الكُنْيَةُ.. حسين مهنّا

%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86

جاءَ في لِسانِ العَربِ لابِنِ مَنْظور(1232م-1311م) ما يَلي: “الكُنْيَةُ- على ثَلاثَةِ أَوجُهٍ، أَحَدُها أَنْ يُكْنى عَنِ الشَّيءِ الّذي يُسْتَفْحَشُ ذِكْرُهُ، والثّاني أَنْ يُكْنى الرَّجُلُ بِاسْمٍ تَوقيرًَا وتَعْظيمًَا، والثّالِثُ أَنْ تَقومَ الكُنْيَةُ مَقامَ الاسْمِ فَيُعْرَفُ صاحِبُها بِها” (انْتَهى الاقْتِباس).
لَمْ أَسْمَعْ عَنْ شَعْبٍ في هذا العالَمِ يُعيرُ الكُنْيَةَ اهْتِمامًَا كَشَعْبِنا العَرَبِيِّ..وحَقيقَةً هذِهِ مَزِيَّةٌ تُسَجَّلُ لِصالِحِ عاداتِنا وتَقاليدِنا العَرَبِيَّةِ – أَو على الأَقَلِّ أَنا أَعْتَبِرُها كَذلِكَ – لِنَتَخَيَلْ أَنَّ فَتًى يُنادي شَيخًَا بِاسْمِهِ! كَمْ يَكونُ نِداؤُهُ ثَقيلًا على الأُذُنِ وعلى القَلبِ! وكَمْ كانَ آباؤُنا حَريصينَ على أَنْ نُنادي الكِبارَ بِكُناهُم كَما اعتادوا هُمْ أَنْ يُخاطِبوا بَعْضَهُمْ، ليسَ بِأَسْمائِهِم بَلْ بِكُناهُم، خاصَّةً بَعْدَ أَنْ يَتَزَوَّجوا ويُنْجِبوا أَبِكْارَهُم. ذلِكَ تَوقيرًَا وتَعْظيمًَا كَما جاءَ في تَعْريفِ ابنِ مَنْظور. وهذا الأَمْرُ بِحَدِّ ذاتِهِ يُوَثِّقُ العَلاقَةَ بَينَ النّاسِ لِأَنَّ الاحْتِرامَ يُقابِلُهُ احْتِرامٌ، والاحْتِرامُ يُقَصِّرُ المَسافاتِ بَينَ القُلوبِ، فَتَنْشَأُ المَحَبَّةُ الّتي هِيَ الأَساسُ في بِناءِ مُجْتَمَعٍ صالِحٍ، حَقُّهُ الكَبيرُ عَلَينا أَنْ نُحافِظَ عَلَى إيجابِيّاتِهِ.
وقَدْ تَقومُ الكُنْيَةُ مَقامَ الاسْمِ، فَالرَّسولُ الكَريمُ كانَ يُنادى قَبْلَ نُزولِ النُّبُوَّةِ عَلَيهِ بِالأَمينِ لِصِدْقِهِ وأَمانَتِهِ؛ وسُمِّيَ الخَليفَةُ عُمَرُ بن الخَطّابِ بِالفاروقِ لِصِفَةِ العَدالَةِ فيهِ.. وسُمِّيَ عَبْدُ العُزَّى بِأَبي لَهَبٍ لِشِدَّةِ احمِرارِ وَجْهِهِ عِنْدَ الغَضَبِ، وعُرِفَ أَبو الحَكَمِ بِأَبي جَهْلٍ رَغْمَ حِكْمَتِهِ لِانْتِصارِهِ لِعِبادَةِ الأَوثانِ وتَرْكِ الإِسْلام والأَمْثِلَةُ كَثيرَةٌ.. فَجاءَتِ الكُنَى  مَديحًَا، وجاءَتْ هِجاءً، لِأَنَّ مِنْ وظائِفِ الكُنْيَةِ في اللُّغَةِ إِمّا أَنْ تأْتي مادِحَةً وإِمّا أَنْ تَأْتي ذامَّةً. ولَيسَ مِنَ الحِكْمَةِ أَنْ نَخْلِطَ بَينَ الكُنْيَةِ وبَينَ اللَّقَبِ، لِأَنَّ اللَّقَبَ يَحْمِلُ مَدْلولًا سَلْبِيًَّا في أَغْلَبِ الأَحْيانِ؛ وقَدْ قالَتِ العَرَبُ: تَلاقَبَ القَومُ أَي تَسابُّوا، وهذا يُذَكِّرُنا بِشِجاراتِنا الّتي كانَتْ تَعْتَمِدُ أَكْثَرَ ما تَعْتَمِدُ على الأَلْقابِ نَتَراشَقُ بِها عِنْدَما كُنّا أَحْداثًّا..! على كُلٍّ تَظَلُّ الكُنى مُسْتَساغَةً ما دامَتْ تُؤَدِّي وظائِفَها بَعيدًَا عَنِ المُبالَغات كَما هو حاصِلٌ في بَعْضِ الشَّرائِحِ الاجتِماعِيَّةِ على رَأْسِها الوَسَطُ الفَنِّيُّ، يَليهِ الوَسَطُ الأَدَبِيُّ.. مَعَ الاعتِذارِ لِلَّذينَ يَسْتَحِقّونَ كُناهُم!
(البقيعة/الجليل)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .