كان الأستاذ المحامي حسن عبادي قد عرض عليَّ ثلاثة كتب للأستاذ كمال حسين اغبارية طالباً مني أن اختار أحدها للتعقيب عليه نقدياً , فتلبية ً لطلبه الغالي , قرّرت ُ بعد اطلاعي على الكتب الثلاثة أن أكتب تعليقاً أتناول فيه ِ بالدراسة ِ والبحث كتاب ” الإتجاه المشاكس ” كي يتم تقديمه ُ في ندوة ٍ أدبية ٍ بهذا الخصوص .
إنّ أول انطباعٍ تكوّن لدي َّ عند اطلاعي على مواد الكتاب , أنَّ الكاتب انسان مستنير الفكر , واسع الأفق , حُرُّ التفكير , صائبٌ في التعبير , وفوق كلَّ هذا لا يخاف لومةَ لائم ٍ , ولا يكترث ُ لغضب ٍ قاتم ٍ .
لقد انطلق الأستاذ كمال حسين اغبارية في كتاب ” الإتجاه المشاكس ” انطلاقةً متحرّرة ً في نقد ِ وانتقاد ِ مجتمعنا العربي على الصعيد المحلي وعلى صعيد الوطن العربي في اتجاهات ٍ معاكسة لما هو سائدٌ من مثالب َ اجتماعيةٍ وخروقات ٍ أدبية ٍ وتجاوزات ٍ للثوابت ِ الأخلاقية ِ ذات ِ المُثُل والقيم الإنسانية التي يعتزُ ويفخر بها الإنسان الواعي السويّ المتحضّر . ومن هنا فقد برزَ الأستاذ كمال حسين اغبارية من خلال صفحات ِ كتابه ِ حانقاً على ممارسة ِ بعضِ الأمور ِ الملتوية في مجتمعنا العربي محلياً وعربياً وذلك بأسلوب ٍ ساخر ٍ أحياناً , وبطريقة ٍ تعبّر عن الإحباط وخيبة الأمل مما كان يرجوه ويأمله ُ أحياناً أخرى .
يعبِّر الكاتب في عدة مواضع َ من كتابه ِ عن آراء ومواقف لا يحيد ُ عنها وهي شوقُهُ الى الحريّة والإبداع والجرأة , ورؤيته هذه ثابتة ٌ لا تحتملُ الوهم َ كما يتّضح من قوله ِ في الكتاب
( ص 22 ) ” آه لو غرسوا فينا بذور َ الحب ِ والسلام ِ والطمأنينة والثقة ِ بالنفس ِ وبالآخرين .ولو فعلوا ذلك لرأيتنا صادقين في كلِّ ما نقول ُ, حازمين , علة خُلُقٍ كريم : لا غشَّ ولا فساد َ ولا مغيبة َ ولا خيانة َ , لوجدتنا ناجحين غانمين مبدعين . ”
ويشعر الأستاذ كمال حسين اغبارية بكثير ٍ من الأسى حول مسألة ِ تقدّم الغير ومراوحة ِ العرب مكانهم وذلك َ بمقارنة ِ ما ينجزهُ العالم ُ بما ينجزه العرب ُ في مختلف المجالات ِ والميادين العلمية ِ والتقنية ِ والإنسانية ِ , مشيراً بكثير ٍ من الصراحة ِ المشوبة ِ بالسخرية ِ من جانب , وبالألم ِ من جانب ٍ آخر , الى ما يهمُّ العربي ويشغله ُ من أمورِ الجنس ِ والشؤون ِ الحسّيّة ِ المتعلّقة ِ بالجسد . ويسوق الكاتب ُ أمثلة ً عديدة ً على مظاهر التخلف هذه مكتفياً بمجال ٍ هو أفضل ما يعكس الصورة : جائزة نوبل وضآلة عدد الحاصلين عليها من العرب مقارنة ً بمن حصلوا عليها من اليهود رغم الفارق الشاسع في النسب المئوية لعددهم . ويرى الكاتب أن الخلاص من التخلف ِ والفساد ِ المستشريين ِ في الأمة العربية ِ لا يتم إلّا بالإصلاح ِ بطرق ٍ شتى يوجزها الكاتب ُ بنقاط ٍ تتلخّص في ك فصل ِ الدين عن الدولة فصلاً تاماً , تحرير العقل من الخزعبلات والخرافات , الديموقراطية وحريّة الفكر , مساواة المرأة في المجتمع , إصلاح المناهج التدريسية , التربية السليمة , المبادئ السامية كالحب والعطاء والصدق والتضحية والأمانة وما شابه ذلك , بالإضافة الى غربلة التراث . وكل هذا في رأي الكاتب يعني الحاجة للثورة على الموجود للوصول الى المنشود .
