كم كانت سعادتي غامرة وشكري جزيلاً حين زارني الأخ الأستاذ فضل سمعان ابن قرية عيلبون العامرة بأهلها, وأهداني نسخة من كتابه ِ القيّم الذي يحمل عنوان ” المحبة : الميثولوجيا الرحبانية ” الذي يشكّل كما عرّف عنه , ” جولة في الحدائق الرحبانية ” . ولقد استمتعت جداً بقراءتي هذا الكتاب لما فيه من معلومات ثرية عن الرحابنة وفنهم الأصيل المتميّز بكلماتهِ وألحانه ِ التي توفّقت في عالم الفن ايّما تفوّق , وغزا الآفاق بإشراقه ِ وتوهّجه ِ وأناقته ِ الجمالية بحيث يصدق فيه وصف الأخ فضل سمعان بأنَّ هذا الفن هو من عالم الأساطير لتفرّدهِ وحداثته ِ الفنيّة الأخّاذة التي تلامس شغاف القلوب وتخاطب الأحاسيس بكلِّ رقيٍّ وسموٍ ورفعة حضارية , وحق َّ للكاتب الكريم مصيباً الهدف أن يطلق على كتابه عنوان ” الميثولوجيا الرحبانية ” لأنَّ إطار وجوهر الفن الرحباني قائم على المحبة شكلاً ومضموناً كما عهدناه دائماً منطلقاً من إبداع عملاقي الفن اللبناني والعربي والعالمي الأخوين عاصي ومنصور الرحباني اللذين وضعا لبنة الموسيقى الرّحبانية وأسّسا معمار هذا الفن الغنائي , فكانا المهندسين باني هذه الروضة والخميلة التي يمكن أن نطلق عليها البستان الغنائي الشعري الفني بكلماته وألحانه الذي زرعه وأرسى جذوره بكل تفانٍ وإخلاص الأخوين الكبيرين عاصي ومنصور ليبقى مزدهراً وعامراً ومضيئاً بأبناء الرحابنة من الأجيال التي تلت هذين العملاقين ليواصلوا المسيرة بالإبداع الخلّاق الذي ما انقطعت وما توقفت أصداؤه عن الانتشار وإسعاد الناس بسماع ومشاهدة تلك الثمار الفنية الرائعة التي تنافس الأعمال الفنية الموسيقية لكبار الفنانين في العالم . وهذه المعاني جميعها قد وثّقها الأستاذ فضل سمعان في كتابه الذي نحن بصدده ِ , وعبّر عن مشاعره الصادقة بمحبته ِ الغامرة وولعه الشديد الذي يفوق الوصف بالرحابنة وفنهم العظيم حتى أنه يكاد يكون كاهناً في معبد الأخوين رحباني خاصة ً , والرحابنة على وجه العموم لا سيما وأنه صديق الرحابنة الحميم كما تشهد سطور الكتاب والصور الفوتوغرافية المرفقة للكاتب فضل سمعان مع المبدع الكبير عملاق الفن الرحباني منصور , وأنجاله مروان وغدي اللذين تربطهما علاقة محبة وصداقة مستمرة مع الكاتب الذي استفاض بالتعريف عن كل ما يوَدّ القارئ معرفته عن الرحابنة والتاريخ الفني لهم دون أن ينسى أو يغفل عن الحديث عن السيدة فيروز صاحبة الصوت الملائكي ودورها في إيصال الكلمة واللحن والفن الذي جادت به ِ قريحة الأخوين رحباني : عاصي زوجها , ومنصور شقيقه من خلال صوتها باعتبار هذا الصوت من منظور الأستاذ الكاتب فضل سمعان بأنَّه الوعاء الذي انسكب فيه الخمر الفاخر المعصور من موهبة وعصارة فكر الأخوين رحباني .
ومن اللافت أنَّ الأخ الأستاذ فضل سمعان قد أحسن صُنعاً وأجادَ في هذا الكتاب بتبيان كل ما يتعلق بفن الأخوين رحباني من حيث الشعر الغنائي الذي أبدعاه والموضوعات التي تناولاها في الألحان والأغاني والمسرحيات والإسكتشات مصوِّرين الطبيعة , والضيعة , وحب الوطن , والمحبة الإنسانية , والحب الراقي غير المبتذل بين العاشقين مؤطراً لجمال لبنان وطن الصبا والشباب .
لقد تحدث الكاتب بإسهاب عن الخلفيات للفن الرحباني وبخاصة ما أحياه الأخوين رحباني من تراث وفولكلور لبناني وعربي وطوّراه بأسلوب ٍ إبداعي جديد يتلاءم مع الأذواق العاشقة للتجديد ذي النغمات اللامعة الثورية بفنيّتها .
