يجلس قبالتي، عيناه متعبتان تشهدان على ليل كلّه خفقان وقلق، وعلى جبينه العريض يتراقص فرح لم ألحظه في تلك الثنايا منذ رحل توءم روحه، ذلك العاشق الذي من فلسطين، وترك خاصرتنا نازفة من فرط شوق وجوى.
من فمه يتساقط الكلام ملفوفًا برقة توشّحه، بالعادة، كلّما نطقت شغاف قلبه وتكشفت نراجسه أو تهادت الذكرى. على شفتيه بسمة حائرة، تشبه بسمة الجيوكاندا، تثيرك بفيض من حنينها، وتتركك ملتبسًا على ضفة حلم زائغ، تعيش لوعتك مع فجره وحسرة الحسرة.
وبدون مقدّمات، أغمض عينيه وبدأ يسرد علي قصة العشق الدرويشية وقواعده كما يهدل بها الحمام حين يطير من لهفة وحين يحط على شرفة الزمن السرمدي، أو ذلك الزمن الذي كان في أندلس الحب، وضياع الحواس إلّا الحاسة السادسة.
في عمّان كان لقاؤنا، فإليها نأوي كلّما جف الطل في بساتيننا وأعتم صبح وغابت عن سمائنا نجمة آذار. إلى حضنها الدافئ نلجأ كي نجتمع مع أحباء لنا من بلاد العُرب التي لم تكن يومًا لنا، نحن أحفاد النكبة، سندًا ولا أوطانا، بيد أننا كنا وما زلنا الصفوة وعرب العرب، فالمحمود فينا والسماحة عندنا والتوافيق مواضينا، ومن عندنا أبرقت أول الحرب وتدفقت أعذب الأناشيد ومن الشعر تفتحت بواكيره ، ودروب السماء سلّت من ذرى هضابنا ومن بطون شعاب بوادينا، وملح الأرض منا وغضب البحر أزبد على شواطئنا، صفاء النبع كان دومًا هادينا، ونيسان تردد في ساحاتنا، والغنج اندلق من آذارنا، والخير ساح من تشاريننا.
نجلس في الطابق التاسع في أحد فنادق عمان، ومرسيل ينقل لي ولجمانة تفاصيل دقيقة عن عمله الجديد الذي أسماه ” أندلس الحب” ، والذي سيشهره للعالم في الثالث عشر من آذار وهو يوم ميلاد محمود درويش، وفي حفل توقيع خاص سيقام في بيروت، وبعدها تباعًا في عمّان وفي فلسطين وفي العالم أجمع.
“كان علي أن أنجز هذا العمل، فلقد وعدته بذلك قبل الرحيل، ولا أحلى من آذار ميعادًا للوفاء، تمامًا كما يفي اللوز ويداعب حيرة العاشقين ، واستحضارًا لزفرات الأندلس الذي كلّما تذكّرناه امتلأنا عطرًا ضوّعه، ملء الأفق، قديمًا، نوّار البساتين في الزهراء، حين راق مرأى الأرض في سهوب غرناطة الحمراء، واليوم، مع استذكارنا، يضج في المقلتين دمع ويخزها الشوك ويسيل منها الندم”، هكذا بنشاط اليمام يشرح لنا مزهوًا بجديده المميز، ويفيدني، مؤكدًا، أنه صبّ في هذا العمل خلاصة تجربته الموسيقية وعصارة وعده للدرويش، أمينًا على نبض شعره ووضوح دربه الذي ما زال يسير عليه، منذ تفجرت وعود العاصفة هديرًا في صدره، وثورةً على وطن في حقيبة. أسمعه يحدثني وكأنه ما زال ذلك الشاب البيروتي الجنوبي، الذي عاف حروب الأمراء وتمرد على تجّار الدم وسادة الخاوات على أرصفة الموانئ، وأنا، معه، أستعيد مسيرة الغيم ومحطات السهر، وذلك رغم المشقة وعسر الحفر في صخور العرب، وأتذكر، في نفس الوقت، كيف هجر الكثيرون تلك المنصّات الشاهقة واستعذبوا ملمس الحرير وأنفاس الليالي “الكلها”من أخضر ولبان وبخور.
يذبحني هذا المرسيل، فهو كلما زادت زهور الحكمة في رأسه زاد حبًا لفلسطين، فعنده هي الباقية كما كانت : أمًا للحرية وابنتها في آن، وكلما كسرنا، نحن أبناء فلسطين ضلعًا في صدرها العاري، نجده يشعل أصابعه قناديل كي يزيل الغم عن ليل عذاراها وليضيء، في متعرّجاتها، منارات يأنس بوميضها البحّارة التائهون ويستجير في ظلالها العاثرون.
جاء الى عمّان كي يحقق أمنية سيّدة فلسطينية فاضلة، لم تعد تأبه لوعود الزمن وخيباته، يحتفل أولادها بعيد ميلادها الثمانين. وفي لفتة ذكية كتبت نيفين، احدى بنات السيدة سارة عناب، لمرسيل رسالة شخصية أذابت فواصلها قلبه بالضربة القاضية، فأمها ناشطة فلسطينية، تعرفها ساحات بيت لحم وأزقة المخيم في الدهيشة وعايدة، كانت مع رفاقها ورفيقاتها، تجوب الساحات مرددة، كفلسطينيات كثيرات، قصائد الدرويش في الحب والخبز والثورة، بعد أن طارت على أجنحة ريشة مرسيل، خليفة العاشقين، وصارت عصافير تملأ سماء فلسطين وكل أرض تنشد الحرية والعزة والكرامة التي لا تعترف بحدود ولا بهوية ولا بجوازات السفر. كانت رسالة بطعم العناب وبسيطة، كما يليق بقلب كبير لعاشق يعرف أن سعادته تسكن على أنف ريشة وفي بطن العود وفي قلوب البشر، بضعة كلمات قبضت حروفها على رقبة الزمن وعطّلته وحالت دون سقوط القمر، بضعة كلمات وأمنية خضراء يتيمة اختصرت كل الوجع، فثار الوجد وانتفض مقام الصبا، وكما تمنى الأبناء وافق ولبّى النداء وصار الهدية والحلم وكان في غور الأردن فرح كبير، وطفل وديع اسمه مار سيل لا تسعده إلا النجمة حين تتلألأ فوق مغارة منسية، نام عنها الرعاة وهم حفاة، في حقول كان اسمها فلسطين .
في طريق عودتنا إلى عمّان كان الغروب ساحرًا، للصحراء وقع صاخب رغم هدوئها ورتابة الذهبي الطاغي، فهي تبقيك أسيرًا لغموض خزنته الذاكرة ميراثًا من أبطالها القدامى وفرسان تعلمت عنهم فحفرت سيوفهم في الرأس لها مواقع، وراءنا صارت فلسطين بعيدة وكنا منها على مسافة جسر وفيروز وحجر، لم نشهد حركة سيارات نشطة كما لاحظنا في طريقنا إلى النهر، في الجو رائحة كسل وتعب .
راجعنا تفاصيل الاحتفال وخلصنا إلى أن قرار مرسيل بتلبية الدعوة، كان صائبًا، فإسعاد البشر هي وصية السماء لأبنائها الصالحين، وبدونها ما معنى الحياة ولمن تكون الأناشيد والثورات؟ .
ومن تلك التفاصيل وجدنا أنفسنا نعود إلى هاجسنا الدائم ورفيقنا الغائب الحاضر. فلقد سمعت مرسيل وهو يحدثني عن غضبه ممن يحاولون الاساءة لمكانة محمود درويش، وعن أولئك الذين يتعمدون طمر ذكرى ميلاده ورحيله بألواح من غبار وزجاج وطين. ففي شرقنا يجيدون نحر القرابين والرقص على دمائها في أعراس الجهل والحقد والمنافسات الرخيصة. كنا في السيارة نستذكر قصصنا معه وعنه ونضحك ملء الفضاء ونصمت عند حافة الدمع، وكنّا، بعد كل تنهيدة، نكتشف كم كان محمود شخصية فذة فريدة وكم كان بسيطًا صديقًا كريمًا وصدوقًا، وكنا نجمع على أنهم، ربما، لجميع هذه الصفات، ولأن قامته عالية وكبيرة، يبتكرون الذرائع والحيل الخسيسة، ويحاول بعضهم مس مقامه والتحرش بقامته، عساهم يصطبغون بقطرة من خدش سببته خرمشاتهم في ساقه الثابتة، وكنا نردد، من حين الى حين، بعض المقاطع من قصائده ونضيع غرقى في بحر من الاستعارات المستحيلة والتراكيب البسيطة العسيرة ونمتلئ شوقًا وغناء ورضا، فلقد كنا مرّة حراس قلبه المقربين .
وصلنا عمان الساهرة مساءً، وكما في كل مرّة نجيئها يكون لقاء الأحبة في بيت علي حليلة، الأمين والصديق الكريم.
تجمعنا بضعة أصدقاء وضيوف صاحب البيت، للذكرى واجب وحضور، وللتذكر قواعد وأصول، “فالموت لا يوجع الموتى، الموت يوجع الأحياء” وقد كان حديثنا محمودًا والليل كتّام وقهّار، للعود سطوة وللريشة صولة ومشوار، للقصيدة نهارات والنشوة تتهادى أنهارا، مرسيل يعزف ويشدو ونحن مع ابراهيم ، صاحب الملهاة،( ولي معه عودة)، نخف على ظهور خيوله البيضاء، ونجري صوب قناديل ملك الجليل الباقي لنا وفينا: وطن الأحلام وألأزقة الجريحة والطيور الشاردة، وحيث سيبقى الحمام يطير في ربوعه ويحط الحمام، فنحن مثل محمودنا رأينا في آذار العابق: ” على الجسر أندلس الحب، والحاسة السادسة، على دمعة يائسة ، أعادت لنا قلبه “، فشكرًا لك مار سيل ، يا ابن أمنا، على هذا الحب والوفاء، وكل آذار و”سارات” بلادي بخير، وكل آذار ونحن مع المحمود على ميعاد وعاصفة.