معارضة بيت شِعر لمحمود درويش – منير شفيق

بيت الشعر المقصود هو: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” وهو لمحمود درويش عن أرض فلسطين. وقد حظي على شهرة واسعة، وردّده الكثيرون. فبعضهم وضَعَهُ لازمة على هواتفهم، وآخرون كتبوه شعارا علقوه على جدران منازلهم أو حتى على قمصانهم.

وللغرابة جاءت معارضة هذا البيت من الشعر من شاب فلسطيني، وليس من شاعر كعادة الشعراء العرب قديما. والأغرب أنها جاءت المعارضة مكتوبة بدم شهيد وليس بحبر أو ارتجال عابر.

كتب أمجد سكري تلك المعارضة قبل ساعة، أو أقل، أو أكثر قليلا، من قراره بالتوجّه إلى حاجز عسكري للاحتلال ليطلق عليه النار، وليصرخ عمليا، في وجه سلطة رام الله، “أنا رجل الأمن وقد فاض الكيل بأن أبقى حارسا للاحتلال”.

قال أمجد سكري الشهيد: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”. “ولكنني لا أشوف (أرى) أي شيء على هذه الأرض يستحق الحياة ما دام الاحتلال يكتم أنفاسنا ويقتل إخوتنا وأخواتنا”.

هذه المعارضة من أمجد سكري لبيت شعر قاله محمود درويش، وكان محمود يفكر بشيء آخر غير الذي فكّر فيه أمجد سكري. وكان في مزاج آخر. فهو “أخو سفر جوّابُ أرض” (أبو الطيب المتنبي) فيما أمجد سكري عاش تجربة أخرى. وتألم أن يُضطر أن يكون رجل أمن على تلك الأرض تحت الاحتلال فأعطاها معنى بسيطا عميقا، وهو تطابق الفعل مع القول. ولعل كليهما معذور في ما ذهب إليه.

وأتبع أمجد قائلا: “الله أعلى وأعلم من القادم وأين؟ اللهم أمِتني على شهادة لا إله إلا الله، وأن سيدنا محمدا رسول الله: سامحوني”.

ولكي لا تكون معارضة أمجد سكري صادرة عن يأس كما يظن الكثيرون ظنّ السوء بشهداء الانتفاضة الثالثة، ممن يعتبرون الإقدام على الاستشهاد نابعا من حالة يأس، يختم بمعارضة أشدّ بلاغة لهم قائلا: “صباحكم نصر، بإذن الله. أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأن محمدا رسول الله”.

بكلمة ذهب أمجد سكري إلى الشهادة بأمل النصر على الاحتلال. وعندئذ يمكن أن يحمل قول محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة” معنى يقبله من هم مثل أمجد سكري، لا يرون للحياة المعنى على أرض فلسطين إلاّ بالقضاء على الاحتلال.

لقد حملت الصحافة في اليوم نفسه اقتراحا تقدّم به لوران فابيوس وزير خارجية فرنسا بعقد مؤتمر دولي “للسلام لحل النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي”، وهدّد بأن فرنسا ستعترف بدولة فلسطين إذا أفشل عقد المؤتمر.

لندع جانبا، ولو للحظات، الأسباب التي وراء الاقتراح والأهم وراء التهديد الفرنسي، ومن لوران فابيوس بالذات، لنقرأ، بسرعة، ما ردّ عليه فيه نتنياهو الذي اتهّم “المعارض” الصهيوني إسحق هرتسوغ الذي كان في زيارة لفرنسا بأنه وراءه. وقد “حض على هذا الاقتراح غير الممكن” إذ “لا فائدة من مؤتمر كهذا”.

طبعا هرتسوغ نفى هذه التهمة، وتبرّأ منها، ومن الاقتراح. أما تسيبي ليفني فتدخلت بين الاثنين وطالبت نتنياهو بإطلاق مبادرة. وذلك “لنبقي المبادرة بأيدينا وتخرجنا من الضغط الدولي الذي يشتدّ على رقابنا”.

السؤال بداية ما وراء اقتراح لوران فابيوس الذي جاء مفاجأة لنتنياهو كما أن تهديده جاء أشدّ وقعا؟ لقد أراد أن يقول لولا التحريض من طرف صهيوني قوي لما كان هذا الاقتراح وذاك التهديد، ولما تجرّأ عليه لوران فابيوس المحسوب صديقا حميما، ومناصرا أكيدا للكيان الصهيوني. ولكن هذا التفسير لا يكفي بالرغم من نفي هرتسوغ له. لأن قبوله، ولو صحّ اتهام نتنياهو لهرتسوغ، ما كانت فرنسا، وفابيوس بالذات، أن يأخذا به لولا الظروف الراهنة، التي تتميّز باندلاع الانتفاضة الثالثة وخوف أنصار الكيان الصهيوني عليه من الانتفاضة، إلى جانب خوفهم على أنفسهم من ردود فعل الرأي العام الغربي في مصلحة الانتفاضة، وضدّ ارتكابات الجيش الصهيوني ضدّ شباب الانتفاضة وشاباتها. وقد وصلت إلى حدّ القتل العمد. ولهذا يكون فابيوس أراد من الاقتراح الضغط على نتنياهو ليفعل شيئا يطفئ فتيل الانتفاضة، بدلا من عناده في قمعها فيما النتائج معاكسة لهذا القمع.

ومن هنا، أيضا، تُفهَم ردّة فعل تسيبي ليفني وطلبها من نتنياهو أن يتقدّم بمبادرة لإبقاء زمام المبادرة “بأيدينا وتُخرجنا من الضغط الدولي الذي يشتدّ على رقابنا”.

هنالك البعض الذي يصوّر الكيان الصهيوني أنه الوحيد الذي يتمتع بالقوة والأمان ويفيد من كل ما يجري في البلاد العربية من صراعات وانقسامات. كما ثمة بعض آخر لا يرى ما راحت تحدثه الانتفاضة من إرباك وضغوط على الكيان الصهيوني. ومن ثم يرفض القول إن الكيان الصهيوني يعاني مأزقا لم يَعرِف له مثيلا من قبل، سواء أكان في مواجهته للانتفاضة، أم كان في وضعه العام. وذلك على الضد من قول الذين يعتبرونه “المرتاح الوحيد في المنطقة” أو “وحده الذي يفيد مما يجري”.

مرّة أخرى ليتمعّن هذان “البعضان” بتعليق تسيبي ليفني الذي يتهّم حكومة نتنياهو بفقدانها لزمام المبادرة من جهة، ويطالبها بالمبادرة لتُخرِجَ الكيان الصهيوني “من الضغط الدولي الذي يشتدّ على رقابنا”. فكيف يكون الكيان الصهيوني “الوحيد المرتاح”، و”الوحيد الذي يفيد من كل ما يجري”، والوحيد “الذي لا يتأثر بالانتفاضة”، فيما هو واقع تحت ردّة الفعل وقد فقد زمام المبادرة التي هي في يد الانتفاضة، وفيما يشتد الضغط الدولي على رقبته وليس على رقبة نتنياهو وحده. فهذه حقيقة لا يريد أن يراها المُحْرَجون من تأييد الانتفاضة والذهاب بها حتى النصر.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .