إضاءات ومواقف للمربِّي المرحوم نمر مرقس


من اليمين: المرحوم أحمد مدلج (مدير المدرسة)، المرحوم نمر مرقس، عبد الفتاح عراقي وحسني بيادسة.

                                             المربي المتقاعد حسني بيادسة

عطفًا على مقال السيدة أمل مرقس (ابنة المرحوم نمر مرقس): “تصويب وإضاءة”، عن الراحلين نمر مرقس ومحمود درويش (الاتحاد، الاثنين 14 آب 2017) رأيت لزامًا علي بدافع الأمانة ورد الجميل أن أضيف اضاءات إلى إضاءة السيدة أمل من حياة المربي المرحوم نمر مرقس، ابن كفر ياسيف. كان من حُسن طالعي وحظي كذلك أنني زاملته في بداية مسيرتي التربوية في مطلع عام 1954- 1955 الدراسي، وفي مدرسة برطعة الابتدائية، في المثلث الشمالي، بالذات، كنتُ شابًا تخرّج للتوّ من ثانوية باقة الغربية مزودّا بشهادة البجروت، وكان المرحوم الأستاذ نمر هو أول من قابلته وتعرفت عليه، كان بشوشًا أخًا كريمًا نمرًا. عرّفني على نفسه قائلاً: نمر مرقس من قرية كفر ياسيف بالقرب من مدينة عكا، ومع معرفتي بقرية كفر ياسيف وبُعدها الجغرافي عن قرية برطعة، عرفتها حين زرناها طلاب ثانوية باقة الغربية عام 1953، على ما أعتقد وبتنا ليلتنا في ثانويتها، دفعني حب استطلاعي واستغرابي أن أسأل مدير المدرسة: لماذا لا يعمل الأستاذ نمر في بلده أو حتى في جليله؟! صمت المدير ولم يجبني على تساؤلي مما زاد في استغرابي وتعجّبي. وانتظرت حتى سنحت لي فرصة تحدثت فيها إلى الزميل نمر وسألته مُستفسرًا عن سبب عمله في مدرسة برطعة؟ أجابني بهدوءٍ وثقة: تعييني هنا كعقاب لي كوني عضوًا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، يعني أنا منفي هنا ومُبعد، فهمت لماذا هنا وليس في بلدي، أو في مكانٍ قريب من بلدي!! ولست وحدي مُبعدًا فمعي في المثلث كل من: الياس نجيب دلّة (كفر ياسيف) ووديع جهجاه (أبو سنان). عملت والمرحوم سنتين دراستين كاملتين في مدرسة برطعة الابتدائية، كان المرحوم فيهما بالنسبة لي: المعلم المرشد والأخ الناصح المساند.
وفي عامي الدراسي الثاني في مدرسة برطعة، وفي أواخر ربيع عام 1956، حضرت إلى قرية برطعة مجموعة من رجال الشرطة والجمارك الإسرائيلية، لمعاينة ووزن منتج التبغ، ومن ثم اقتنائه من مزارعيه، وحال دخولهم القرية أشيع أن أحد أفراد الحرس الوطني أو الجيش الأردني من الجانب الأردني لقرية برطعة (حسب اتفاقية رودوس، قُسمت قرية برطعة إلى قسمين واحد إسرائيلي، والآخر أردني هاشمي يتوسطهما وادي الحنّانة)، يتحرش بهذه المجموعة ويحاول التعدّي والتعرّض لها، مما تسبّب لاحقًا باحتدام الأمر والتعارك ما بين الطرفين، تتراجع المجموعة الإسرائيلية إلى الخلف وتحط بالقرب من المدرسة، ليدخل ضابط أمن إسرائيلي داخل المدرسة، ويطلب الاجتماع إلى مدير وأعضاء الهيئة التدريسية الأربعة، وما أن بدأ الاجتماع حتى طلب الضابط مني أن أتوجه حالا وسريعًا إلى القرية واستدعاء مختار القرية، لأن الوضع يُنذر بالسوء والخطر. رفضتُ طلب الضابط مبرّرًا بأنني أعمل هنا معلمًا ولستُ آذنًا. رفض تبريري وأصرّ على ما طلبه مني، وحاولت التهرّب مرةً أخرى، من هذه المهمة قائلا: لستُ من أبناء هذه القرية ولا أعرف المختار وبيته. لم يعجبه جوابي وقال بصرامة وغطرسة: نفذ ما أطلبه منك وبلا تردّد… وإلا…. فهمت؟! فهمت ما رمز إليه وتوجّهت إلى القرية التي تبعد عن المدرسة مئات الأمتار، بصعوبة اهتديت إلى بيت المختار، ولم أجده ورجعت إلى المدرسة، وما أن وصلتها حتى بادرني الضابط مهدّدا ومتوعدًا وصارخًا في وجهي: لماذا تأخّرت في الرجوع؟ أين ذهبت؟ وهل وشيت بنا إلى العدو؟! نعرف كيف نتعامل معك…
وما هي إلا لحظات وإذ بزخات الرصاص، تنطلق من الجانب الأردني لتحط في الجانب الآخر، وبالقرب من المدرسة، توجه الأمن الإسرائيلي إلى مدير المدرسة، وطلب إليه صرف المعلمين والطلاب إلى بيوتهم إلا من واحد، وكان هذا الواحد أنا، حسني، وأشار إليّ باصبعه قائلاً: “أنت ابق هنا لتُحاسب فيما بعد، ارتعدت فرائصي وقلت في نفسي: لن أخرج حيّا من هنا، إذا ما حمي وبدأ التراشق. وما كان من مدير المدرسة إلا أن همّ وزميل آخر بالانصراف ومغادرة المدرسة مع سائر الطلاب والطالبات، وكما أمر مسؤول الأمن، أمّا المرحوم الأستاذ نمر، فتحرّك واتجه نحوي، ووقف إلى جانبي كالطود الشامخ قائلا: لا تخف، مجرد ترهيب وتخويف، أنا باقٍ معك… وتوجه إليه رجل الأمن وقال له: لماذا لم تتحرك وتغادر المدرسة؟ ألم آمركم بالمغادرة حالا وسريعًا، حفاظًا على أرواحكم!! فأجابه المرحوم إجابة تشع إيثارًا واضاءةً تجدها عند الرجال ذوي المواقف والمبادئ الإنسانية الشريفة: إمّا أن نبقى هنا أربعتنا أو نغادر ومعنا الأستاذ حسني، وبأي حق تبقونه هنا؟ لن أتركه وحده في هذا الجو المتلبدّ… فرّد عليه وقال: لا تناقش في هذا الموضوع، الأمر عسكري، إذا رفضت الانصياع اعتقلتك حالا… فهمت؟!
وما أن غادر الجميع المدرسة، لأبقى وحدي داخل أحد الصفوف الثلاثة،حتى زادت النار اشتعالا لتدور معركة حامية الوطيس، وتستعمل فيها جميع أنواع الأسلحة، ومن الطرفين رشاشة وغير رشراشة كالمدافع الثقيلة والخفيفة، انتابتني شكوك ومخاوف دفعت بي أن أختبئ داخل خزانة حائط، لأتحاشى زخات الرصاص التي كانت تتساقط كالمطر، على جدران وأبواب وشبابيك الغرف المدرسية.
ومع غروب شمس ذلك اليوم توفقت المعركة، وبواسطة مراقبي الأمم المتحدة، حينها جاءني الفرج، وأطلق سراحي مصحوبًا بالتهديد والوعيد، وسرتُ مسرعًا نحو القرية، وأنا أخشى أن أقع ضحية طلقة أو طلقات نارية من الطرف الآخر، ظانين بي ظن السوء. وصلت القرية لأجدها وقد خلت من غالبية سكانها الذين غادروها إلى القرى المجاورة، خوفًا ورعبًا، اللهم إلا البعض القليل الذي بقي، ومنهم والد المختار المرحوم الحاج أحمد مدلج، الذي استضافنا وأكرمنا أنا وزميليّ وبتنا ليلتنا عنده.
وعودة إلى الزميل نمر الذي زاد من تقديري واحترامي له، ولموقفه الشجاع نحوي، وإذا أضفنا إلى كل ذلك، ما اتسّم به من صفات حميدة وأصيلة، هدوءه، تواضعه، محبته واحترامه للآخرين، إلمامه واطلاعه الواسع، حبه للوطن والإنسان أيًا كان… ولطالما شنّف آذاننا بصوته العذب وخاصة عندما كان يصدح بأغنية “عندما يأتي المساء” للموسيقار محمد عبد الوهاب، وفي هذا السياق قلت للسيدة أمل ابنة المرحوم عندما جمعتنا إحدى المناسبات الاحتفالية معترفًا بجميل والدها وشاكرًا: “حبّة التفاح لا تسقط بعيدًا عن الشجرة الأم” هزّت رأسها وابتسمت، واعترف أن أول رواية عربية حديثة تصدر في قطرٍ عربي قرأتها حيث كنا عطشى لهذا النوع من الأدب، استعرتها من المرحوم نمر وكانت للأديب عبد الرحمن الشرقاوي وهي “الأرض”، لتعقبها رواية الأرض للأديب مارون عبود.
وللدلالة على شعبية المرحوم، حبه لطلابه وحبهم له بالمقابل زيارات خريجي مدرسة برطعة المتكررة له في بلدة كفر ياسيف، واستدامة هذه الزيارات…. رحمه الله رحمة واسعة وأغدق عليه من شآبيب رحمته.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .