في الأول من تشرين الثاني، احتفل العالم بيوم المسن العالمي، ولا شك انه وخلال الاحتفالات كان الكثير من هذه الشريحة الضعيفة يمر في معاناة لا تُحتمل وعذاب لا يطاق بيد من فقدوا انسانيتهم ومروءتهم، وتأتي الصور والأفلام القصيرة المؤلمة التي شاهدناها في الصحف وفي شبكات التواصل الاجتماعية حول ما يجري من عنف في مراكز الكبار، لتتركنا مصدومين لما يتعرض له المسنون من معاملة بشعة وتنكيل سادي، تأبى الحيوانات ان تتصرف بها أمام مستضعفين عاجزين لا حول لهم ولا قوة.
لقد ظهرت ما تُعرف بدور رعاية المسنين والتي من المفترض أنّها للمسنين الذين لا يوجد من يعيلهم أو يهتم بهم؛ وصاروا وحيدين في هذا العالم، إلا أنّ هذه الدور وللأسف الشديد تأوي أشخاصاً كباراً في السن، أبى أبناؤهم أن يدخلوا الجنة بعنايتهم بهم، فألقوهم في هذه الدور التي تزيد من أوضاع المسنين سوءا، والتي تدخل إلى نفوسهم الشعور بأنهم أصبحوا عديمي القيمة.
أكتب عن هذه الظاهرة التي تقض مضاجع كل من يحمل في حناياه الرأفة والحنان، كي نتيقظ ونعمل لكيلا تتكرر مثل هذه الأمور المقلقة ولكي تبقى آثارها في الذاكرة، خاصة، وأن زخم الأحداث في بلادنا الصغيرة تنسينا عما حدث بالأمس القريب، فنمر عليها مر الكرام، لنتحدث عن أمر آخر ويبقى الكبار في معاناتهم ينتظرون الرحمة ممن فقدوا الرحمة وباتت قلوبهم من الحجر، يتعاملون معهم كأدوات متناسين ماضيهم الحافل وأياديهم البيضاء بالخير والمحبة وصنع الجميل.
لقد حثّت الشرائع السماوية الإلهية ونادت كلّ الثقافات والأعراف على أهمية برّ الوالدين خاصة عند كبرهما، ذلك أن هذا البر يعمل على التخفيف من شعورهم بالوحدة، ويرفع من شأنهم بين الناس، وهو من أعظم الأعمال وأهمّها عند الله تعالى، فالكبير من المفروض أن يلقى العناية والاهتمام من الأبناء، كيف لا وهم من سهروا الليالي وتحملوا المتاعب وقدموا الخدمات والأفكار التي ساهمت وبشكل كبير وفعّال في بناء عالمنا الحاضر، وحرموا أنفسهم من الكثير من أجل إسعاد أبنائهم وإيصالهم الى بر الأمان، حيث قال في منزل تحكيمه:”وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا”، صدق الله العظيم.
إني أرى بكل مسن ومسنة بمثابة الوالد والوالدة، وأحمد الله أنني لم أبعث بأبي ولا بأمي، رحمهما الله، الى هذه المراكز، لأن ضميري كان سيؤنبني ما حييت، فلربما كانا سيتعرضان حينذاك الى نفس المهانة والتنكيل كما شاهدنا في الصور والأفلام والتقارير. والضمير، وهو صوت الحق، أو عين الله على الأرض، كما يقول شكسبير، فاين هؤلاء الذين امتدت أياديهم الآثمة الى مسنين بجيل ابائهم وأمهاتهم، وكيف نظروا في عيونهم عندما عادوا الى بيوتهم؟ ألم يفكروا أن آباءهم وأمهاتهم قد يتعرضون الى نفس الوضع من تنكيل ومهانة؟ ولماذا لا تعتني بالمسنات ممرضة وليس ممرضا، لا يراعي خصوصيتها ويتصرف بصورة منافية للآداب؟
ان هذه السلوكيات المقززة التي شاهدناها لا تنطبق على الجميع، فهنالك ملائكة رحمة في هذه المراكز كما في المستشفيات، لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل كانوا على علم بما يجري داخل هذه المراكز وصمتوا؟ عندها يكونون شركاء في الجريمة ويجب ان ينالوا عقابهم.
لا شك ان المسؤولية لا تقع فقط على هؤلاء المجرمين، عربا كانوا أم يهوداً، أين مدراء المراكز، أين مراقبي وزارة الصحة، لماذا لم تجر زيارات فجائية للاطلاع على سير العمل في هذه المراكز، خاصة وأن تقارير وصلتهم قبل سنوات؟ كيف يمكن لهذه الأمور البشعة أن تحدث وأن يكتفي الجميع فقط بالتنديد؟ فالمراكز التي حدثت فيها أساليب التعذيب والتنكيل هذه يجب ان تغلق حالا، وان يقدم كل من له يد بهذه الأعمال الاجرامية الى المحاكمة وإنزال أشد العقوبات بهم، ليكونوا مثلاً وعبرة لغيرهم من العابثين بكرامة الكبار واحترامهم.
لقد عصفت الحكومة بهذه الشريحة المستضعفة فتركتها فريسة بأيدي هؤلاء العابثين بكل القيم الإنسانية، المروءة والشهامة، فتكون بذلك هي المسؤولة المباشرة عن هذا الوضع المأساوي الذي نراه ونشاهده، لان من يصل الى هذه المراكز هي المجموعة الضعيفة التي لا تقوى على المقاومة أو الرد وهذه الحكومة لا تعتني بالضعفاء.
لو كنا في دولة تحترم نفسها، لما بقي وزير الصحة في منصبه ساعة واحدة، ولكن هنا جلودهم من جلود التماسيح وكذلك دموعهم.
ومن مظاهر العناية بالكبار أولا وقبل كل شيء إكرامهم وتقديمهم في كلّ أمر من كلام أو جلوس أو طعام أو شراب أو مشي، فيجب على كلّ من يقابل شيخاً كبيراً أن يستمع لحديثه دون مقاطعة ويحترمه ويبدأ بالسلام عليه، وتقديم العناية الصحيّة والاجتماعيّة والنفسية لهم، ويكون ذلك بتوفير ما يحتاجونه من علاج دائماً، وعدم قطعهم؛ بل الاستمرار بزيارتهم وحثّ الأجيال على التواصل معهم لما لذلك من فائدة في نقل خبرات الأجيال وحفظ التاريخ والمعرفة، كما ويجب مراعاة قدراتهم القليلة وضعف أجسامهم وأذهانهم. فالأبناء ترى معاملتنا لكبارنا فيعاملوننا بالمثل عندما نصل لجيل الشيخوخة، فاحترام كبار السن وتقديرهم يغرس هذا المفهوم لدى الأبناء، ممّا يدفعهم لاحترام كبار السن مستقبلاً، فينشأ جيلٌ يحمل معه ثقافةً راقية.
مخطئ من يظن انه سيبقى في عافيته الى ما شاء الله وانه لن يصل الى هذه المراكز في يوم من الأيام، ولا يعلم ان العمر غفلة من الزمن، لذا، فإنه من الأهمية بمكان وضع استراتيجية لحماية المسنين من العنف ووضع التشريعات الداعمة لحقوقهم وتوفير البيئة الآمنة لرعايتهم والتركيز ايضا على التمكين الاقتصادي والنفسي والاجتماعي لهم.
(شفا عمرو)