كَثيرًا ما نَسْمَعُ أَو نَقْرَأُ اصْطِلاحَ” روحُ القَطيعِ” ولا نُعْطي أَنْفُسَنا فُرْصَةَ الوُقوفِ والتَّمَعُّنِ بِهذا الاصْطِلاحِ، وما يَحْمِلُهُ مِنْ أَبْعادٍ مَجازِيَّةٍ، ونَكْتَفي بِالمَفْهومِ السَّطْحي لَهُ..أي نَتَصَوَّرُ قَطيعًا مِنَ الماشِيَةِ يَسيرُ لازًّا بَعْضُهُ بَعْضًا.. لكِنْ إِذا بَحَثْنا في سُلوكِ الحَيَوانِ، وعَرَفْنا سِرَّ هذا التَّجَمُّعِ في قُطْعانٍ تَكْثُرُ أَو تَقِلُّ حَسَبَ نَوعِهِ؛عَرَفْنا لِماذا أَصْبَحَ هذا الاصْطِلاحُ مُتَداوَلًا بَينَ عُلَماءِ الاجْتِماعِ، والباحِثينَ فيهِ.. وعَرَفْنا أَيضًا أَنَّ صِراعَ البَقاءِ دَفَعَهُ لِأَنْ يَبْحَثَ عَنِ الجَماعَةِ كَي يَلْتَحِقَ بِها.. فَيَكْتَسِبَ بِغَريزَتِهِ أَنَّ وُجودَهُ في قَطيعٍ أَكْثَرُ أَمانًا لَهُ، كَما أَنَّهُ يَسْتَمِدُّ قُوَّةً فَوقَ قُوَّتِهِ مِنْهُ. يَدْعَمُ زَعْمَنا هذا ما نُشاهِدُهُ على الشّاشَةِ الصَّغيرَةِ كَيفَ أَنَّ الحَيواناتِ اللّاحِمَةَ لا تَقْوى على مُهاجَمَةِ القَطيعِ نَفْسِهِ، بَلْ تَقْوى على مُهاجَمَةِ أَطْرافِهِ، أَو ما تَخَلَّفَ عَنْهُ مِنْ أَفْرادٍ.
الجَماعَةُ قُوَّةٌ.. وإذا سَرَتْ روحُ الجَماعَةِ/ روحُ القَطيعِ في الجَماعاتِ حَقَّقَتْ ما تَعْجَزُ عَنْهُ البُطولاتُ الفَرْدِيَّةُ.. بَلْ تُصْبِحُ هذِهِ ضَرْبًا مِنْ ضُروبِ الخَيالِ السَّمِجِ الَّتي نُشاهِدُها في أَفْلامِ السّوبرمان الأَمْريكِيَّةِ.
مَهْما ابْتَعَدَ الإنْسانُ وسَما بِغَرائِزِهِ يَظَلَّ، بالمَنْظورِ العِلْمِيِّ، حَيَوانًا مُهَذَبَ الغَرائِزِ.. (ولنَدَعِ القُدْرَةَ على التَّفْكيرِ والتَّخَيُّلِ الآنَ..) هُوَ ضَعيفٌ إِذا وَجَدَ نَفْسَهُ وَحيدًا أَمامَ خَطَرٍ داهِمٍ.. ويُحِسُّ بِالقُوَّةِ إِذا وجَدَ نَفْسَهُ مُحاطًا بِجَماعَةٍ تُناصِرُهُ؛ حَتّى لو كانَ هذا الخَطَرُ صِدامًا مَعَ مَسْؤُولٍ أَو حاكِمٍ.. وهَلْ وُفودُ المُعَزّينَ سِوى مُشارَكَةِ المُعَزّى في عَزائِهِ؟ وكذا آلافُ المُشَجِّعينَ لِفَريقِ كُرَةِ القَدَمِ حَيثُ يَمُدّونَ فَريقَهُمْ بِقُوَّةٍ فَوقَ قُوَّتِهِ مِنْ وُجودِهِمْ مَعَهُ.
مِنْ هُنا عَرَفَ القادَةُ المُحَنَّكونَ، والسّاسَةُ المُدَرَّبونَ أَهَمِّيَّةَ روحِ الجَماعَةِ.. فَجَعَلوا مَنَ المُظاهَراتِ سِلاحًا ناعِمًا في ظاهِرِهِ، خَشِنًا في باطِنِهِ؛ مِمّا جَعَلَ الحُكّامَ، مَهما تَعاظَمَتْ سَطْوَتُهُمْ، يَعْمَلُونَ لِلْمُظاهَراتِ حِسابًا..
ويَجِبُ أَلّا نَنْسى أَنَّ روحَ القَطيعِ سِلاحٌ ذو حَدَّينِ : هو خَيرٌ إِنْ سُخِّرَ لِلْخَيرِ، وشَرٌّ إِنْ سُخِّرَ لِلشَّرِّ.. فَما أَعْدَل روحَ القطيعِ حين تَرْدَعُ ظالِمًا عَنْ ظُلْمِهِ، وما أَظْلَمَها حينَ تُسَخَّرُ لِخِدْمَتِهِ!