أمسية أدبية أقامها نادي حيفا الثقافي والمجلس الملي الارثوذكسي الوطني/ حيفا، واتحاد الكرمل للأدباء الفلسطينيين ومنتدى الحوار الثقافي/ البادية عسفيا وذلك احتفاء بتوقيع ديوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرين) للشاعرة آمال عوّاد رضوان، وسط حضور من الأدباء وذواقي الكلمة، وذلك في قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسية في حيفا بتاريخ 14-1-2016، وقد تولت عرافة الأمسية الشاعرة الأنيقة ليليان بشارة منصور وتحدث كل من الأدباء: د. محمد خليل، وفاطمة دياب، وفهيم أبو ركن، ونبيهة جبارين، ورشدي الماضي، وحنا أبو حنا، وجريس خوري، والمحامي حسن عبادي، وقد تخللت القراءات ترانيم بصوت الواعدة ماريا سليم، وفي نهاية الأمسية شكرت آمال عواد رضوان الحضور والمنظمين ومن ثم تم التقاط الصور التذكارية أثناء توقيع الديوان
كلمة الأديب حنّا أبو حنّا: عرفتُ شِعر آمال عوّاد رضوان منذ بداياتِه، والحصادِ الأوّلِ (بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّجُ)، وتعرفونَ أنّنا نقرأ الكثيرَ، وفي بعض الأحيان نقول: هنا شاعرٌ وهنا شاعرة. آمال عوّاد رضوان ومنذ دواوينِها الأولى تكتبُ الشّعرَ، ليسَ بمعنى أن يكونَ لهُ وزنٌ وإيقاعٌ ونثرٌ مَنظوم، لا، آمال تكتبُ شعرًا يَحتاجُ منك أن تقفَ عندَهُ، عندَ الصور والأبعادِ المختلفة، والذي يُفاجئُنا بصُورٍ صادمةٍ لم نكن نتوقّعُها، وهذا هو الشعر!
نحن في هذا البلدِ ومنذ البداية، لم يكنْ عندَنا عددٌ مِن الشّعراءِ، بَعدَ أن رحلَ شعراؤُنا أبو سلمى وغيرُهم، وكانَ علينا أن نرعى الشّعراءَ منذ البداية، ولكن في ذلك الحين، كانَ على شِعرنا أن يكونَ مُباشرًا، لأنّنا كنّا نذهبُ إلى المهرجاناتِ الشّعريّةِ في القرى والمُدن، وكانَ الجمهورُ في ظروفِ الحُكم العسكريّ يأتي بالكراسي الصغيرة، أو يقفُ على السطوح، ويستمعُ إلى ساعتيْن وثلاث ساعاتٍ للشعراء. في مثل ذلك الحين، لم يكنْ بوسعِنا أن نكتبَ شِعرًا فيهِ الكثيرُ مِنَ الحاجةِ إلى التأمّلِ والاستمتاع، لذلكَ كانَ شِعرُنا مُباشرًا، يعني أنّهُ على الجمهورِ أنْ يَفهمَ، لأنّنا كنّا نتحدّثُ عن آمالنا وعن آلامِنا، ودائمًا أذكرُ صوتَ عزيزنا حين قال: اليومَ جئتُ وكلنا سُجَناءُ/ فمتى أجيءُ وكلُّنا طُلقاءُ؟ المَعاني واضحةٌ، ومقصودٌ أن تكونَ واضحةً. ولكنّنا اليومَ في مرحلةٍ أخرى، تحتاجُ إلى آفاقٍ فنّيّةٍ وإلى تأمّلاتٍ وإلى قارئٍ ذكيٍّ، لذلكَ علينا أن نحتفلَ بهذا الذكاءِ، والّذي ننتظرُ لهُ آمال في آفاقٍ جديدة، وآمال عوّاد رضوان باحثةٌ أيضًا، وأذكرُ أنّها قامتْ بدراسةٍ لديواني “تجرّعتُ سُمَّكَ حتّى المَناعة” دراسةً دقيقةً، وتصِلُ إلى الأغوار. هنيئًا لنا أوّلًا، ثمّ لكِ آمال.
