مرة أخرى، وكما عودنا دائمًا، يتحفنا الكاتب المبدع فتحي فوراني بإصداره الجديد الموسوم بـ “حكاية عشق/سيرة أدبية” والصادر عن دار “المتنبي” للنشر والتوزيع-حيفا 2016. وكان قد سبق له أن أتحفنا بإصدار آخر موسوم بـ “بين مدينتين/سيرة ذاتية” الصادر عن دار راية للنشر في حيفا في العام 2014. وعن الدافع أو السبب المباشر لكتابة “بين مدينتين/سيرة ذاتية” يقول “لم يخطر ببالي أن أكتب “سيرة ذاتية”.. إلى أن جاءت “بنت الكلب”! هي المسؤولة الأولى.. وهي “المحرّض” الرئيس لميلاد السيرة “بين مدينتين” “بنت الكلب” هذه.. ما هي إلا الاسم الحركي.. للسكتة الدماغية”(ص8)! وإذا عرف السبب بطل العجب!
وقد يكون من المفيد، بداية، أن نشير إلى بعض ما أورده الكاتب معرِّفًا في تقديمه لإصداره “بين مدينتين/ سيرة ذاتية”، وهو غيض من فيض، قوله فيه “.. يكون الحديث ذا شجون.. ننبش في التاريخ.. ونفتح الملفات.. فتفتح الشرفات على الفضاءات التي تزخر بشتى المواضيع الأدبية والثقافية والاجتماعية والسياسية .. بدءًا من أيام الطفولة.. وحتى اللحظة الآنية الساخنة! تفرش الموائد الثقافية.. التي تحفل بالذكريات الشائقة، والأحداث الطريفة والشخصيات، والأماكن التي شكلت معالم المدينة”(ص11)! وكذلك من مقدمة “حكاية عشق/سيرة أدبية” التي يقول فيها معرِّفًا “يحمل الفتى حقيبة ثقافية تمتشق حديقة عطر تخبئ في عبها حكاية عشق. يستوقف المراقب النقدي الفتى.. فيفتح الحقيبة وينبش فيها، فيعثر على نصوص أدبية وإضاءات تسلط أضواءها على شخصيات تربوية ومؤسسات ثقافية، كما يلتقي نصوصًا تلامس حدود التاريخ والتوثيق وأسرارًا وحكايات طريفة وإبداعات مرسومة على ورق الورد…الخ”(ص11)! فهو يمتح من مخزون ذكرياته وينبوع تجاربه التراكمي الممتد على فترة زمنية مترامية الأطراف، إنه أشبه ما يكون ببعض حصاد العمر لا كله، مشفوعًا بالصورة، وحسن الكلام، منظومه ومنثوره معًا، لاسيما حين يتناغمان مع سياق متصل، أو وفق ما يقتضيه واقع الحال كما يقال!
وفي الحق، ما أحوجنا إلى مثل ذلك الأدب الجميل وكلماته وعباراته المضيئة، لما يمتاز به من روح ونكهة ومذاق خاص، اجتمعت كلها معًا بما يشبه الوثائق الأدبية الثقافية الخالدة التي لا تنسى أبد الدهر! كذلك، فيه شوق إلى أيام الزمن الجميل من عهد قد مضى وانقضى، على الرغم من أنها أيام تمتد على فترات
ومراحل، كانت مترعة بالأمل مرة وبالألم مرات! وهو الذي لم يفته الهم الذي يلازم كل فلسطيني!
وأما عن الفوائد الجمة الكامنة في ذلك الأدب، معنى ومبنى، فحدِّث ولا حرج! فإنها عبر ودروس ورسائل تصلح للتثقيف والتعلُّم، ونشر المحبة والتسامح والفضيلة، بدل الكراهية والحقد والرذيلة، وتخفيف حدة الفرقة، ونبذ العنف بكافة أشكاله، ومكافحة الشر وكف الأذى، فالتوعية خير وسيلة، وأنجع طريقة، بُغية تغيير الواقع الاجتماعي والثقافي والتربوي، لبلوغ حياة أفضل! ينسب إلى ابن العميد قوله: “كُتُب الجاحظ تُعلِّم العقل أوَّلاً والأَدَبَ ثانِيًا”! من هنا، يمكن القول: إن الإصدارين المذكورين ليعدان منبعًا ثرًّا في مجالس الأدب ونشر الثقافة والفكر والوعي والتوعية، لكلِّ من يرغب أو ترغب بالجلوس على ضفافهما والتفيؤ بظلالهما والتفكه بثمارهما! فالسيرة سواء أكانت ذاتية أم أدبية، تعد، بمنظور ما، مرآة صادقة أو انعكاسًا لملامح شخصية الكاتب، بحيث تعرِّفنا عليها عن كثب وبعمق، وذلك من خلال البوح بأناة وصبر، وبمنتهى الصراحة والشفافية والموضوعية، بتجاربه الذاتية وخبراته الشخصية وعلاقاته الحميمة مع الآخرين، تلك التي أسهمت على نحو كبير في صقل هويته الشخصية، وتشكُّل وعيه الأدبي والثقافي والفكري والوجداني والإبداعي، وقبل هذا كله الإنساني!
وغني عن البيان القول إن مثل ذلك الأدب يتيح للقارئ أن يتعرف على شخصية الكاتب من جهة، وعلى نشاطاته المتعددة من جهة أخرى، مما يرسمه الكاتب من معالم شخصيته، وذلك من خلال تتبع مسيرة الفتى “عبد الله” والتحولات التي رافقتها منذ مرحلة الطفولة، مرورًا بمرحلة الشباب، وصولاً إلى عهد التلمذة في المدرسة وفي الجامعة وما تلاهما!
وقد تجدر الإشارة، قبل أن نبحر بمعية كاتبنا في عباب رائعته الجديدة الزاخرة، وهو ما يستوقفنا حقًا، إلى العنوان “حكاية عشق” وهو عتبة النص الأولى، ومن ثَمَّ إهداؤه اللافت والجميل الذي يقول فيه “إلى ناهدة شريكة حياتي ورفيقة دربي التي وفرت لي الظروف للإبحار نحو شواطئ الإبداع واجتراح هذه السيرة الأدبية. إلى أبنائي وأحفادي وأحبتي وإلى الأجيال الصاعدة نحو المستقبل الأشرف والأروع. لكم جميعًا أهدي حكاية عشق”! فإن دلَّ هذا على شيء، فإنما يدل على مدى الحب والحنو والوفاء والاحترام الذي يكنه لشريكته ورفيقة دربه في الحياة، وبالطبع لسائر أفراد الأسرة والناس، وتلك من أسس الحياة الأسرية السعيدة، والاجتماعية السليمة. يلحظ المتابع لكل ما تضمنته “حكاية عشق/سيرة أدبية” كيف أنها تأخذ بتلابيب القارئ وتجعله شريكًا فاعلاً بأحاسيسه ووجدانه من أول الحكاية إلى آخرها، وما ذلك إلا لشدة احتفاء الكاتب، وهو العاشق المتيم، بالقيمة المضافة وبعشقه وهيامه الذي يتجلَّى بأسمى آياته وتحولاته وأروع صوره، في جميع طبقات النص، من دون استثناء! كذلك لا بد من الإشارة أيضًا إلى حسن صنيع الكاتب في تقديره وتبجيله لأساتذته، إقرارًا واعترافًا، وتلك من شيم الناس الطيبين والأوفياء. كذلك، يُرى وهو يبادل، بالمثل، كل من أسدى له معروفًا أو جميلاً من خلال التعلم أو أثناء سيرورة الحياة بمختلف أحمالها وأثقالها وألوانها، سواء أكان ذلك في المدرسة أو في الجامعة أو حتى في مدرسة الحياة، لاسيما لجهة أولئك الأساتذة الأفاضل الذين تتلمذ عليهم، ونهل العلوم والمعارف على يديهم، وقد كان لهم ما لهم من التأثير والهيبة والوقار والكرامة، أدبًا وعلمًا وثقافة وفكرًا نيرًا. وهو بذلك، إنما يعرِّفنا على الينابيع التي نهل وعبَّ منها ثراءه المعرفي: الأدبي منها والثقافي والاجتماعي والفكري، والتي كان لها الدور الأساسي وأبلغ الأثر في تكوينه الوجداني وبلورة معالم شخصيته!
وفي سياق متصل، لم يكن ليفوته أن يذكر ويستذكر بشفافية متناهية، أولئك الرجال العظماء من العرب أو غير العرب الذين أحبهم وتأثر بهم واهتدى بهديهم، وآخرين من هنا “من طين بلادنا” ممن التقاهم وجالسهم في مجالسة ذات جدوى، هي أفضل بكثير من مجالسة لا طائل تحتها! فهو لا يفوِّت فرصة للإشادة بهم وبدورهم والاعتراف بفضلهم! مثال ذلك قوله “لقد كان هذان الجدان.. كنزًا عامرًا بالتراث.. وموسوعة تمشي على قدمين! وكانا شعلة ذكاء أضاءت الطريق.. فانجلت أمامي آفاق من الوعي والمعرفة ساهمت في إزالة الضباب المكدِّس أمام فتية في طفولة وعيهم. وحملت البوصلة.. وكان لها الأثر البالغ في تكوين الهوية الاجتماعية والسياسية”(ص118)! ولم يكن يدخر جهدًا أو وسعًا أو مالاً، للالتقاء بالأساتذة من معلمين وأدباء وشعراء، فينهل من منابع علومهم على أصولها. كان حريصًا كل الحرص على أن يستقي الخبرة والمعلومة أنَّى كان مصدرها، ولا ينسى أن يذكر مجايليه من الأصدقاء والمعارف وجميعهم من أصحاب التجدد والفكر التقدمي، حين كان يلتقيهم حول موائد الأدب والثقافة والإبداع. حتى أولئك الذين لم تقو الذاكرة على تذكر أسمائهم لم يفته أن يذكرهم بالخير ويشكرهم. وغيرهم وغيرهم كثيرون ممن كان يتواصل معهم باستمرار، يجلس معهم وينهل من علمهم بشغف منقطع النظير، فيكِّن لهم الحب والاحترام والتقدير! كذلك يطلعنا على ما كان ينفقه من مصروفه الخاص، ما وسعه الجهد في سبيل اقتناء الكتب، على الرغم من ضيق ذات اليد آنذاك! عملاً بالقول المأثور “إن كلَّ ما صنعته البشرية وفكرت فيه واكتسبته موجود في صفحات الكتب”! كذلك، يشار إلى أن الكاتب والمربي فتحي فوراني عصامي بامتياز، محب للعطاء. فقد بدأ دراسته للمرحلة الثانوية في الفرع العلمي، فالنفس أمَّارة بهواها وميولها ورغباتها! لكنه تحوَّل بعدها مدفوعًا بحبه الذي لا يدانيه حب إلى اللغة العربية الساحرة، وإلى الدراسات الأدبية تحديدًا، أثناء دراسته للمرحلة الجامعية، خلال تلك المرحلة وبعدها. فقد بدأ بتثقيف نفسه بنفسه، حين راح يعبُّ علمًا وثقافة ومعرفة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، من فيض أمهات الكتب الأدبية والثقافية والمعرفية! وللعمل عنده مكانة خاصة فكأنما لسان حاله يردد دائمًا: حياة بلا عمل لا تحتمل! فأحب مهنة التدريس ومكث بها وزاولها على أكمل وجه بحب وإخلاص وتفان نابع من صفاء ذهن ونقاء روح! كان ذلك في الكلية الأرثوذكسية العربية-حيفا، حيث قضى عقودًا طويلة لا يبرحها، حارسًا أمينا وسادنًا عاشقًا في محراب اللغة العربية، والتربية المنهجية! “تلكم هي الحكاية.. ((حكاية عشق)) للغة القومية”! فتتلمذ على يديه أجيال وأجيال من طالباتنا وطلابنا الذين جاؤوا من كلِّ فج عميق في بلادنا، ليعودوا بعد التخرج إلى مدنهم وقراهم، ومن ثَمَّ يلتحقون بالجامعات والمعاهد العليا، هنا في الداخل وهنالك في الخارج. وليس هذا بكثير على إنسان معطاء، ومسيرة حياة إنسان بمثل قامة مبدعنا، الذي تفوح من أعطافه، منذ أن عرفناه، القيم الإنسانية ومبادئ النبل والسمو، تلك التي لم يفرِّط بها أبدًا، حتى في أصعب الظروف وأحلكها، ومن أهمها وعلى رأسها: المحبة والتسامح والكرامة والتفاني والإخلاص والإبداع! وأما ذلك فلأنه، قبل كل شيء وبعد كل شيء، إنسان أصلي وأصيل! أما عذاب الحروف والكلمات والعبارات لديه فلا فكاك منه! فهو، في منظوره، أحلى عذاب لأنه دينه وديدنه! وعلى ذلك، فهو المرآة الصادقة التي تشف عن صاحبها في غير جانب من جوانب مسيرة حياة امتدت، طولاً وعرضًا، أفقيًا ورأسيًا، لعقود كثيرة خلت. الكتابة هي الكاتب أو قل هي مرآة تعكس صاحبها في إبداعه وسلوكه وعلاقته بالآخرين وتعامله معهم، مثلما تعكس مستوى ثقافته وأسلوبه في الكتابة الإبداعية ونشاطه في الحياة أيضًا. من يتأمل ويتعمق في ما يقدمه الكاتب مما في جعبته، في سيرتيه الذاتية والأدبية، من حضور وقيم وثقافة وأدب ولغة وأفكار، مقرونة بجرْس وفنية وانسجام، جاعلاً لكل مقام مقال ولكل حادث حديث! بغية إنتاج الصورة على أحسن وجه و”متى اتسعت الصورة ضاقت العبارة”! ومن تراكمات الحياة التي يحتفي بمظاهرها حلوها ومرها! وما تحمله من أحداث ونوادر ولطائف الطرائف، وأماكن وأشخاص وجمال المدن في بلادنا (ما بين صفد والناصرة وحيفا) وخارجها، والحسناوات اللاتي يخطفن الأبصار، بلغة رائقة تجري على اللسان كما يجري الدهان، وأسلوب سردي سلس جذاب، يسرد الأحداث في صياغة أدبية محكمة، يبدو عليها الصدق والصراحة والأمانة، يدرك أننا بصدد كاتب قد جمع، إلى جانب القيم الإنسانية والروحية، سعة الإطلاع وغزارة الثقافة والمعرفة والفكر التقدمي. إلى ذلك، لا بدَّ من الإشارة إلى سلاسة العبارة والكلمة المفردة، ووضوح المعنى والقصدية في الوقت ذاته. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا: إنها خلاصة تجربة حياة تعلِّم وتمتِّع في إثارتها وجاذبيتها البنائية والفنية والمعنوية على حد سواء!
ولا يفوت القارئ أيضًا أن يتنبَّه على ما يمتاز به الكاتب من ذائقة فنية، وأسلوب خاص يجمع بين براعة التصوير ودقة التعبير، لما وظَّفه من صور فنية ووسائل تعبيرية بيانية وأخرى بلاغية، وأمثال وحكم، وانزياح وتورية في اللغة، ومن إشارات أدبية لافتة لطيفة، مثال ذلك براعة الدخول وبراعة الخروج، أو ما يعرف بحسن الابتداء وحسن الانتهاء معًا. ولم يكن يخلو، من حين لآخر، من بعض إشارات قارصة لكنها لطيفة وغير لاذعة، لأنها تصدر عن إنسان عاشق!
وبالإجمال، فإن كاتبنا في جهده المشكور، يكون قد صحِّح مسار الترجمة الشخصية، ذاتية أو أدبية، من خلال عملين يعدان تجربة رائدة في مجالهما. وهو بذلك الإنجاز، إنما يؤسس لحضور هذا اللون الأدبي في مشهد حركتنا الأدبية على نحو لافت. وقد جعلها تجربة أدبية خالصة ذات قيمة ومعنى، في أصدق لوحات فنية، لما تشتمل عليه من إشكالات ثقافية واجتماعية، بأسلوب سردي متجرِّد من الأهواء والأنانية الضيقة، وبعيدًا عن الأشكال النمطية الرتيبة، وإن كان يطغى عليها، من حين لآخر، العامل الذاتي. لأن الكاتب، في مثل هذا الحال، يكون أقدر على سبر غور نفسه وهو يكتب من الداخل/الأنا إلى الخارج/الآخر، بينما في السيرة الغيرية يكون الخطاب على العكس أي من الخارج إلى الداخل، حيث يغلب عليها العامل الموضوعي! وأختم بالقول: في اعتقادي أن الكاتب لم يبح بكل ما لديه، وهو ما يذكرنا بأديبنا الراحل جبران خليل جبران الذي كتب ذات مرة في إحدى رسائله لصديقته مي زيادة، يقول “لا لم أقل كلمتي بعد!” ونحن بانتظار المزيد! مع خالص التمنيات لكاتبنا بالمزيد من العمر المديد الحافل بالعطاء الإبداعي والصحة والسعادة!