شعرة تفصل بين الخيال وتفاصيل المآسي الفلسطينية، وسر “عين السنديان” من هذه التفاصيل المرعبة، لما قام به الصهاينة يوم احتلالهم لفلسطين، حيث اختطفوا ثلاث صبايا واغتصبوهن وأعدموهن.
كان يحاول أن يقتفي أثرها بعد أن خرجت من المنزل، ولم تعد في الوقت المناسب. بحث عن آثار دم فلعل حيواناً مفترساً قد هاجمها، لكنه لم يجد أي علامة توصله إلى ابنته. استمر يبحث عنها في كل مكان، فلم يجدها. بحث في الخرائب، والآبار، والحفر، فلعلها تعثرت وسقطت في إحداها، لكنه لم يعثر عليها.
بحث عنها قرب النبع، وفي الجبال، وفي السهول، وفي الوديان، ولم يعثر عليها. لم يعد يتمالك نفسه بعد فشله، فصرخ بصوت عال، والدموع تنهمر من عينيه “أين أنت يا سعاد، أين أنت يا حبيبة أبوكي”، عاد الصدى من جوف الوادي… وسعاد لم تجبه.
كان عمر سعاد خمسة عشر ربيعاً، يوم طلبت منها أمها أن تنضم إلى جارتيها، فاطمة وخديجة، لإحضار الماء من “عين السنديان” الواقع إلى الشرق من قرية هونين. كان هذا في يوم صيفي منتصف شهر تموز من العام 1948. لم تعرف حينها أم سعاد، ولا سعاد، أن هذه الرحلة ما بين بيتها وعين السنديان، ستكون رحلة عابرة للزمن، وستحفر تفاصيلها في ذاكرتنا إلى يومنا هذا، لنعود معاً عبر 7 عقود للمسار الذي سلكته سعاد ورفيقاتها، نستذكر تفاصيله، ونتخيل الانطباعات، ونستعيد الوقائع، ونفك سر ما حدث وجرى مع سعاد ورفيقاتها في ذلك اليوم.
كانت سعاد فتاة ذكية ونبيهة، تزين حديثها بما حفظت من أبيات الشعر والأمثال العربية، وتجوّد الآيات القرآنية بصوت عذب يبعث في النفس الإيمان والخشوع، وتثلج الصدر بالراحة والسعادة لكل من شاهدها، وهي تغني الأغاني، والأهازيج في الأفراح والأعياد، بزيها الفلسطيني الأسود المطرز بعناية ودقة، وشعرها الطويل الذي كانت تسرحه كتاج من الضفائر، فيزيد جمالها من جمال روحها وبراءتها.
كانت الطريق من بيتها إلى عين السنديان تمر بجانب القلعة التي شيدها الصليبيون في قريتها هونين، وفي كل مرة تمر سعاد من جانبها تستذكر ما سمعته من والدها عن القلعة، وعن صلاح الدين الأيوبي الفاتح العربي الذي قدِم إلى هونين عام 1187 ليحررها من الحملة الصليبية الأولى، وعن الظاهر بيبرس الذي حررها من الحملة الصليبية الثانية عام 1266.
وعلى الرغم من أن القلعة كانت ممراً إلى وجهتها نحو عين السنديان، إلا أنها تركت في نفسها أثراً مميزاً لما تعنيه هذه القلعة من معاني الصمود والانتصار، وأن هذه القلعة الواقفة عند سفح جبل عامل، ما هي إلا دلالة على أن لا احتلال دائماً، وأن عجلة التاريخ دائماً تنتصر لأصحاب الحق، فشعرت بأنها تشحن ذاتها بالقوة والإصرار من أجل الثبات والبقاء في تلك الفترة العصيبة التي تعصف بمن تبقى من أهالي قرية هونين من أخطار التهجير والاقتلاع.
