بعد سلسلة حوادث القتل الأخيرة التي أسقطت عددًا من الضحايا ورفعت في قرانا ومدننا العربية منسوب الخوف والقلق وزعزعت، بدرجة غير مسبوقة، شعور المواطنين بأمنهم العام وأفقدت معظمهم أحزمة الأمان والطمأنينة الفردية، بدأنا نشاهد براعم لحراكات محليّة في بعض المواقع، ومبادرات قطرية تقودها المؤسسات القيادية العربية وبعض الأحزاب والحركات السياسية وبعض مؤسسات المجتمع المدني على تنوّعاتها.
قد يكون الاجتماع الذي قرأنا عنه مؤخرًا والذي عقد يوم الثلاثاء المنصرم في تل أبيب بين وفد مكون من محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية ومعه، مازن غنايم، رئيس اللجنة القطرية لرؤساء السلطات العربية، وطلب الصانع، رئيس لجنة المتابعة المكلفة بمكافحة العنف في المجتمع العربي وآخرين، مع روني الشيخ، مفتش الشرطة الإسرائيلية العام ومعه مجموعة من قادة الشرطة، هو واحد من المبادرات اللافتة والواعدة والتي قد تفضي إلى وضع آلية عمل من شأنها أن تشكل فتحًا لحقبة جديدة ولطريق قد يوصلنا إلى نتائج ملموسة في اتجاه الحد من تفاقم موجات العنف القاصمة لظهور مجتمعاتنا والمشوهة لقسمات هويتنا الوطنية.
أقول ذلك من باب التمني وواضعًا ” يدي على قلبي” لأنني أعرف أن اجتماعًا يتيمًا واحدًا لن يترك أثرًا، إذا لم تتبعه، على الأقل، لقاءات دورية مع قيادات الشرطة، على أن تكون مسبوقة ومصحوبة بخطط عمل تفصيلية عكفت القيادات العربية على وضعها مستأنسة ومستعينة بطواقم خبراء مهنيين ومحترفين، لا سيما بعد ما قرأنا أن الوفد العربي قد واجه قيادات الشرطة بحقيقة تقصيرها في مجابهة موجات العنف العاتية وحملوها كامل المسؤولية الناتجة، بالأساس، عن غرق أجهزة الشرطة، لعقود من الزمن، في فرضية عمل موجِّهة مفادها أن المواطنين العرب في إسرائيل هم أعداء للدولة، مما أدى، عمليًا، إلى نشوء حالة شاذة، شوّهت، طبيعة العلاقة التي من المفروض أن تحكم عمل جهاز الشرطة في دولة حديثة قبالة مجموعة مواطنين جديرين بالعيش في طمأنينة وأمان. فبعد تحميل المسؤولية وكشف الأقنعة من المفروض أن نمسك المحاريث ونتحضر لمواسم الزرع عسانا ننعم بجنى البيادر وإلا، فعلى الأقل، ليأكل الأبناء وليسلموا.
كثيرون باتوا يشعرون بعمق الهاوية التي نقف على شفاها، وكثيرون يبدون علامات صحوة وبدونها لا أمل لبداية السعي من أجل إنقاذ أنفسنا وحماية كراماتنا الشخصية والجمعية، فالصحوة مرحلة هامة لكنها قد تُجهٓض، وإذا أجهضت ستكون الضربة المرتدة وخيمة، وستتصدع مناعتنا ويتأذى مجتمعنا بشكل موجع، وستخور قوانا ويتمكن كل ذي ساعد وسكين من رقابنا وعيوننا.
فمن المؤهل والقادر والمستعد على رفع الراية وحمل الصليب، وفي يد من ستكون المطرقة والمنجل؟
إنه سؤال الأسئلة، لأن الاجتماع مع قادة الشرطة، على أهميته، يستكمن ويستبطن عمليًا مواقف سياسية وأيديولوجية ما زالت هامدة كالرماد، لكنها إن استعرت من شأنها أن تترك كثيرين من قادة المجتمع العربي ومؤيديهم خارج هذه التشكيلة والنهج أو حتى ضده.
وقد تكون المعضلة ( الديليما) عند بعض القياديين أعوص إذا قرأوا ما جاء على لسان السيد طلب الصانع حين صرح أن “المسؤولين العرب سيلتقون قريبًا باللواء جمال حكروش الرئيس الموعود للمديرية المستحدثة في الشرطة لمكافحة العنف والجريمة في المجتمع العربي وسيتمحور النقاش حول ضرورة تغيير نهج وعقلية الشرطة في التعامل مع المواطنين العرب بالنظر إلى انعدام ثقتهم بها..” لم يبارك الصانع للواء حكروش في إعلانه هذا، فما موقف هيئات الأحزاب والحركات وقادتها من هذا الاجتماع؟ ويا حبذا لو سمعنا مباركتهم لهذا اللقاء الخطوة، وقبلها مباركتهم للواء جمال حكروش على فوزه بهذا المنصب الرفيع في سلك الشرطة.