كلمة جريس خوري؛ “أمينُ صندوق المجلس المِليّ الأرثوذكسيّ الوطنيّ في حيفا”: أحبّائي، ليلتُنا آمال وأماني ورضى مِن الرضوان وعيدُ أعيادٍ عوّاد! ليلتُنا مع الصديقةِ المُبدعة آمال عوّاد رضوان الشاعرة والأديبة دائمة النشاط، وذلك بمناسبةِ حفل توقيع ديوانها (أُدَمْوِزُكِ وتَتَعَشْتَرين)، وهو العملُ الرابعُ شِعريًّا والتّاسع لها أدبيًّا. الشاعرةُ آمال عوّاد رضوان تطيرُ وتُحلّقُ، وتَمُرُّ على أزهارِ الحدائقِ تجني الرّحيق، فتحلو كلماتُها، وتُطرّزُ أجملَ الصّورِ الشّعريّةِ مِن وُريْقاتِ وتيجانِ الورود، تلكَ الصّور منها الظاهر للعيان، ومنها المُتواري بين رموزِها الإبداعية.
آمال ترى في كلّ مَعارفِها إخوةً، والكلّ يَراها أختًا دائمةَ البسمة إيجابيّة، ولم أرَها يومًا مُنزعجةً أو غاضبة، وتتواجدُ في معظم الأمسياتِ وتُوثّقُها وتَنشرُها، وها هي بصدَدِ جمْع التّقاريرِ الثقافيّةِ وطباعتِها في ستّة مُجلّداتٍ لتوثيق المَشهدِ الثقافيّ المَحلّيّ، ونحن نَشدُّ على يديْها وندعمُها. أيّها الحضورُ الكريم، أُرحّبُ بكم أجملَ ترحيب، فأنتم صرتم أهلَ البيت، أعني قاعة كنيسة ماريوحنا الأرثوذكسيّة في حيفا، والتي غدَتْ منارةً للأدب والثقافة لكلّ مجتمعِنا الفلسطينيّ، على مختلف أطيافِهِ وأينما وُجد.
مداخلة د. محمد خليل: آمال عوّاد رضوان عطاءٌ إبداعيٌّ مُتميّز و “أُدَمْوِزُكِ وتتَعَشْترين” نموذجًا: المحتفى بها العزيزة آمال، المبدعاتُ والمبدعون، الحضورُ الكريم مع حفظ الأسماء والألقاب، أهلًا بكم تحتَ مِظلّةِ الشّعر والإبداع!
أنوه بدايةً، إلى أنّه من الصعوبةِ بمكانٍ في هذهِ العجالةِ، الإحاطةَ بالديوان من كافةِ جوانبه، ثمّ أبادرُ إلى القوْل: مِن جديدٍ تُطِلُّ علينا الشاعرة آمال عوّاد رضوان عبرَ مجموعتِها الشّعريّةِ الجديدة “أُدَمـْـــوِزُكِ.. وَتـَـتـَـعَــشْــتـَـرِيــن”، التي جاءتْ بعدَ ثلاثةِ إصداراتٍ شِعريّةٍ سابقةٍ لها هي: “بسمةٌ لوزيّةٌ تتوهّج” صدر العام 2005. و “سلامي لكَ مطرًا” صدر العام 2007. والإصدار الشّعريّ الثالث “رحلةٌ إلى عنوانٍ مفقودٍ” صدر العام 2010، وأخرى في القراءاتِ النقديّةِ واالتوثيق والبحث والمقالاتِ والتقارير الأدبيّةِ، ولها إصداراتٌ مشتركةٌ مع آخرين! ولوْ تتبّعنا مسيرةَ عطائِها مِن خِلالِ محطّاتها الإبداعيّةِ تلك، لتأكَّدَ لنا بأنَّ دالَّةَ نتاجِها الشّعريّ شكْلًا ومَضمونًا، تسيرُ مِن حَسَنٍ إلى أحسنَ وفي تَصاعُدٍ مُستمِرّ! وفي الحقّ يُمكنُ القولُ: إنّ هذا الكتابَ يُعَدُّ إضافةً نوعيّةً في مشهدِ حركتِنا الإبداعيّةِ المَحلّيّةِ والشّعريّةِ منها تحديدًا، وفي الوقتِ ذاتِهِ، هوَ رفدٌ وإثراءٌ يَصُبُّ في نهرِ حَركتِنا الأدبيّةِ المَحلّيّةِ المُتنامي! في السّياقِ ذاتِهِ قد يَكونُ مِنَ الإنصافِ أنْ نَذكُرَ أنّهُ إذا ما ألقيْنا نظرةً ثاقبةً على السّاحةِ المَحلّيّةِ لرأيْنا، أنّها تَشهدُ لاسيّما في الآونة الأخيرة، حَراكًا أدبيًّا وثقافيًّا مَلحوظَيْن، عِلمًا أنَّهُ ليسَ كلُّ ما يُنشرُ لدينا يَرقى إلى المستوى الإبداعيِّ والفنّيّ الحقيقيّيْنِ، الأمرُ الّذي يَدعونا إلى مُضاعفةِ الجهدِ أكثرَ فأكثر، وذلك بالمزيدِ مِن القراءةِ والثقافةِ والتّجربةِ والوعيِ، لتُصبحَ المخزونَ الذي نمْتحُ منهُ إبداعاتِنا، وتُشكِّلَ في الوقتِ نفسِهِ، رافعةً قويّةً لوجودِنا ولثقافتِنا في بلادِنا!
