باتت إنتخابات السّلطات المحلية قاب قوسين وأدنى، وصرنا نرى صور المرشحين تملأ المحاور المركزية في شوارع المدن، حتّى أوشكت أنْ تغطّي كلّ لوح إعلانات، مفترق طرق وعامود كهرباء.
وفق التّوجّه الدّيموقراطيّ الكلاسيكيّ، إنّ هذه المرحلة، الّتي يحاول خلالها ممثلو الجمهور كسب ثقته، تشكّل عاملًا أساسيًّا لتحفيز السّلطة الحاليّة على العمل، فتدأب لتحسين الخدمات الّتي توفرها للمواطن بُغية أن تُنتخب مجدّدًا. أمّا بالنسبة لأولئك الّذين يصبُون إلى تقلد السّلطة، فتحثّهم الانتخابات على الالتزام بما صرّحوا به وعرضوه كمُخطّط عمل، يُفحص المرشّح بناءً عليه خلال الفترة الانتخابية.
على الرغم من الأجواء الكرنفالية المُرافِقة للانتخابات، وقدرتها على تعزيز روح المسؤولية في نفس الممسكين بزمام الحكم والسلطة تجاه المواطن، تقع في هذه الفترة أحداث شتّى تثير شكوكًا حول إمكانيّة تحقيق التصور الدّيموقراطيّ الكلاسيكيّ والمتفائل، المذكور أعلاه، على أرض الواقع.
في السّلطات المحلّيّة الصّغيرة، ذات عدد المنتخبين القليل، قد يتعرض الناخب لضغوطات عدّة من قِبل الحمائل والعائلات التي يُعتبر دعمها ضروريًّا من أجل الفوز بالانتخابات. ما يثير القلق في هذه القضيّة هو أنْ تصبح الانتخابات أداة يستغلّ فيها المرشّحون منصبهم لتفضيل مصالح العائلة أو المجموعة التي مكّنتهم من الفوز، على المصلحة العامّة والدّائرة الأوسع الّتي تحوي كافّة السّكان. حتّى في البلدات الكبيرة التي تخلو من سيطرة عائلة أو حمولة معيّنة، قد تطغى المصالح الاقتصادية لممولّي الحملات الانتخابية على المصلحة العامّة – اذ أنّ تكاليف هذه الحملات، بطبيعة الحال، تزداد كلّما إزداد عدد المنتخبين- لذا، هناك حاجة لمساعدة ودعم من أناس كثر بهدف الفوز بالانتخابات.
لذلك، فإنّ مصاحبة هذه المعوّقات لآلية الإنتخابات، الّتي تتيح للمواطنين فرصة إستبدال ممثّليهم مع نهاية كلّ دورة إنتخابيّة، تثير مخاوفًا من أن يخرج ممثّلو المواطنين من المعركة الانتخابية مُثقلين بالتزامات ووعود للحمولة أو لأصحاب المصالح، لا تتماشى مع المصلحة العامّة الواسعة وتقيّدهم في عملهم.
أين وزارة الدّاخليّة؟
حسب نموذج المراقبة المتّبع في إسرائيل، وتبعًا للظّروف الموضّحة أعلاه والتي تخلق بيئة لإدارة غير سليمة تمس بجودة الخدمات في السّلطات المحلّيّة، على وزارة الدّاخليّة التي تُعتبر مسؤولة عن أداء السّلطات المحلّيّة وعملها، أنْ تبني رقابة فعّالة. إلا أنّها في الغالب لا تؤدّي عملها بصورة كما يجب ولا توفق بين الحفاظ على إستقلاليّة السّلطات المحلّيّة من جهة والتّدخّل فيما يتطلّب ذلك منها من جهة أخرى. يرتكز هذا الإدّعاء على أبحاث ومقالات عدّة وجّهت نقدًا تجاه الأسلوب الّذي تقوم به وزارة الدّاخليّة بتوظيف سهام المراقبة الّتي بجعبتها. أشارت الأبحاث الى أنّ الإهمال في تحديد العلاقة بين الحكم المركزيّ والمحلّيّ في إسرائيل والتّقصير في إستخدام أدوات المراقبة، تُنجم عواقب غير محبّذة.
ترويج مبدأ الإدارة السّليمة
ماذا بوسع الجمهور أن يعمل من أجل تقليص ظواهر الفساد ومسبّباتها المناقَشة أعلاه؟ كيف بمقدورنا تقليص الاحتمال بأن يحظى بالمناقصات أحد المقرّبين من رئيس البلدة بعد الانتخابات أو رهن السّلطة لتعيينات سياسيّة ووعود في إطار اتفاقات ائتلافية تهدف لمنح امتيازات شخصيّة لممثّلي الجمهور، عائلاتهم وأقربائهم؟
يلعب سكّان السلطة المحلية دورًا مركزيًّا وأساسيًّا في معالجة عوامل الفساد على إختلافها، وذلك أثناء فترة الإنتخابات وبعدها. اذكر مجالين أساسيّين للنّشاط الجماهيريّ للسّكّان، يجدر التوقف عندهما:
المجال الاول، هو بواسطة تشكيل مطالبة لسلعة “الإدارة السّليمة” على نحو يُفهم المرشّحين أنّ الجمهور يُجازي الأعضاء، مكافأةً أو عقابًا، بحسب جودة أدائهم ومدى تماشيه مع المصلحة العامّة والواسعة. من أجل تشكيل “مطالبة بالإدارة السّليمة“، بإمكان الجمهور، قبل كل شيء، أن يمنح هذا الاعتبار الأهمّيّة اللّازمة عند الإدلاء بصوته. فالإقتراع هو مُراد ومسعى المرشّحين بالمقام الأوّل، وفي اللحظة التي يتبيّن لهم فيها أنّ الأداء السّليم يعود عليهم بالفائدة، ستزيد، بصورة تفوق التّوقّعات، إمكانيّة التّمتّع بإدارة سليمة وسلطة ملتزمة بالمصلحة العامّة بعد الانتخابات. فضلًا عن ذلك، بمقدور الجمهور طرح الأسئلة والتوقّعات أمام المرشّحين في قضايا الإدارة السّليمة ضمن مُجريات الإنتخابات وفي إطار لقاءات مختلفة – بمبادرة المواطنين أو بغيرها- مع المرشّحين، الأمر الذي يجعل المرشّحين مدركين للأهمية الكبيرة التي يوليها الجمهور لهذه القيم.
أمّا مجال النّشاط الآخر، فهو واجب عدم غضّ الطّرف عن أية معلومات يملكها المواطن قد تكشف النّقاب عن إدارة غير سليمة من قِبل ممثلي الجمهور أو النظام التابع لهم. على خلاف المجال الأوّل، فإنّ هذا المجال متعلّق بالظّروف وليس متاحًا دائمًا. في هذا السياق، مستحَبّ أن يقوم أيّ مواطن بحوزته معلومات حول إتّفاقيّات غير لائقة، تبرّعات غير قانونيّة أو أيّة خطوة منافية لما ينصّ عليه القانون، بنقل تلك المعلومات لمعالجة المؤسّسات القانونيّة. يُعتبر الإعلام من اللّاعبين المركزييّن في هذا المضمار، إذ أنّ إحالة مثل هذه المعلومات للإعلام قد تكون ذات تأثير قويّ ورادع. كما أنّ أبواب مؤسّسات المجتمع المدني مفتوحة على مصراعيها لكلّ المواطنين والسّكّان الّذين يقصدونها بمعلومات حول أعمال فساد وتجاوزات.
على الجمهور أنْ يخلق هذه ال “مطالبة بالإدارة السّليمة” ومطالبة المرشّحين المتنافسين بأجندة الإدارة السّليمة إيمانًا وإدراكًا منهم أنّ هذه “سلعة” نقصها يُفقد نظام العمل في السّلطات المحلّيّة جوهره الأساسي بمنح السكان خدمات بجودة عالية. عند فقدان الإدارة السّليمة، مستوى التعليم متدنٍّ، الشّوارع غير معبّدة، التطوير والبنى التّحتيّة مهمَلة، وفي المجمل، الخدمات المحلية منقوصة وضعيفة.
السّؤال الّذي يطرح نفسه هو: هل سننجح في الانتخابات القريبة أنْ نرى في حقّنا في الانتخاب “وسيلة تقييم” للمرشحين، تقييم يعكس جوهرهم الحقيقيّ أمام أعيننا، دون تنازلات وبلا غضّ الطّرف عن سجّل نظافة أيدي المرشّحين ونزاهتهم في عملهم الجماهيريّ؟ وهل ستُعرب نتائج انتخاب المرشحين – الّذين يتمتّعون بقدرة لملاءمة أنفسهم للرّأي العامّ والسّائد- عن أنّ الشّعب ناضج بما فيه الكفاية وقادر على أن يقيّمهم بهذه الموضوعيّة؟ إنّ الإجابة بالإيجاب عن هذين السّؤالين سترفع بشكلٍ حاسم الاحتمال بأن نحظى مع نهاية هذه الانتخابات بممثّلين أكثر التزامًا بمصلحة الجمهور، كافّة الجمهور، لا بالتزامات مخفيّة لا تخدم مصلحة الجمهور واحتياجاته.
(المدير العام لجمعيّة “محامون من أجل إدارة سّليمة” الّتي تعمل لتطوير الإدارة السّليمة في السّلطات المحلّيّة العربيّة).