من الواضح أن تصريح السيد الصانع يثير مجموعة من التساؤلات الشائكة: فماذا يعني للمواطن العربي العادي أن يجلس محمد بركة ابن شفاعمرو ومازن غنايم ابن سخنين وطلب الصانع ابن النقب مع اللواء حكروش ابن قانا الجليل لمناقشة “ضرورة تغيير نهج وعقلية الشرطة في التعامل مع المواطنين العرب بالنظر إلى انعدام ثقتهم بها”؟ كيف من الممكن أن يُقرأ تصريح الصانع وأن يمر بدون أن يعلق عليه قادة تلك الأحزاب والحركات التي ما زالت تعارض عمل العرب في أجهزة الأمن الإسرائيلية، وهذا بأضعف الإيمان؟
إنه سكوت شاذ إزاء حالة شاذة استدرجت تصريحًا شاذًا، وما دمنا في حلقة من المشاهد “الشاذة” أشك بأن تنجح تلك اللقاءات وخوفي أن نشهد مرّة أخرى حفلة جديدة من إضاعة الفرص التي يجيدها العرب.
فلقد دعوت في الماضي إلى ضرورة إعادة صياغة أطر ونظم علاقاتنا مع الدولة وأجهزة الحكم فيها ونوهت، مثلًا، لذلك الالتباس المدمج، حين نطالب دولة المواطنين دمجنا في سلك التوظيف الحكومي والقطاعات العامة وفقًا لنسبتنا من تعداد السكان، فإننا عمليًا، ونحن ندفع بهذا المطلب نشيح بانظارنا عما يستبطنه هذا “المطلب النضالي” من تساؤلات وإشكالات وجودية كبيرة وكثيرة؛ وعليه، بدون إعادة رسم المحاذير الوطنية العامة والإجازات في مقابلها، تبقى قرارت قياداتنا، خاصة فيما يتعلق بكيفية إدارة علاقتنا مع الدولة وأجهزتها (مثل الشرطة في حالتنا، القضاء، النيابة)، عفوية، وليس أكثر من ردود فعل أو قفزات ناتجة عن صدمات وضربات تهوي من حيث ندري ومن حيث لا ندري.
فإذا كان الاجتماع مع المفتش العام للشرطة، والوافد إلى منصبه من كرسيه السابق في جهاز المخابرات العامة، ضروريًا ومباحًا، فلماذا لا يسعى القادة، كما اقترحت عليهم في الماضي، إلى وضع خطة شاملة للعمل مع ومقابل جميع من يقف على رأس أجهزة الحكم الفعلية في الدولة، لا سيما من لهم تأثير مباشر على حياتنا ومستويات معيشتنا، مثل: المستشار القانوني للحكومة، رئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، رئيس جهاز الأمن العام، المدعي العام للدولة، ومن مثلهم في ذلك المقام؟ لكن المشكلة أننا لن نستطيع التعاطي مع هذه الخيارات بمنهجية وعلم ومهنية، قبل أن يحدد سياسيونا بدايةً علاقة أحزابهم مع هذه الأجهزة وما موقفهم منها وما يريدونه، خاصة ومعظم قياديينا يصفونها بالمعادية ويطالبون بتحريمها وعدم التعاطي معها .
من الصعب أن نجد حزبًا عربيًا واحدًا بيننا لا يعاني من انقسامات ظاهرة أو مخفية في عدة قضايا ومواقف، ومن الواضح أن جميع الأحزاب والحركات السياسية الناشطة بيننا تمر في أزمات عاصفة حول تشخيص هوياتها الحزبية، وبعضهم يدفع ثمن كونهم أبناء متبنين ّ لآباء في المنافي والصحاري، وأخرين يعانون من تزويجهم بزيجات متعة عابرة، ومنهم من يعاني عقدة فقدان الأب والخلية العائلية .
أما القضية الفاصلة برأيي ستبقى كما كانت- على الرغم من أهمية حلب وبكين وبوتين والسيد وتركيا وطهران وواشنطن والهند والسند- هي البلد؛ فهروب مؤسسات وقادة الأحزاب السياسية والحركات الدينية من مواجهة عدد من المسائل الأساسية المتداعية وذات العلاقة المباشرة في مفاصل حياتنا اليومية، يضرب عمليًا في جذور هذه الأحزاب ويضع أسئلة جوهرية وتساؤلات حول مصائرها وحول أسباب وجودها، خاصة بعد كل المتغيّرات الحاصلة في العالم والمنطقة وفي فلسطين وإسرائيل، ولربما يرى البعض أن الحاجة قد دنت بشكل حقيقي وتراهم يطرحون سؤالهم المباشر والساخن حول أهلية هذه الأحزاب والحركات وقدرتها على التصدي لما يواجهه المجتمع من هجمات سلطوية ومن آفات يصنّع بعضها في مصانع الدولة وبعضها من إنتاج مجتمعاتنا المحلية أو حتى في مخامر بعض الأحزاب ودفيئات تلك الحركات.
وأخيرًا، لنا في كفركنا لواء! فهل سيبارك قادة الأحزاب والحركات الشريكة في لجنة المتابعة العليا فوز اللواء جمال حكروش بمنصبه الرفيع أم لا؟ إنها قضية أبعد من حدود كفركنا والجليل فهل هذه الأحزاب معنية بمزيد من الألوية العرب في شرطة إسرائيل والقضاة في محاكم الدولة والمدعين العامين وقادة السجون والمفتشين في الموانئ البحرية والبرية والجوية وو؟
إنها حياتنا يا قادة. فالدولة ترفضنا أولادًا شرعيين لهذه الأرض ولقد كنا وسنبقى في عيونها شواذّ، فهل ستنقذونا أنتم من هذا الشذوذ؟