وبعد، لا يُساورُني أدنى شكٍّ بأنّنا في حضرةِ شاعرةٍ مُختلفةٍ، لغةً وجرأةً وفنّيًّا، لذلكَ تَستحقُّ الاحتفاءَ والتكريم! ومعروفٌ أنَّ الاحتفاءَ بالمبدعاتِ والمبدعينَ هو احتفاءٌ بالإبداع في أبهى صُوَرِهِ، كما يُعدُّ مِن أهَمِّ عواملِ النّجاحِ والإبداعِ والتّميُّزِ، فلأجلِ ذلكَ جئنا والتَقيْنا هنا، ولأجل عطائِها الإبداعيِّ المُتميّزِ في مَجالِ الشّعرِ، جنبًا إلى جنبِ سائرِ نشاطاتِها الأدبيّةِ والثّقافيّةِ والاجتماعيّةِ المُستمرّة، وقد لا أراني مُبالِغًا إذا قلت: إنّ أسلوبَ آمال في تعامُلِها مع شِعرِها أشبهُ ما يكونُ بأسلوبِ النّحلةِ الّتي تنتقلُ مِن زهرةٍ إلى زهرة، لتَجنيَ منها رحيقًا تُحيلُهُ إلى شهدٍ خالِص، خاصّةً في تَخيُّرِها للألفاظِ والمعاني، وهي حينَ تَصنعُ شِعرًا، نَراها تَبذُلُ قُصارَى جُهدِها، مُراعاةً والتزامًا بالمَعاييرِ الأدبيّةِ والفنّيّةِ والإنسانيّةِ في آنٍ، مع ما فيهِ مِن مُحاكاةٍ لذاتِها، أو لِما تبوحُ بهِ مِن بعضِ ملامحِ شخصيَّتِها كإنسانةٍ، بكلِّ ما تحملُهُ الكلمةُ مِن مَعانٍ إنسانيّةٍ ساميةٍ قبلَ كلِّ شيءٍ، وكشاعرةٍ مُرهفَةِ الإحساسِ والوجدان!
الشّعرُ في بعضِ جَوانبِهِ، لم يَزلْ منذُ الأزل، يَحكي ويُحاكي شخصَ الشّاعرِ نفسِهِ في الحياةِ، ممّا يُؤكّدُ المَقولةَ: بأنَّ الفنّانَ لا يَبتدعُ أسلوبَ حياتِهِ، بل يَعيشُ بالأسلوبِ الذي يُبدعُ فيهِ. كذلك، فإنّها حينَ تستحضرُ بناتِ أفكارِها، وتُحرِّكُ خَلَجاتِ نفسِها، عبْرَ رؤيتِها للواقعِ والتأمُّلِ في الحياةِ مِن حوْلِها، ثُمَّ تُترجمُها إلى صُوَرٍ فنّيّةٍ آسِرةٍ، إنّما تُلامسُ ذاتَها وتَبثُّ أفكارَها، تمامًا مثلما تُلامسُ أفكارَنا وتداعبُ مشاعرَنا نحن القرّاءَ أيضًا، وذلكَ مِن خلالِ تَجلّياتِها الصّوفيّةِ المُحِبَّةِ والعاشقةِ الّتي تَعيشُها، وُصولًا إلى حالتَيْ الحُلولِ والاتّحادِ (طبعًا معَ الشّعر)، فالكتابةُ هي الكاتبُ، والشّعرُ هو الشّاعرُ، وكلُّ أثرٍ يَدُلُّ على صاحبِهِ! وفي مِثلِ ذلك يقولُ النّاقدُ السّوريُّ نبيل سليمان: في النّصّ “مِن تكوينِ المُبدِعِ النّفسيِّ وحياتِهِ الشّخصيّةِ ما فيه. في النّصّ مِن ذاتِ مُنتجِهِ، مِن شعورِهِ ولا شعورِهِ، مِن سيرتِهِ ما فيهِ. لكن في النّصِّ أيضًا مِن فِكريّةِ مُنتِجِهِ، ومِن وعيِهِ، ومِن رؤيتِهِ ما فيه. أخيرًا، في النّصّ أيضًا مِن اللّاوعي الجَمْعيِّ والوعيِ الجمْعيِّ ما فيه”. (نبيل سليمان، في الإبداع والنقد، ص28، اللّاذقية: دار الحوار للنشر والتوزيع، 1989)!
أمّا جاك دريدا صاحبُ نظريّة “التفكيكيّة”، أو بالأحرى القراءةِ “التّفكيكيّة” فيقول: لا شيءَ خارجَ النَّصّ! كما سوف نلحظ ذلك، مِن خلالِ مقاربتِنا لِـ “أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين”! مِن آلهةِ الأساطيرِ القديمة، فـ “دموزي” لدى السّومريّينَ أو تموز كما يُسمّيهِ الأكّاديّونَ هو إلهُ الذّكورةِ والخُضرةِ والإخصابِ والحياةِ. وقصّةُ خيانةِ زوجتِهِ “عشتار” له وتسليمِهِ إلى شياطينِ العالم السّفليّ ليَقتلوهُ معروفةٌ، أمّا “عشتار” فهي ربَّةُ الخصبِ والأنوثةِ والحبِّ والجنسِ لدى البابليّينَ، سكّانِ وادي الرافديْن القدماء، وهي أعظمُ الآلهةِ وأسْماهُنَّ مَنزلةً!
إنَّ أوّلَ ما يَستوقفُنا مِن الديوانِ هو العنوانُ الموسومُ بـ “أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين”! وبمَعزلٍ عن مدى تذوُّقِ المُتلقّي وتقبُّلِهِ لهذا العنوان، فهو عتبةُ النّصِّ الأولى الّتي تُشكِّلُ حمولةً دلاليّةً مُغريةً وجريئةً، إذ نرى هنا في ما اختارتْهُ الشّاعرةُ عنوانًا للدّيوان، أنّها تشتقُّ كلمةً مِن أخرى بتغييرٍ ما، مع التّناسُبِ في ما رَمتْ إليهِ مِن معنى، ففي الجزءِ الأوّلِ مِنَ العنوانِ نقرأ: أُدَمْوِزُكِ من دُموزي (الرّمز الذّكري)، وفي الثّاني: تتعشترين من عشتار (الرمز الأنثويّ)! وليسَ هذا مِن النّحتِ كما ذهبَ بعضُهم، لأنّ النّحتَ في الاصطلاحِ عندَ الخليلِ بنِ أحمدَ الفراهيدي: “أخْذُ كلمةٍ مِن كلمتيْنِ مُتعاقبَتيْن، واشتقاقُ فعلٍ منها”! وقالَ آخرون: بل اشتقاقُ كلمةٍ، أي بإطلاق مِن دونِ تقييدٍ أو تحديدٍ! أمّا لجهةِ المعنى الّذي تَعنيهِ الشّاعرةُ أو تُلمّحُ إليهِ كما يَبدو، فيَظنُّ المرءُ أنّها حينَ جمَعتْ بين “دُموزي” و”عشتار” في تَكامُلٍ رومانسيٍّ واتّحادٍ جنسيٍّ، لقوْلِها “أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين”، كنايةً عن رغبتِها أنْ تقولَ: أُخصّبُكِ فتَحمِلين، ومتى حدثَ الإخصابُ وتمَّ الحمْلُ، لم يَتبَقَّ لنا نحنُ القرّاءُ إلّا أنْ ننتظرَ الموْلودَ، والأصحّ المولودةَ وهي القصيدة! وعليهِ، فإنَّ عنوانَ الدّيوانِ مِن حيثُ الدّلالةِ والمَدلولِ، يَشي بأنَّ الشاعرةَ مِن خلالِ توظيفِها للأسطورةِ والخيالِ، إنّما تتوسَّلُ الهربَ مِن عالمٍ واقعيٍّ سوْداويٍّ، مِلؤُهُ الضَّجرُ والغربةُ والرعبُ والفراغُ، والتشظِّي إلى عالمٍ افتراضيٍّ أجملَ، ملؤُهُ الحبُّ والعشقُ والانعتاقُ والخلاصُ! إنّها مُحاولةٌ مُتخيَّلةٌ للتغييرِ إلى الأفضلِ والأجملِ، مُحاولةٌ تحملُ في طيّاتِها أفكارًا لها أجنحةٌ، قد تُحلِّقُ إلى آفاقٍ بعيدةٍ، والفكرةُ أساسُ كلِّ عملٍ!
