حين يصير الفحم في القدس حبرًا /جواد بولس

بولس

سأكتب ما يشبه الخربشات على صفحة تموز الفلسطيني وأعلم أن بحر الشرق هائج وقيظ الصحاري حولنا حارق والغيب لم يزل كما كان مكارًا وقاهرًا. لكنها هواجس أو مجرد ومضات في دروب أسموها في بلادي دومًا دروب الوجع.

في القدس.

لقد تبين  أن عملية إزالة البوابات الكهربائية من باحات المسجد الأقصى لم تعد الهدوء الذي توقعه حكام إسرائيل إلى أزقة وشوارع القدس المزنرة بحجارة التاريخ والغضب، فقضية قتل المواطنين الأردنيين بنيران حارس سفارة إسرائيل في العاصمة عمان ساهمت، من دون شك، بمساعدة نتنياهو وحكومته للنزول عن تلك الشجرة الحمقاء التي تعمشقوا عليها، لكن نتائجها، بالمقابل، لم تستقبل من قبل آلاف المعتصمين منذ أيام في حضن أحلامهم والملتحفين بردَ أمنياتهم، بردة فعل ايجابية وراضية، فهذه الجموع كانت على قناعة وثقة أن إسرائيل ستضطر، في مواجهة صمودهم، على التراجع عن قراراتها وستعيد وضع المسجد إلى ما كان عليه قبل الرابع عشر من تموز الجاري، ولذلك كان حريًا بالأردن، وفقًا لتوقعات الناس، أن يقايض على بديل أكبر وصفقة أدسم من إزالة تلك البوابات خاصة إذا ما انتبهنا إلى تشاوف القيادة الإسرائيلية المستفز واستعراضها ليقينها وثبات وعودها باستعادة ذلك الحارس، الذي ترك وراءه ضحيتين، بسرعة الطلقتين.

لقد شعر”الشعب” بنغزة في خاصرته وبضياع فرصة انتظرها كي تسعف رئتي مدينة أضناهما الغبار وغطرسة المدمنين على دخان الحرائق.

سيكون عصيًا على من يتابع الأحداث في القدس وباسمها التكهن بما سينبئ غيمها وما ستطرح ميادينها، فيوم المدينة كأمسها وإغواؤها لم يزل كما جاء في الحكايات والكتب؛ أوَلم تكن فتّاحة للشهوات وقهارة الطامعين والغزاة؟ وعندما كانت سماواتها تغضب لا التمائم كانت تكفيها ولا الأحراز ولم تشبع نزواتها الأناشيد أو الصلاة، وحتى إذا تدافعوا على بوابتها سماسرةً أو جنودًا أو دواهي لم تلن ملامسها ولم تداهن، وإن عشقوا ضفائرها وهرولوا حراسًا لأثدائها ما خانت تموزها ولم تبع عتباتها وبقيت سيدة النار والنور، أخت بابل، ولادة للسنابل وصاحبة المجدليات وجرن القيامة وأم المعادن.

من الجائز، إن لم يكن عهرًا وعربدةً، أن يكون الرهان الإسرائيلي في التحرش الأخير بها ومحاولة الحكومة فرض وقائع جديدة في باحات أقصاها مدفوعًا بقراءة خاطئة لذلك الهدوء الفلسطيني الشعبي القائم بثبات لافت منذ سنوات طويلة، فرغم موبقات الإحتلال وقضمه لأراضيها وتقطيع أوصالها المذل وقمع أهلها وإخوانهم الفلسطينيين الممنوعين من زيارتها لم تثر القدس على قدر اذلالها، ورغم ما تواجهه مؤسساتها والوافدون إليها من صلف عسكري باد في جميع جنباتها وشوارعها ومضايقات كريهة ومستفزة يقترفها المستوطنون بشكل سافر وسافل في أغلب حاراتها لم تنتفض القدس شعبيًا ودفاعًا عن حرماتها، فطمّعت نتنياهو ووزراؤه بها وخططوا لضربتهم القاصمة وهو الذي كان يشعر بغياب قيادة وطنية مقدسية بارزة ومؤثرة ويعرف مدى توغل المؤسسات الإسرائيلية في شرايين وأنفاس سكانها الفلسطينيين.

القضية إذًا كانت أكبر من مجرد نصب بوابات فحص أمنية استدعتها نتائج عملية دموية تراجيدية، إنها تجربة خطيرة وخبيثة لجس نبض المدينة ومحاولة هادئة للدوس على هامتها والإنتهاء من سحق قفصها الصدري بنعال فولاذية مقمطة بحرير، وخطوة أخيرة باتجاه تعريتها من حزام أمنها وأمانها بعد أن بدت لحكومة اليمين إنها غارقة في بحر من الضياع والعجز؛ لكنها فاجأتهم وانبعثت كالدهشة، فجاءت ردة فعل الناس مكايل مضاعفة لوزنات المعتدين وردودًا خالية من الغموض أو التردد حتى حلا المشهد وعلا صوت الحق صارمًا ومرددًا من الأعماق: إن تراودوها عروسًا نحن أهلها الفرسان نحوض عن كرامة الشهد في أحشائها والندى، وإن تريدونها هيكلًا نحن الساهرين من أجل عيونها سدنة وحراسًا ولأنبيائها الصدى، وإن تسرقوها نجمة نحن رياحينها لها حصونًا وأبناءها رياحًا وأمطارًا وحنظلا… ولكن!