ينادي الأستاذ اغبارية في كتابه ِ ” الإتجاه المشاكس ” بالهُدى والرُشد . والهُدى والرُشد في مفهوم الأستاذ اغبارية , ومن حلال هذا الكتاب , يتلخص في تنمية التفكير العلمي المنطقي العقلاني البعيد عن التعصب والتزمّت والفئوية بكافة صورها وأشكالها , وتشجيع التحليل , والإبداع بدلاً من الأتباع , والدراية بدلاً من الرواية , والحوار , بدلاً من العنف , كما هو سائد الآن في كثير ٍ من المجتمعات العربية , واحترام الرأي الآخر . ويدعونا الأستاذ اغبارية في هذا الكتاب , أن تكون المجتمعات العربية ُ في معترك ِ الحياة العصرية , وأن لا تنعزل عن باقي شعوب ِ هذا الكون , وتنكفي على أنفسها , وتتحوصل , وتنكمش على أنفُسها , وعلى ثقافتها وتراثها . فالثقافات كما يوحي لنا الكاتب ضمناً لا تنمو ولا تُبدع إلّا بالتلاقح ِ مع ثقافات الآخرين . والانعزال عن ثقافات العالم , يؤدي الى الجمود والتحجّر , وبالتالي الى التخلّف . وأننا كشعوب ٍ ومجتمعات ٍ عربية ننجح في العيش بسلام ٍ مع الآخرين , حين نترك للآخرين قيَمَهم , أو نأخذ منها ما هو مفيدٌ لنا ونقتدي به , ونترك لهم ما لا يناسبنا , ونطلب منهم أن لا يتدخلوا في شؤوننا , ويتركونا لقيمنا وحدنا , ونحن وحدنا الذين سنكتشف ُ مستقبلاً ما نأخذه من قيمنا وتراثنا , وما يجب علينا أن نترك َ . ونرى كلَّ هذه المعاني التي يطرحها الكاتب تلميحاً أو تضميناً في مقطوعاته ِ الأدبية الفكرية الطريفة التي تحمل على التوالي عناوين : ” الرجولة عندنا وعندهم ” ( ص 287 ) , ” أين نحن وأين هم ” ( ص 288 ) , ” كان الله في عون الاسكندنافيين !!! أين نحن وأين هم ” ( ص 289 ) .
وهنا نلمس كيف أنَّ الكاتب يوظّف الأسلوب الساخر الطريف الذي يمتاز بخفّة الظل ويؤدي بالقارئ الى الإبتسام أو الإضحاك المرير لسوء الأحوال وقتامةِ الأوضاع لدى مجتمعاتنا العربية.
ويؤكد الأستاذ اغبارية من خلال كتابه ِ هذا , أن مقومات الإبداع والإشراق الفكري والروحي لا تتأتّى إلّا بحرية ِ الإبداع . ويرى أنَّ مفاتيح التقدّم تتركَّز في التعامل مع العقل المنفتح , الذي له فاعلية وقابلية التشكيل باشكال متنوّعة , تستوعب المتغيرات , بعيداً عن السائد المألوف المتعارف عليه ِ الخالي من التمحيص التجديدي النيِّر . فلا يوجد كمال ٌ مطلق , أو معرفة مطلقة , بل الأمور تكون نسبية ً دائماً وفقاً لما يورده الكاتب في المقطوعة التالية ( ص 152 ) حيث يقول : ” ونحن عظماء عندما لا ننتظر الخير المطلق من الآخرين ولا نصِمُهُم بالشَّرِ المطلق . نسبة الخير في كل ِّ منا قد تتفاوت ُ من إنسانٍ لآخر . عظماء عندما ننمّي بذرةَ الخير ِ والعطاء في نفوسنا وفي نفوس ِ الآخرين . نُنمّيها في نفوسنا بالعلم ِ والمعرفة ِ والإيثار ِ وحب العطاء وفي نفوس ِ الآخرين بالتربية ِ والتوجيه ِ وحُسنِ الظن بهم , والتركيز على بذرة الخير فيهم , فنمتدحُهُم حين يستحقّون َ الامتداح ِ , ونُقوِّمهُم حين يحتاجون الى تقويم ” .