يقولُ ابنُ سينا (370-427ه) رافضًا أن يَعُدَّ الشّعرَ شِعرًا، إذا كان خُلوًّا مِنَ التّخييل: “إنّ كلَّ كلامٍ غيرَ مخيَّلٍ ليسَ شِعرًا، وإنْ كانَ موْزونًا مُقفَّى، وإنَّ الشّعرَ يُرادُ فيهِ التّخييلُ لا إفادةَ الآراء”! وقد وافقَهُ الرأيَ على ذلك مِن بعدِهِ، غيرُ ناقدٍ أو كاتب. أمّا أينشتاين فيُنسبُ إليهِ القوْلُ: “إنَّ الخيالَ أهمُّ مِن المعرفة”، لأنّهُ أساسُ كلِّ إبداع! لذا، فالتّخييلُ عمليَّةٌ يَقومُ بها الشّاعرُ، ويَقعُ تأثيرُها على المُتلقّي!
لكن في المقابل، أرى أنّهُ لكي يكونَ توظيفُ الأسطورةِ ناجحًا، يَجبُ عدمُ الاكتفاءِ بمُجرّدِ المُفرداتِ والتّعابيرِ الأسطوريّة، إنّما يجبُ توظيفُها كقيمةٍ فنيَّةٍ في سياقٍ مُتناسقٍ ومُنسجمٍ، بحيثُ يَتمُّ تحويلُها إلى طقوسٍ أسطوريّة تتعالقُ مع واقعِنا وحياتِنا مِن خلالِ النَّصّ، فالأسطورةُ كما يُفترَضُ، وسيلةٌ فنّيّةٌ يَتوسَّلُ الفنّانُ مِن خِلالِها الكشفَ عن تَناقضاتِ الحياةِ وسوْداويّةِ الواقع، أو كأنْ يُعيدَ إلى الإنسانِ بعضَ ما يفتقدُهُ مِنَ الانسجامِ والتّوازنِ والقِيمِ كالحُبِّ والسّموّ، على سبيلِ المثالِ لا الحصر، في واقعِهِ المُعاصِرِ الّذي يَبدو مُنغمِسًا بالمادّيّةِ، وأبعدَ ما يكونُ عن الرّوحانيّة، وعليهِ، فإنَّ توظيفَ الأسطورةِ يَحتاجُ إلى جُهدٍ مُضاعَفٍ!
في نفسِ السّياقِ، نحن لا نُنكِرُ على الدّيوانِ احتفاءَهُ اللّافتَ بالصّورةِ الفنّيّةِ، التي يُترجمُها خيالٌ مُحلِّقٌ في فضاءاتِ اللّغةِ والدّلالاتِ، هذا صحيح ! لكنْ ما يَلحظُهُ القارئ، أنَّ الديوانَ يُقيمُ بناءَهُ الشّعريَّ على اللّغةِ فقط، وهذا وحدَهُ لا يَكفي! أضِفْ إلى ذلك، لا يمكنُ أنْ يَكونَ هناكَ أيُّ نصٍّ أدبيٍّ خُلوًّا مِنَ الفِعلِ الدّراميّ، بما يَتضمّنُهُ مِن فِعلٍ وحَرَكة! كذلك، مِن الضّروريِّ أيضًا أنْ يُفضيَ الشّعرُ إلى حالةٍ من التّفكيرِ أو التّساؤلِ في أقلِّ تقدير! فالإبداع الشّعريُّ تَجربةٌ روحيّةٌ عميقةٌ، لا يُمكنُ أن يَترسّخَ، إلّا مِن خلالِ ما يَطرحُهُ مِنَ الأسئلةِ والرّؤى والأفكار، وعليْه، فإنَّ أهمّيّةَ الشّعرِ وكلِّ فنٍّ آخرَ إنّما تكمُنُ، بما يتركُهُ في نفسِ المُتلقّي مِن قوّةٍ في الأثرِ والتّأثيرِ والتّفكيرِ والتّفاعلِ والانفعال!
وبالنّظر إلى نُصوصِ الدّيوانِ الخمسين نجدُها أقربَ ما تكونُ إلى النثرِ الشّعريّ، أمّا مضمونُها ففي غالبيّتِهِ العظمى مُتشابهٌ إلى حدٍّ كبيرٍ شكلاً ومضمونًا، والكلامُ فيها آخذٌ بعضُهُ برقابِ بعض، مع ما فيها مِن تَرابطٍ شعوريٍّ وثيقِ الصّلة! هي بوحٌ ذاتيٌّ أو قُلْ هي رسائلُ عشقٍ، أو كما أسمَتْها “عشقيّاتٍ” حمَّالةَ مستوياتٍ دلاليّةٍ مُتعدّدةٍ تُرسلُها شاعرتُنا المسكونةُ بهاجسِ الحبِّ، بسمُوّ روحٍ وعُلوِّ نفسٍ لافتيْن إلى جمهور القرّاء، بُغيةَ أنسنةِ الإنسانِ وتحقيقًا لسعادتِهِ، ومشارَكةً لهُ في همومِهِ في رحلةِ هذهِ الحياةِ قصيرةً كانتْ أم طويلة! وفي أجواءٍ احتفاليّةٍ عارمةٍ تصلُ حدَّ الشّبقيّةِ أحيانًا، تبلغُ تلكَ التّجليّاتُ ذُروتَها، حينَ تكتبُ بالحُبِّ سِفرَ خلاصِنا الموعود، بُغيةَ تغييرِ الواقعِ المُنتشرِ بينَ ظهرانينا، ولا تترُكُنا حتّى نفتحَ نوافذَنا في وجهِ تلكَ الرّسائلِ، فالحبُّ وحدَهُ مِفتاحُ كلِّ الأقفالِ، مِفتاحٌ واحدٌ ليسَ أكثر، ليُصبحَ شرطًا وجوديًّا في بحرِ الحياةِ، وقد ترامتْ أطرافُهُ واتّسعتْ شطآنُهُ لكلِّ البرايا والمَخلوقات.
يثبتُ واقعُ الحالِ بأنّنا حقًا نفتقدُ الحبَّ قولًا وفعلًا، وفي مختلف مجالاتِ حياتِنا الفرديّةِ والجمْعيّةِ على حدٍّ سواء، وأحسبُ أنّ الشاعرةَ، وفي رؤيةٍ مُتبصّرةٍ، قد نجحتْ في نقلِ صورةٍ حقيقيّةٍ، نابعةٍ من واقع الحياةِ والظروفِ الموضوعيّةِ المُحيطة بالمجتمعِ مِن حولِنا جميعًا! المقياسُ الحقيقيُّ للشعرِ الجديدِ هو مدى الإحساسِ بالوجودِ الإنسانيِّ ارتيادًا وكشفًا على المستوى الفردي ّوالكونيّ في آن.
ومن جميلِ ما قرأتُ مبنىً ومعنىً وصورةً فنّيّةً، مِن قصيدةٍ عنوانُها “غِمارُ أُنوثتكِ الـْ أَشْتَهِي” ص32: “غماري.. في تمامِ نُضْجِها/ مُثقلةٌ.. بلذائذِ فاكهتِكِ المشتهاةِ/ تَشقّقتْ.. مُولَعةً بِنُضْجِكِ/ وإنّي لأبْدُوَ للناظرينَ.. كبساتينِ نخلٍ/ أنْهَكَها ثِقَلُ تُمُورِها.. أما حانَ القِطافُ”؟
الصورةُ الفنّيّةُ جميلةٌ، وهي تشكيلٌ إبداعيٌّ أشبهُ ما يكونُ بالرّسمِ التّشكيليِّ مع فارقِ الأدّواتِ، لكنَّ دخولَ الكافِ على البساتينِ، أفقدَها كما يَبدو بعضَ روْنقِها، وأرى أنَّ دخولَها جاءَ مُقحَمًا، إذ جعلتِ التّشبيهَ عاديًّا، ولو جعلَتْهُ بليغًا لكانَ أفضلَ وأجملَ، ذلك لأنَّ لغةَ الأدبِ أو البلاغةِ والمبالغةِ كما يُفترضُ، هي لغةُ النّصّ الشّعريّ تحديدًا، مثلما هي لغةُ الإشارةِ والتلميح، لا لغةُ الإيضاحِ والتّصريح!
ثمّةَ إشارةٌ أخرى يُمكنُ أن تستوقِفَنا، ألا وهي قوْلُها ص70: “أَفْسِحِي لِرِئَتَيَّ.. يَنابيعَ إيمانِكِ/ لتنْمُوَ آفاقِي.. وَلِيَشيبَ ثلجي”! تُرى هل الشّائبُ يَشيبُ!؟ كما نجدُ لديْها دخولَ ألـ التعريفِ على الفِعل المُضارع ، وهو غيرُ مُحبَّذٍ، مثالُ ذلك ص31: “غمارُ أنوثتِكِ ألـْ أشتهي”، وص106 “أيا منفايَ ألـ يَتوارى”، وص108 “طيْفُكِ ألـْ يَتلوَّنُ” ، وعلى شِبه الجملة ص66 “ألْـ لها”، كما نجدُ لديْها اهتمامًا بتقطيعِ الكلماتِ إلى حروفِها، ربّما تأكيدًا لدلالةٍ مُعيّنةٍ أو لإيقاعٍ مُعيّنٍ، وتلكَ مِن المُميّزاتِ الحداثيّةِ في الشّعرِ العربيّ المُعاصرِ، الأمر الذي يَتطلّبُ قارئًا جديدًا مُتمكّنًا، وبقدْرِ تمَكُّنِهِ تكونُ قدرتُهُ على كشفِ أبعادِ النّصّ ودلالاتِهِ. أيضًا نجدُها تتحدّثُ بلغةِ المُذكّرِ، وتلكَ مِن الأنماطِ التّقليديّةِ في الشّعرِ العربيّ، وحبّذا لو تمرّدَتْ عليها! ولا يَسعُني أخيرًا، إلّا أنْ أقولَ للزميلةِ والصديقة آمال عوّاد رضوان: لا جفَّ مدادُ يراعِكِ، ولا نضبَ مَعينُ إبداعِكِ، ودمتِ متألقةً كما أنتِ دائمًا!
مداخلة نبيهة راشد جبارين/ “أُدَمْوِزُكِ وَتتَعَشْتَرين”: عندما التقيت دموزي وعشتار من على صفحات كتابك يا آمال، لم أستطع الدفاع عن نفسي، إذ سرعان ما أسَرَني جَمالُ اللّغةِ، ثمّ ما انفكَّ أن أطلقَ سراحي تطويعُها. كلمتان “أُدَمْوِزُكِ وَتتَعَشْتَرين”، أستطيع أن أكتب عنهما دراسةً، أو كتاباً، كلمتان انسابَتا وسلكتا في أبعادٍ ثلاثة: * بُعّدُ مصبِّ الطّربِ الوجدانيّ. *وبُعْدُ مصبِّ العاطفة الرّقراقة. *وبُعْدُ مصبِّ الجمال الآسِر، جمال اللغة والتعبير والتركيب. وكلّها تخاطب الرّوح والوجدان خطاباً عشقياً صوفياً راقياً ورائقاً.
تقمّصتِ يا “آمال” دور الحمام الزاجل بين دموزي وعشتار، فاعترفا أنك قد رونقت الرسائل بينهما، وتمكنت من حل شيفرة الرسالة البرقية بينهما: “أُدَمْوِزُكِ وَتتَعَشْتَرين”، هما قصّةٌ قصيرةٌ جدًّا جدًّا، “ومضة”، بل يمكن أن تطيلي النجوى، لتصبحَ قصّةً أو روايةً طويلةً جدًّا ممعنةً في القِدَم، وكأنّكِ تُأَوْدِمينَها (آدم) فتتحوّى (حواء)، ثم تُقَيْوِسينَها (قيس) فَتَتَليْلى (ليلى)!
يا للروعة! والله لو لم أقرأ الكتاب، لكفتني هذه “الدموزة والعشترة”، ومِن المفارقة، أنّ دموزي وهو “الرجل بالايحاء”، يحاول مُستعينًا بعقار الحبّ والعشق أن يُذيبَ عشتارَ فيهِ كالعادة، فتصبحَ مِن مُكوّناتِهِ، إلّا أنّها تتمنّعُ وتستعْصِمُ وتسْتعصي، وتبقى في عِشْترتِها حُرّةً طليقةً، تبثُّ له حبًّا وإعجابًا، ولعلّي أستطيعُ أن أقرأ في هاتيْن الكلمتيْن عِتابًا، أو اعتراضًا أو لائحةَ اتّهامٍ، وكُلٌ يُغَنّي على ليْلاه، وكأنّها الجدليّةُ الأزليّةُ بين المرأةِ والرّجل، إذ إنّ صدى الصّوت هنا يَشي بأنَّ الرّجلَ يحلَمُ بأنْ يُدَمْوِزَ المرأة، ممّا يَزيدُها عنادًا وعشترةً وتمسّكًا بأنوثتها، وهنا أستقرئ من هذا العنوان إشكاليّةَ المجتمع الذكوريّ كلّه، فلماذا “أُدَمْوِزُكِ وَتتَعَشْتَرين”، وليسَ أُعَشْتِرُكَ فَتَتَدَمْوَز؟ إنّها إشكاليّةُ الرّجلِ والمرأة الّتي لا تنفكُّ تَقُضُّ المَضاجعَ، لأنّ كِلَيْهما لا يَقتنعُ بأنّ الآخرَ هو نِصفُهُ المُكمِّلُ، فيبقى دموزي هو دموزي وعشتار هي عشتار، وفي هذا سرٌّ لاستمرارِ العِشْقِ والجَمال. وأخيرًا، لا أستطيعُ إلّا أن أزدادَ عشترةً لهذهِ اللّغةِ الفاتنة، وهي تُلقي غلالةَ السّحرِ والجَمالِ والجَلالِ والدّلالِ على صفحاتِ ديوانِك يا آمال، فقد استهواني غنجُ هذهِ اللّغةِ ودلالُها عليكِ، في مَواطنَ كثيرةٍ على صفحاتِ الديوان في بَعضِ أجناسِ البلاغة وهو كثيرٌ ووثيرٌ، مثلاً:
الجناس: “معنىً – مغنىً” ص18. “تعرِفُني- تعزِفُني” ص35. “تَسْجِنينَني- تَنسِجينَني” ص12
الطّباق: مُبتداي- مُنتهاي ص61. باكيةٍ- ضاحكةٍ ص128
وهناك الاشتقاق المبتكر، وهو ما شاقني وراقني: أُدَمْوِزُكِ. تَتَعَشْتَرِينَ. ثَرْثِرِينِي. أَبْجِدِينِي. تَتَمَاوَجُنِي. لأَشُدَّنِي. تَتَفَاقَسُنَا. تَتَحَالَقُ. أَتَثَاءبُنِي. أَنْبَثِقُنِي ..الخ. (هذه والله عجيبة! فكيف جعلتِ الفِعلَ اللازمَ يتجاوز فاعلهُ ويَتعدّى ويأخذ مفعولا، وَيتخلّى عن لزوميّاتِه؟).
