الوقفة الأولى… مع ال “إسراتوزيس”.
قبل سنين وفي سياق آخر كتبت: “أتمنى على أنفسنا التخلص من مرض “الأمريكتوزيس” المزمن فينا. وكنت استعرت التسمية من مرض سرطاني كان اكتشف حينها، تسببه مادة “الإسبيست” اسمه “الأسبستوزيس”. وفي سياقنا، “الامريكتوزيس” مرض يمكن تعريفه: بحب كل ما تكرهه أميركا وكره كل ما تحبه أميركا”. وهذا المرض كما السرطان له أصناف عدّة فهنالك “الإسراتوزيس” وأخيرا اكتشفنا “الإيرانتوزيس”، والقائمة طويلة ومراكز الأبحاث عندنا زاخرة كما هو معلوم نفاخر فيها الأمم!
صحيح أنه لم يأت شرقَنا ومنذ قرون شيءٌ من الغرب يسر القلب، لكن هذا يجب ألا يدعونا لنكون عرضة للأمريكتوزيس ومجروراته لدرجة أننا عندما نصاب به ندمنه ونصير نرفض حتى التداوي منه، بمعنى أن نتخذ مواقفنا ليس بالضرورة حسب ما تحب وتكره أميركا إنما حسب ما نحب نحن من صميمنا ونكره، بغض النظر إن ماتت أميركا هياما بما نحبّ أو عشقا بما نكره. ويبدو أننا نهيم بهذا المرض لأنه، وبغض النظر عن الألم الذي يسبّبه لنا، يطغى على آلام أمراض كثيرة فينا وأشدّ إيلاما فنتخيّل أن هذا يكبتها ولو “ضحك على حالنا”.
الوقفة الثانية… مع حقّ تقرير المصير.
مبدأ عرفه التاريخ الحديث ودخل قاموس القانون الدُّولي وتبناه ميثاق الأمم المتحدة، وينصّ على: “حقّ الشعب أو السكان المحليّين أن يقرّروا شكل السلطة التي يريدونها وطريقة تحقيقها بشكل حرّ وبدون تدخّل خارجيّ، وتنفيذيّا أضيفت على ذلك شروط مثل التواجد على بقعة جغرافيّة محدّدة ومتكاملة والخصوصيّة الثقافيّة وما شابه”.
طغى المبدأ أيام التحرّر من الاستعمار ولم يخرج عن قواعده التي تمّ التوافق حولها، إلا قيام إسرائيل، إذ أنّ الصهيونيّة طرحت ممارسة هذا الحقّ على أرض لا يقيم فيها اليهود، غير أن الواقع الذي نتج عن ذلك وبغض النظر عن خلفيّاته، وضع شعبنا الفلسطينيّ في مواجهة مباشرة مع إحقاق هذا الحقّ وما زال يصارع في سبيله.
الوقفة الثالثة… مع المبدأ والموقف السياسيّ.
تأييد نتانياهو العلنيّ للاستفتاء المنوي إجراؤه في إقليم كردستان وحتّى العلاقة التاريخيّة بين آل البرزاني وإسرائيل، ليسا سببا لاتخاذ الموقف ضدّ حقّ الأكراد في تقرير المصير إذا قرّرت ذلك أكثريّتهم. معروفة الأهداف التي كانت وراء ترسيم الحدود في مناطقهم، فهل تغييب أو تناسي معرفتنا هذه وفقط لأن العراق وتركيا وإيران وسوريّا ترفض ذلك، يشرعن موقفنا الرّافض لحقّهم؟!
هذا هو “إسراتوزيس” ليس إلا، ولكنّ لا هذا ولا غيره يجب أن يغيّر الموقف المبدئي في دعم حقّ الأكراد في تقرير مصيرهم وليتحمّلوا التبعات الجيوسياسيّة، بغض النظر إن أيّدت إسرائيل ذلك أو عارضت، هلّلت أو صمتت، أمّا سياسيّا ف-“كلّ واحد حرّ” في موقفه، لكنّ الموقف السياسيّ ليس دائما يتماهى مع المبدأ، وفي سياقنا حقّ تقرير المصير حقّ مبدئي أساسيّ للشعوب، ويجب أن يُدعم أو لا يُعارض على الأقل إن دعتك لعدم الدعم دواع جيوسياسيّة بغضّ النظر عن ماهيّتها شرط ألا تكون “توزيسيّة”.
الوقفة الرابعة… مع الذكرى والتذكير وفلسطين.
على ضوء ما ذكرت في نهاية الوقفة الثانية، عن الصهيونيّة وحقّ شعبنا الفلسطينيّ، فالسؤال الشرعيّ هو: كيف يصح أن نرفض حقّ الأكراد في تقرير مصيرهم ونريد لشعبنا الفلسطينيّ هذا الحق، وانطلاقا من نفس المبدأ ؟!
حقّ تقرير المصير مبدئيّا لا يُجزّأُ ولا مكان للكيْل فيه بمكيالين ولا قياسه بمعيارين مهما كانت الدوافع السياسيّة والمصلحيّة قوميّا ووطنيّا، وكم بالحري إذا كان ذلك نابعا فقط من “الأميركتوزيس” أو “الإسراستوزيس”.
تحضرني من أيام الشباب قضيّة الشعب الأريتيري الذي كان يناضل في سبيل هذا الحقّ في وجه إمبراطور الحبشة هيلاسيلاسي وكنّا من أشد المناصرين له، ويطير هيلاسيلاسي في انقلاب هيلامريام الشيوعي وبقدرة قادر يطير معه حقّ تقرير المصير للشعب الأريتيري من قاموسنا، هذا هو الكيل بمكيالين وباللاتيني “بارإكسيلانس”.
الوقفة الخامسة… مع الاستفتاءات.
الاستفتاء هو الآلية الديموقراطيّة المثلى ولنا في سويسرا المثل الأعلى، والمشكلة ليست مع ذلك، المشكلة مع مواقفنا المتغيّرة مبدأ حقّ تقرير المصير والاستفتاء عليه ومن منطلقات سياسيّة، فحين يُطرح استفتاء في تشريع إسرائيليّ تقوم قيامة اليمين العنصريّ على مجرّد إمكانية مشاركة “المواطنين العرب”، فتثور ثائرتنا على هذا الموقف التمييزيّ العنصريّ، وعندما تُطرح في سورية انتخابات استفتائيّة رئاسيّة تثور ثائرة أعداء سوريّة وحجتهم عدم النزاهة، وعندما يُطرح الأمر في كردستان يصير الأمر تآمرا على العراق ووحدته، ومسّا في الأمن القوميّ التركيّ و…و…و….
كلّ ذلك مواقف سياسيّة لا تمتّ للحق المبدئي في تقرير المصير بأية صلة، يحقّ للأكراد الاستفتاء على مصيرهم وهذا حقّ مقدّس، هكذا يجب أن يكون ولا يحقّ لأحد أن يقلق على مصيرهم أكثر منهم وهم من سيتحمّل تبعات قرارهم.
أحرار الآخرون في اتخاذ أي موقف سياسيّ من هذا الموضوع، لكن بتاتا ليس من حقّ أحد أن ينزع من الأكراد أو عنهم هذا الحقّ، هذا إذا كان ممّن يملك الوسائل، أمّا إذا كان كلّ ما يملك هو الكلمة فليس من حقّه، إن كان ضدّ، أن يغلّف موقفه بالمبدئيّة، وكم بالحري إذا كان مصابا بال-“إسراستوزيس”.
سعيد نفاع
أواسط أيلول 2017