وحين َ يحلّل الأستاذ كمال حسين اغبارية واقعنا العربي , يرى أنَّ هذا الواقع لا يستحق وصف التخلّف فقط , لأنَّ جَهْلَهُ مركّبٌ , والوضعُ عندنا سيئ ٌ جداً . والطامةُ الكبرى , , أنَّ مجتمعنا العربي عامة ً لم ولن يعترف بهذا الوضع . وما زال َ يكابر ُ , وبالتالي يتقهقر ُ غيرَ قادر ٍ على العطاء ِ والتفاني , وهو عاجز عن التغيير والتطوّر والتجدّد خدمة ً للإنسانية .
وفي هذا يقول الكاتب ( ص 155 ) : ” نحن مخلوقاتٌ اختارت لنفسها أن تتبنّى المنطق َ الذرائعي التبريري وأن تنبُذَ المنطق السديد . لذلك لا وازعَ دينياً ولا أخلاقياً ولا إنسانياً يكمنُ وراء َ سلوكياتنا . نحن مشغولون بتبرير سلوكياتنا اللاأخلاقية الفاسدة ولا نفكّر ابداً في دراستها.
ويتحدّث الأستاذ اغبارية عن العقلية العربية والحاضر العربي المرير بصراحة وشجاعة المفكّر التنويري واصفاً العرب عموماً بأنهم يعيشون في وضع ٍ مزرٍ , وبالغ السوء بتفكيرهم وسلوكياتهم وتقاليدهم الرجعية البائدة حيث يشير ُ الكاتب ُ مثلاً الى الاستخدام الدائم عند العرب للأمثال الشعبية الإنهزامية الاستخذائية التخاذلية , مُرجعين كلَّ ما يحدث لهم الى الإرادة الإلهية . وفي هذا المعنى يقول الكاتب ( ص 163 ) :
” نحن في انتظار ٍ دائم لما سيأتي دونَ أنْ نحاول َ التأثير َ فيه ِ . إذا أسعَدَنا طِرنا فَرحاً وخِفنا مما يأتي بعدَهُ فقلنا ” اللهم َ اجعلهُ خيراً ” . وإذا أتعَسَنا , استَكَنّا وقلنا : ” هذه مشيئة ُ اللهِ يفعل فينا ما يشاء ” .
وهكذا يتضح لنا فيما تقدّم أنَّ الأستاذ كمال حسين اغبارية في كتابه ِ ِ ” الإتجاه المشاكس ” يؤسسُ للمعرفة ِ بمكامن ِ الجهل ِ العربي , وأسباب ِ هذا الجهل , فهو يعتبر أنَّ جهل الشعب العربي جهلٌ مُركّبٌ . ويعني بذلك أنَّ جهل الإنسان لجهلهِ واغتباطه ِ بهذا الجهل اعتقاداً منه بأنَّه الحق والصواب , هو أقوى استحكامات بُنية التخلف . فغبطةُ المجتمعات ِ المتخلّفة ِ بثقافاتها , وتوهّمِها الكمال لذاتها , واقتناعُها بأوهام ِ الإكتفاء , قد حال بينها وبين أيِّ تقدُّمٍ . وقد قدّم َ الكاتب ُ العديد َ من النماذج ِ والأنماط ِ والأمثلة ِ التي تجسّد ُ هذا الواقع المؤسف , مبيِّناً أنَّ وصف هذه المجتمعات العربية بالتخلف يغطي حقيقة عجزها البنيوي , المتمثِّل بالمُسلمات الثقافية المتوارثة والطارئة , التي تُعَطِّل ُ العقل البشري تعطيلاً شديداً , دون أن يفطن العقلُ لهذا التعطيل , فتَستَبقيه ِ في حركة ٍ دائرية عميقة ٍ , سواء على مستوى الجماعات , والفئات , والمجتمعات , والشعوب , أو على مستوى الأفراد . وهذا ما أراد أن يوصله ُ الينا الأستاذ اغبارية بوصفِهِ مفكّراً صريحاً وجريئاً . وهو بالتالي مفكّرٌ تنويريّ ليبرالي يقدِّم في كتابه ِ هذا مادةً أدبية ً علمية ً فكرية ً اجتماعية ً وطنية ً قد تُسهِم بومضاتها بتبديد ِ الضباب ِ , وجلاءِ نورِ الفكر ِ والمعرفة .
فللأستاذ الكريم كمال حسين اغبارية خالص التهاني واصدق التحيات مع أطيب التمنيات بالتوفيق ودوام العطاء .
حزيران 2017