على أهمية المشهد المقدسي في هذه الأيام ومحاولات جهات عديدة بأخذ نصيبها أو مكانتها فيما يجري من تداعيات وتطورات تبقى الهواجس مقلقة والاحتمالات كثيرة، فعلى الرغم من بروز المرجعيات الدينية المقدسية الرسمية كعناوين وحيدة ذات قدرة وإصرار على قيادة الميدان وجموع المحتشدين بنجاح ملحوظ، تبقى المخاطر من عدم وجود قيادات وطنية علمانية شعبية مجربة إلى جانب تلك المرجعيات الدينية واردة وإمكانيات ظهور عناصر غير محسوبة  محتملة.

من الضروري مراجعة أحداث الأيام الأخيرة  واستخلاص العبر منها والحكم فإسرائيل حتمًا ستفعل ذلك كي تحسن وسائل قمعها المستقبلية ونجاعتها، وإذا لم تجر جميع المرجعيات والقوى السياسية والمؤسسات المدنية حساباتها إزاء ما يجري وما يجب أن يجري لحماية المدينة فسيستحيل إستمرار هذه الوقفة المبهرة، لغاية الآن، على حالها.

فهل ستستعيد “بهية المدائن” مكانتها كمقلع العواصف وبوابة الفرح والحزن الفلسطينيين؟

أم الفحم،

لقد بدأت هذه الأحداث بعملية بادر إليها ثلاثة مواطنين من مدينة أم الفحم قتلوا فيها شرطيين إسرائيليين وقتلوا هم بنيران قوات الأمن الإسرائيلي تاركين في الفضاءات ضجة عارمة وكثيرًا من الأسئلة والتساؤلات.

لن نجد في داخل إسرائيل جهة أو مؤسسة عربية سياسية أشادت جهارة بعملية الشباب الفحماويين العسكرية التي نفذوها في الأقصى.

معظم تلك القوى والحركات الوطنية والإسلامية دانت العملية أو تحفظت منها وجميعهم أجمعوا على أنها خربشة خارجة عن الإجماع العربي الذي يستثني مسألة الكفاح المسلح من وسائل النضال المقبولة عند الجماهير العربية في إسرائيل والتي يجب أن تقتصر فقط على أساليب النضال المدني والشعبي.

كل من اتخذ موقفًا من تلك الحادثة ربطه عضويًا بتجريم الإحتلال الإسرائيلي واتهامه بكونه السبب الذي يدفع بمثل هؤلاء الشباب للقيام بما قاموا به .

إن الاكتفاء بمعالجة هذه المسألة بالطريقة التي تمت هو شأن مقلق وعملية الربط الأتوماتيكية الشعاراتية (وإن كانت بجوهرها وبأحد أبعادها صحيحة) عكست قدرًا من التبسيط غير المريح ودللت على لجوء القيادات إلى أهون البدائل وأسلمها مبتعدين في الواقع عن مواجهة الظاهرة بشكل صريح وكما يمليه واجبهم ومسؤوليتهم الطبيعية تجاه أبناء مجتمعاتهم وحياتهم لا سيما الفئات المستضعفة منهم.

فالاحتلال هو أصل كل الشرور وهو الجريمة الكبرى من غير نقاش وهذه بديهية متفق عليها.

ومن الطبيعي، كذلك، الإقرار بأن تراكم أفعال الاحتلال وجرائمه تعمل كمولدات لمشاعر الرفض والكبت والقهر والاندفاع في نفوس كل من يشاهد تلك الممارسات أو يقع ضحية لها، لكن يقيني يقودني إلى قناعة بأن تلك الخمائر الاحتلالية لوحدها غير كافية لانضاج نفوس جاهزة للموت والإماتة كما حصل مع الشبان الفحماويين الثلاثة.

فمن الطبيعي والانساني أن يمتلئ كل من يتعرض لمشاهد قمع المحتلين وعناصرهم غضبًا وتحفزًا للعمل ضد المحتل وقمعه، لكنه ليس من الطبيعي والمفهوم ضمنًا أن يصل هذا الفرد، مهما امتلأ مرارةً، إلى تلك المرحلة النفسية والإستعداد الفعلي لقتل نفسه والآخرين، فإلى ما يسببه الاحتلال وجنوده  تنضاف عوامل مجتمعية داخلية هي التي تدفع في النهاية تلك الشباب إلى الإقدام على “عملياتهم” .

على القيادات أن تتوقف عند هذه النقطة بالذات وتحاول سبر مكنوناتها وتفكيك بناها في مسعى منها لمواجهة الظاهرة الآخذة بالإنتشار السريع في مجتمعاتنا، ولا أتصور أنهم سيستصعبون اكتشاف مجسات التأثير على تلك العناصر وعوامل التخمير الفعالة، خاصة بعد أن وضع  هؤلاء القادة أطراف أصابعهم على جزء من تلك المؤثرات حين عدوا بينها الفقر والبطالة  والجهل وما يجري من على بعض منابر التجييش الدينية التي تحترف نشر خطابات متزمتة مكرورة همها الدعوة للاقتصاص من الكفرة والتصدي للصليبيين والثأر للدين ورموزه المقدسة وفي طليعتها المسجد الأقصى على سبيل المثال.

يجب أن نعترف بأن أعداد المستعدين للاستشهاد هي كبيرة جدًا وعلى القيادات أن تواجه الظاهرة وذلك من أجل سلامة مجتمعاتنا وصونًا لحيوات الشباب الذين سيسقطون ضحايا للإحتلال ولكن ليس للإحتلال وحده.

فليل القدس طويل وأهلها في هذه الأيام يكتبون أناشيدهم بمداد من فحم وهمّ وكرامة، وأم الفحم تواجه الصدمة بوجع وحيرة وأحوال قرانا ومدننا في الداخل أصعب مما يتصوره ثائر رومانسي أو صانع شعارات وأدعية، والسؤال الأهم سيبقى ما العمل؟

يتبع

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .