنسانيَّة، لا يدعو إلى عقيدة، ولا يبشِّر باعتناق مذهب، ولا ينصح باتباع مسلكٍ في الحُبِّ أو الدِّين. وهو صادقٌ في وصفه الصِّدقَ كلَّه، حسب هذا المعنى الذي آخذوه عليه؛ ولو أن التوحيد، بمعنى كلمة التوحيد ومقتضياتها، كان أحلى لديه في حالته التي صوَّرها، لما ترشَّف صويحباته من فمه رشفات، أصلًا، بل لكان ذلك الناسكَ الزاهد، كما أحبَّ له منتقدوه أن يكون، وإذ هو لم يكن، فقد أوجبوا عليه أن يتظاهر بذلك زورًا!
إن الشاعر لم يقل في ما قال إلَّا صِدقًا، لا نفاقًا ولا مَيْنًا. وكان الأولى بالشرَّاح والنقَّاد أن يلوموه- إنْ كانوا لا بُدَّ فاعلين- على «الترشُّف» نفسه، لا على تقرير حقيقة إحساسه في تلك الحالة، إنْ واقعًا أو خيالًا! أَ وَلَمْ يقل الرسول الكريم، في الحديث الصحيح: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»؟! وهذا من معناه أن لذَّة الفاعل في حالته تلك تطغى على إيمانه، وتغلب سكرتها على ما سواها، وإلَّا لما فعل ما فعل. فهل قال (أبو الطيِّب) أكثر من ذلك؟
ثَمَّةَ فرق، إذن- كما يقول كاتب المقال أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي- بين تصوير الطبيعة البشريَّة كما خلقها الله، أو وصف الواقع كما يجري في الحياة، وبين ما ينبغي مثاليًّا في عالم القِيَم والمبادئ العُليا. غير أن هؤلاء المنتقدين- على فضلهم- قد لا يفرقون كثيرًا بين النصِّ الأدبي، الذي مجاله تصوير النفس البشريَّة، بخيرها وشرِّها، وبين مجال الدعوة، والوعظ، والتوجيه، والنُّصح والإرشاد إلى الأخلاق المتسامية. أي بين ما يقع في حياة الناس وما ينبغي أن يقع، أو قل: بين الواقع والمثال. فإذا عبَّر شاعرٌ عمَّا مرَّ به من تجربةٍ في ظرفٍ ما، أخذوا بخناقه، وحاسبوه حسابًا عسيرًا، وكأنه قام خطيبَ منبرٍ، يهتف بالناس، ويدعوهم إلى فِعْلِ ما فَعَلَ أو ما قال. دون التفاتٍ إلى فارقٍ نوعيٍّ بين خطابَين، وعاه الرسول، ولم يعه هؤلاء. وعاه يوم كان يقبل تشبيب ابن ثابت بريق محبوبته (شعثاء)، وتشبيهه إيَّاه بالرَّاح تارةً وبالتفاح تارة، في مطلع قصيدته الهمزيَّة في فتح (مكَّة). على جلال المناسبة وحساسية السامعين المفترضة! ولم يُقِم عليه الرسول الحَدَّ، ولم يُنكِر عليه بكلمة، بل على العكس، كان يبارك قوله؛ لأنه يعلم أن هذا خطابٌ شِعريٌّ، وليس بخطابٍ خَبَري، ولا دَعَوي. وشتَّان بين السياقَين؛ فلكلِّ مقامٍ مقال. فيما هؤلاء الناس، من المشتغلين بالشِّعر والشعراء، ما ينفكون يقيمون الحدود، نقديًّا، على الشعراء، قديمًا وحديثًا. وعِلَّتهم المزمنة أنهم لا يفقهون كثيرًا من طبيعة الأدب ولا من وظيفته.
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) (د.ت)، شرح ديوان المتنبِّي، وضعه: عبدالرحمن البرقوقي (بيروت: دار الكتاب العربي)، 1: 274.
(2) (2004)، الفَسْر (شرح ابن جنِّي الكبير على ديوان المتنبِّي)، تحقيق: رضا رجب (دمشق: دار الينابيع)، 1: 879.
(3) (1861)، شرح ديوان المتنبي، عناية: فريدريخ ديتربصي (برلين: ؟)، 1: 30.
(4) انظر: ابن المستوفي، (1999)، النِّظام في شرح شِعر المتنبِّي وأبي تمَّام، دراسة وتحقيق: خلف رشيد نعمان (بغداد: دار الشؤون الثقافيَّة)، 6: 462- 463.
(5) انظر: (1991)، أسرار البلاغة، عناية: محمَّد محود شاكر (جُدَّة: دار المدني)، 233.
تابع مواد أخرى للكاتب على حساب “تويتر”: https://twitter.com/Prof_A_Alfaify