يخبرنا مؤلّف الكتاب بالتفصيل المفيد عن مضامين ومواضيع الغناء عند الرحابنة مقارناً بإيجاز ما كان سائداً في الغناء العربي قبل الأخوين رحباني , مشيراً على سبيل المثال الى الغناء القومي الوطني العام في العالم العربي آنذاك , ليبيّن لنا أنَّ الوطن عند الرحابنة ” لم يكن عندهم بعداُ جغرافياً أو إسماً على خارطة , لكنه كان بيوتاً دافئة جميلة وكروم ناضرة , كلّها مشيّدة ومشجّرة بسواعد ووجوه أناس أحبونا , الأهل والجدود الذين سبقونا لهذه الأرض ” .
ويؤكد الأستاذ فضل سمعان في كتابه ِ أنَّ أحد التغييرات الهامة التي أحدثتها المدرسة الرحبانية كان في الشكل الفني للأغنية , فقد أضاف الرحابنة الى الأشكال والأنماط السائدة في الساحة الفنيّة أشكالاً جديدة من الغناء منها : الأغنية القصيرة التي لا تتجاوز الأربع دقائق , الإسكتش وهو عبارة عن مسرحية غنائية قصيرة لا تتجاوز ال 15 – 20 دقيقة , تتناول جانباً من جوانب حياة الضيعة العديدة أو لوحة فولكلورية أو موقفاً اجتماعياً , المغناة : وهي لوحة غنائية مدتها 10 – 20 دقيقة , تتناول قضية أو موقفاً موسّعاً بعض الشيئ حيث لا تفيه الأغنية القصيرة حقه , ولا يحتاج لمشهد مسرحي , المسرحية الغنائية التي صبغت الأخوين رحباني بصبغة مميزة حديثة بكونهم غير تقليديين بجعلهم المسرح مسرحاً غنائياً شاملاً أي مسرحاً حقيقياً , له قضية ومعالجة درامية وعقدة وحل أو ما يشبه الحل .
ويشدِّد مؤلف الكتاب على حقيقة كون الأخوين رحباني بأنهم روّاد ما يسمّى بالتوزيع الموسيقي ” الأوركستريشن ” في هذا الشرق وذلك بأصول علميّة وبأيدٍ محلية . وهذا ما شهد به معلّقون ونقّاد فنيّون كبار في حينه كما يقول الأستاذ فضل سمعان في هذا السياق .
ومما يسترعي الانتباه الى أن الأستاذ فضل سمعان يعتبر أنَّ الأخوين رحباني قد ” قدّسوا الفن , ولم يذهبوا حيث يريد المتلقي , بل كان عليه أن يأتي اليهم وذلك احتراماً وتقديساً للفن , ورفعاً لشأن الفن والفنّان ” . ويضيف المؤلف بأنَّ الأخوين رحباني لم يقدموا أعمالهم إلّا في الأطر المحترمة , البعيدة عن الابتدال ” .
ويقدّم مؤلف الكتاب مثالاً على مدى احترام الأخوين رحباني لفنّهم وقدسيته حيث أنهم رفضوا تلبية طلب ضيف لبنان آنذاك الرئيس التونسي الحبيب بروقيبة بأن تغني له فيروز بحفل عشاء في الفندق الذي ينزِل فيه ِ , وذلك لأنَّ لديهم نهجاً بأنهم لم يُقدِّموا أبداً أي عمل لهم في مطعم أو حانة أو فندق أو في سهرة خاصة أو عامة خارج إطار التسجيلات الإذاعية والتلفزيونية , والمهرجانات الفنيّة العالمية , والمسرحيات في صالات الفن في لبنان والعالم , والأعمال السينمائية .
ولا يتجاهل الأستاذ فضل سمعان الدور الهامّ للسيّدة فيروز في نجاح وتطور المدرسة الرحبانية , فيما وصلت اليه , وبالتالي يرى فيها مؤلف الكتاب بأنها الضلع الثالث في المثلث الرحباني عاصي , منصور وفيروز .
ويتعرض الكاتب لموضوع علاقة عاصي الرحباني بزوجته فيروز بكثير من الشرح المغري للقارئ بمتابعته ِ بتشويق ذهني وذوقيّ حيث يتحدث عن الحب الصادق الذي ربط بين عاصي وفيروز كزوجين متحابين , قام عاصي بإصراره ِ وعناده وعشقه لفيروز بصقل وتمرين صوت فيروز بشكل لم يتوفر لأحد وذلك برعاية عاصي وأخيه منصور ليجعلا من صوت فيروز حالة صوتية أدائية فريدة تبهر السماع بفنيّة رائعة .
ومن الأمور التي يركّز عليها الأستاذ فضل سمعان بهذا الشأن استعراضه لخلفية فيروز العائلية بخصوص تربيتها الدينية الطيّبة وحياتها العائلية المتواضعة مؤكداً أنَّ فيروز الإنسان التي اجتمعت فيها عناصر إنسانية مهمة جداً , إضافة ً الى الصوت المتميِّز برقّته ِ وحلاوته ِ , قد كانت في رأي الكاتب المساهمة الأهم بين عناصر الفرقة الشعبية اللبنانية جميعها في نجاح مشروع الأخوين رحباني العظيم الذي شاركت فيه وصمدت بذكائها وصبرها وتواضعها وثباتها رغم كل المصاعب والمشاق .