خلال بحث والد سعاد عنها، قابل أحد الرعيان في المنطقة القريبة من كيبوتس كفار جلعادي. أخبره الراعي أنه شاهد داخل الكيبوتس بنتاً تشبه ابنته سعاد. ليس في المكان شرطة يتوجه إليها أهالي الصبايا المفقودات، تساعدهم بالبحث عنهن، فالأيام أيام حرب، ولا أمن ولا أمان. والقرية تعيش حالة من الرعب والهلع، بعد أن تم تهجير معظم أهلها قبل نحو شهرين الذين بلغ عددهم آنذاك أكثر من ألفين، ولم يبق في القرية سوى بضعة مئات فقط، جميعهم، نساء ورجال وأطفال، وشيوخ، تجندوا للبحث عن الصبايا الثلاث: سعاد التي كانت أصغرهم، وفاطمة ابنة العشرين عاماً، وخديجة ابنة الأربعين عاماً.
يراقب الجنود الإسرائيليون المنطقة القريبة من عين السنديان، من بينهم كان الأخوان إبراهام ودانيال بخار، ومناحم شولمان، ويتسحاك حوفيري. يرى إبراهام الصبايا الثلاثة عن بعد، يعرف أنهن عربيات، فلباسهن الأسود الطويل يشي بذلك، تلمع عيناه شراً، ويمتلئ قلبه حقداً، فهذه ساعته للانقضاض على الصبايا الثلاث، والانتقام لقريبه الذي قتل قبل عدة أيام قرب تل العزيزات.
يفاجئ الجنود الصبايا الثلاث وينقضّون عليهن. لم تكن أمامهن أي فرصة للهروب، فالجنود في كل مكان يصوبون البنادق باتجاههن. شعر الجنود بنشوة كبيرة وهم يقودون سعاد، وفاطمة، وخديجة شمالاً باتجاه معسكر الجيش. بعد نصف ساعة من السير على الأقدام يأمر ابراهام الصبايا الثلاث بالوقوف، ثم يطلب من كل واحدة منهن أن تختار الطريقة التي سيغتصبها بها الجنود.
لدى سماع هذا الكلام، يقهقه الجنود بصوت عالٍ، بينما تتسمر الصبايا الثلاث في مكانهن. يقترب دانيال من سعاد، فتنقض عليه خديجة تحاول منعه من لمسها، فيطلق عليها مناحم النار. تحاول سعاد، وفاطمة الهروب، لكن الجنود كانوا أسرع منهما. اغتصب الجنود الصبايا الثلاث، لم يمنعهم من ذلك الدماء التي كانت تسيل من رجل خديجة، ومن ثم قاموا بإعدامهن بالرصاص، وألقوا جثامينهن بجانب الطريق، واستمروا في طريقهم إلى معسكر الجيش وكأن شيئاً لم يكن.
تنظّم أهالي القرية في أربع مجموعات، كل مجموعة تبحث عن الصبايا الثلاث في جهة مختلفة. الأيام أيام صيف، والطقس حار، لكن المياه الوفيرة، والأشجار الكثيفة الخضراء التي تحيط القرية تخفف من شدة الحر. المكان خطير يستوجب الحذر، فالعصابات الصهيونية تراقب المكان، كذلك الحدود لتمنع عودة المهجرين الذين هجروا شمالاً إلى لبنان، أو دخول مساعدات.
توجهت المجموعة الأولى شرقاً باتجاه أرض عين العجال، وعين السنديان، فإلى هنا كانت وجهة الصبايا الثلاث. أما المجموعة الثانية، فتوجهت جنوباً باتجاه وادي البطاني، وعين العقرب، والمجموعة الثالثة أخذت تبحث عن الصبايا الثلاث إلى الشمال من القرية باتجاه وادي العار، أما المجموعة الأخيرة فوصلت إلى الحدود اللبنانية التي تبعد عن القرية نحو كيلومترين. بحثوا في كل مكان، بين الأشجار، وفي الوديان. نادوا بصوت عالٍ، لكن لم يجدوا أثرا يوصلهم إلى الصبايا الثلاث.
بعد عدة أيام، علم قائد المعسكر بفعلة جنوده، فقام بإرسال عدد من الجنود إلى الموقع، وأمرهم بدفن الجثامين لإخفاء الجريمة. من بين الجنود الذين شاركوا في عملية نقل ودفن الجثامين كان يعكوف غرينفلد، يوسف بن موشي، تسيون بن زخاريا، وموشي بن يهودا. في شهادته يقول تسيون بن زخاريا إن الجنود وجدوا جثاميناً لثلاث نساء فقط، كن يلبسن ملابس سوداء، وكانت تخرج منهن رائحة كريهة، وتم دفنهن بملابسهن في قبور عمقها نحو سبعين سنتيمتراً، أما صديقه موشي بن يهودا فيضيف أنهم استمروا بالبحث عن جثمان المرأة الرابعة، ووجدوا بعد عدة أيام جثمانها متحللاً فقاموا بحرقه.
في التاسع والعشرين من شهر تموز لعام 1948، زار وزير الأقليات والشرطة الإسرائيلي كيبوتس كفار جلعادي، الذي يقع على بعد بضع كيلومترات من قرية هونين، والقائم على أراضي قرية خربة طلحة المهجرة، واجتمع هناك مع المسؤولين الصهاينة في المنطقة. أحدهم يدعى ناحوم هوروفيتس، وهو أحد الصهاينة البارزين آنذاك. في هذا اللقاء أخبر ناحوم الوزير أنه قبل وقت قصير ألقى رجال الجيش القبض على أربع نساء عربيات، فاغتصبوهن وقتلوهن. يتحدث ناحوم عن أربع نساء، وليس فقط عن ثلاث. لا نعرف إذا كان أكثر تفصيلاً، لكن هذا ما تم توثيقه، وتسجيله في بروتوكول اللقاء.
شارك في اللقاء نفسه عامنوئيل فريدمان، مسؤول الأقليات في منطقة صفد، الذي تم توثيق حديثه في البروتوكول. يقول إنه توجه إلى المسؤول في وحدة “عوديد” العسكرية، وهذا وعده في التحقيق بالموضوع، يضيف عامنوئيل أن “العرب في المنطقة يعلمون عن اختفاء النساء الأربع لكن لا يعلمون ما حل بهن”.
في العاشر من آب من العام عينه، عقد اجتماع في كيبوتس كفار جلعادي بين أهالي هونين، والمسؤولين الصهاينة. مثّل أهالي هونين في هذا اللقاء أربعة من وجهاء البلدة وهم شاكر فارس، ومحمد واكد، ومحمد الشاعر، ومحمد برجاوي، وشارك من الطرف الثاني عامنوئيل فريدمان. في اللقاء، طالب وجهاء القرية السماح لأقربائهم الذين هجروا قبل ثلاثة أشهر بالعودة إلى بلدتهم. تعهد عامنوئيل نقل طلبهم إلى المسؤولين عنه مع توصية بالاستجابة إلى مطلبهم.
محمد الشاعر، أحد المشاركين في اللقاء، هو من أقارب سعاد، وكان والدها قد طلب منه أن يستفسر مع المسؤولين الصهاينة إذا كان عندهم علم حول ما حل بسعاد، ورفيقتيها فاطمة وخديجة. في نهاية اللقاء، يسأل محمد الشاعر عامنوئيل إذا كان عنده أي خبر حول سعاد ورفيقتيها. حرك عمانوئيل رأسه نافياً أن يكون عنده أي علم أو خبر بالموضوع، رغم علمه بتفاصيل ما حدث.
التقي وجهاء القرية مع ممثلي الصليب الأحمر، وأخبروهم أن عامنوئيل قد وعدهم بإعادة أقربائهم المهجرين، وسلموهم قائمة بأسماء أهالي القرية، وطلبوا منهم إيصال الخبر المفرح إلى أقاربهم ليتحضروا للعودة. إلا أنه فجر اليوم التالي، وبتاريخ الثاني من أيلول، أصدر الجيش الإسرائيلي أمراً بمهاجمة قرية هونين، وبحسب الأمر فإن “الهدف هو مهاجمة القرية، وإعدام عدد من الرجال، وأخذ الأسرى، وهدم عدد من البيوت، وحرق ما يمكن حرقه”، ويوصي الأمر بتزويد الفرقة التي ستهاجم القرية بمئتين وخمسين كيلوغراماً من المتفجرات. أما نقطة تنفيذ الهدف، فهي “منارا” والهجوم على القرية من جهة الغرب إلى الشرق.
هاجم القرية جنود وحدة “البلماح” بقيادة الضابط “يغآل الون”، ضمن عملية يفتاح لتطهير الجليل الشرقي، وأعدموا فيها عشرين من أبنائها، ثم هدموا بعض البيوت، وحرقوا ما يمكن حرقه.
أما من بقي حياً، فتم تهجيرهم شمالاً، وأزيز الرصاص فوق رؤوسهم. ترك أهل سعاد القرية، لكن سعاد لم تتركها معهم.
خلال محاكمة الجنود، أمر الطبيب الشرعي الإسرائيلي بإخراج جثامين الصبايا الثلاث من القبور ليتم فحصها. في تقريره، يقول الطبيب الشرعي إنه يقدر عمر الأولى خمسة عشر عاماً، والثانية عشرين عاماً، والثالثة أربعين عاماً. لقد تم اغتصابهن جميعاً، وبعد ذلك تم إعدامهن. لقد تم إعدام الصغرى بإطلاق الرصاص على جبهتها، أما الوسطى فقد تم إطلاق الرصاص على رأسها من الخلف، بينما لم يتم التعرف على طريقة إعدام الثالثة. لقد كان رأسها مهشماً بالكامل.
اعترف الجنود الأربعة أمام المحكمة أنهم اغتصبوا النساء، وقاموا بإعدامهن انتقاماً لمقتل جندي قريب لهم في منطقة تل عزيزات. لكن رغم ذلك، برأت المحكمة الجنود القتلة المغتصبين، وعللت ذلك أن النساء اللاتي تم إغتصابهن، وإعدامهن، هن مجندات عربيات.
اقتلعت عائلة سعاد من هونين إلى لبنان، وظل الأمل، والقلق يعتصر قلب العائلة لفك سر اختفاء سعاد طوال عقود. كانت أم سعاد على ثقة ويقين أن ابنتها على قيد الحياة. لعلها وجدت مأوى عند إحدى العائلات التي لم تهجر، أو لعلها انضمت إلى إحدى العائلات المهجرة، يضيف زوجها بعدما تذكر كلام الراعي، لعل إحدى العائلات اليهودية تبنتها.
في كيبوتس كفار جلعادي، هناك مبنى كبير هو متحف الطبيعة، تم بناؤه من حجارة بيوت قرية هونين. لقد تمت سرقتها، ونقلها بعد هدم القرية لبناء المتحف. الأمر يثير اهتمام أحد أبناء الكيبوتس ويدعى تومر، فيبدأ، قبل نحو عشر سنوات، في البحث في الموضوع. خلال بحثه في الأرشيف، يقع بين يديه البروتوكول الذي يوثق اللقاء مع وزير الشرطة في التاسع والعشرين من تموز، والذي يحوي في آخره خبر اغتصاب، وإعدام الصبايا. يصوره ويحافظ عليه.
بعد فترة عاد تومر إلى الأرشيف ليكتشف أنه تم حذف الفقرة التي تتحدث عن عملية اغتصاب وإعدام الصبايا. يسأل تومر المسؤول في المتحف عن سبب الحذف، فيجيبه أنهم قاموا بذلك حفاظاً على خصوصية النساء اللاتي تم اغتصابهن وإعدامهن. لم يقل المسؤول الحقيقة. لقد كانت عملية الحذف محاولة اغتصاب، وإعدام أخرى تضاف إلى عملية اغتصاب وإعدام الصبايا، وإعدام شباب القرية، وهدم وحرق القرية، ونهبها، وتهجير أهلها.
مات والدا سعاد، ولم يعرفا ما حل بها من جرم. وها نحن اليوم نكشف السر الذي بقي مدفوناً بين الأوراق، وذاكرة المعتدين، لترقد سعاد، ورفيقاتها بهدوء بعد أن شهدنا على ما حل بهن في تلك الرحلة إلى عين السنديان.