وهكذا يقول الأستاذ فضل سمعان مستخدماً المجاز اللغوي والاستعارة في تشبيهه بأننا عشقنا الوعاء الفيروزي من خلال عشقنا للشراب الفاخر الفريد النادر ( الفن الرحباني ) الذي كان يصلنا به ِ . ويضيف متابعاً بصورة إستعارية بأننا ” سكرنا من الخمرة الرحبانية حتى الثمالة وصرنا بلا وعي نطلب الزجاجة التي تحملها الينا دائماً كلما ظمئت نفوسنا ” . ويبرِّر المؤلف ذلك مُسَوّغا أنَّ رأيه هذا لا يهدف الى ” التقليل من قدرة السيّدة فيروز التي اختارها عاصي الرحباني وتوأم فنه الأستاذ منصور , لتكون صوتهم ووعاء خمرتهم السحرية الخاصة . فلو لم يكن هذا الصوت من المعادن الثمينة لما قبلوا العمل معه منذ البدايات .
ومن الصّواب هنا القول أننا نتفق مع الكاتب في رأيه هذا كما قد يتفق معه الكثيرون ايضاً بهذا الشأن مضيفين أنه يعتقد ويجزم صادقاً محقاً بأنَّ الإنسانية هي الوطن الأكبر واللا محدود الذي انتمى اليه الأخوين رحباني منذ نعومة أظفارهم .
إنَّ هذا الوطن في نظرهِ قد استمد كينونته من الطبيعة الهادئة المتصالحة مع ذاتها وأبنائها في ضيعة أنطلياس قرية الأخوين رحباني حيث قوّت فيهم الانتماء للأرض والإنسان الذي كرّسوا له معظم أعمالهم لخدمة قضاياه وبخاصة الإنسان الشرقي الذي تنعكس ألامه وآماله ومظالمه عليهم وعلى لبنانهم . ومن هنا وقفوا وقفة هامة جداً مع قضايا الظلم التي يقاسيها ويكابدها الإنسان في لبنان والشرق عامةً سواء كان هذا الظلم داخلياً أم خارجياً .
ولا بدَّ لنا بأن نخلص بعد قراءتنا لكتاب الأستاذ فضل سمعان أن نوجز كلامنا ونقول بأن الأخوين رحباني والرحابنة عموماً هم القيثارة الّتي أحبّها وعشقها وطرب لها الشّرق , وهم ينبوع من الفن الراقي السامي الذي يدغدغ مداعباً الذائقة الفنية والذهنية والعاطفية برشاقة وانسيابية منقطعة النظير , يتدفق الإبداع والابتكار لديهم برِقة ومحبّة في القلب , وعذوبة في الكلمات , وشفافية رقراقة , وحنان فيّاض في الضلوع , ففنّهم فسيفساء موسوعية من النادر أن يجاريهم فيها أحد من هذا الشرق الذي أنجب الأفذاذ من أهل الفن واساطين الملحنين والمطربين , ولا غرو في التذكير بأنَّ الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب موسيقار الأجيال كان يكنّ الاحترام الفائق والتقدير العظيم للأخوين رحباني وفنّهم المتحضِّر حيث كانت تربطه بهم مودّة خاصة لا سيما وأنّه تعاون معهم في تكليفه لهم بتوزيع الكثير من ألحانه ِ لشدة ثقته الفنيّة بهم وبكفاءتهم في هذا المجال , مجال إتقان التوزيع الموسيقي لألحان الأغاني .
مما تقدم , يتّضح لنا دون أدنى شك في أنَّ الأخ الكريم الأستاذ فضل سمعان لم يبالغ ولم يجانب الحقيقة والواقع الصحيح في إطلاق عنوان ” الميثولوجيا الرحبانية ” مقروناً بكلمة المحبة , على كتابه ِ الموسوعي هذا عن الرحابنة لما تضَمَّن َ من معلومات وتحليلات ونصوص غنائية شعرية عنهم وعن فنّهم الشامل حيث أثرى بهذا العمل الكبير المكتبة العربية لينهل أهل المعرفة والمثقفون والمهتمون بتاريخ وحاضر ومستقبل الفن عامة ً والموسيقى والغناء في الشرق والعالم , ممّا ورد في هذا الكتاب من رحيق وعذوبة الفن الرحباني الأصيل ذي الجذور الإنسانية المستمدة من الطبيعة والإنسانية ومن عظمة الخليقة بما تحمله وتوحي به ِ من جماليات.
ولا يسعنا في هذا السياق إلّا أن نشيد بالمجهود المضني والشاق الذي بذله مؤلف الكتاب الأخ فضل سمعان في إخراج هذا الكتاب الى النور حيث نشدّ على يديه مستحقاً الإطراء والثناء والاحترام , داعين له بالتوفيق الدائم وبالمزيد من العطاء متقبِّلاً منّا أجمل التهاني وأصدق التحيّات .