رصّعَت الدّيوانَ بعضُ كلماتٍ تُراثيّةٍ بعيدة المَهوى: أَكْمِشُ. مَسَاكِبُ. الْبَيَادِر. الْحَصَاد. الطَّوَاحِين. غِلَال. مَوَاسِم. الخ..
هناك كلماتٌ وعباراتٌ مُستوْحاةٌ مِن النّصوصِ الدّينيّة الإسلاميّة: أُسَبِّحُ. أتَوَضّأ. مِشْكَاةٌ. تُيَمِّمُنِي. تَتَبَرَّجُ. تَمُورِينَ. (أَحُرَّاسُكِ شُدُدُ؟) تشبهُ الآية الكريمة: (مُلِئَتْ حَرَسًا شَديدًا وَشُهُبًا). أَنَا رَاعِيهَا. أَهُشُّ عَلَيْهَا بِعُكَّازِي. مُستوحاة مِن الآيةِ الكريمةِ: “هيَ عَصايَ أتَوَكّأُ عَلَيْها وَأهُشُّ بِها على غَنَمي”.
وأخيرًا، لا يَسَعُني إلّا أنْ أباركَ لك عزيزتي آمال عوّاد رضوان هذا الإبداعَ القزحيَّ الجميلَ المُميّزَ، والمُتميّزَ في حُلّتِهِ ولغتِهِ وموْضوعِه. أمنياتي لكِ بمزيدٍ مِن التميّزِ والعطاء.
مداخلة فاطمة ذياب/ آمال عوّاد رضوان شاعرةُ الغموضِ والــ ما وراء! مرّةً تلوَ المرّةِ أقفُ سابرةً أغوارَ قصائدِ شاعرةٍ مميّزةٍ في زمن مميّز، آمال عوّاد رضوان شاعرة الغموض والما وراء، تُحفّزنا كما في كلّ مَرّةٍ على تَحَدّيها ونَفعل، وليسَ السّؤالُ إنْ كُنّا ننجحُ أو لا، فلكُلٍّ منّا قراءتُهُ؟
العنوان (أُدَمْوِزُكِ وَتَتعَـشْتَرِين)؟ عندَ هذه الصّرخةِ الحانيةِ تستوقفُني المَعاني، وأحاولُ أنْ أتهجّأ عنوانَ القصيدةِ الّتي تحمِلُ شرفَ عنوانِ الدّيوان، فأراني يا آمال المُتعششتِرةُ ببلاغتِكِ ونصوصِكِ، أحاولُ بدَوْري، أنْ أُدَمْوِزُك مليكةً على عرشِ الحروفِ واللّغاتِ! ولمّا كان عنوانُ الكتابِ مفتاحُهُ، خِلتُهُ مفتاحًا مِن بيوتِنا العتيقةِ، وقد أضاعَ أبوابَهُ؟ وأتحَدّاني، وأُبحِرُ في نصٍّ مُتداخِلٍ يَضمخُ بالذّكورةِ الذاهلةِ والأنوثةِ المُشتهاة! تستوقفُنا صورةُ الغلافِ، ومجموعةٌ مِن التساؤلات: لماذا تتقدّمُ المرأةُ على الرّجُل؟ أمِنْ بابِ التّمنّي، أم هي تريدُها كذلك؟ وبكلّ الأحوال، الدّيوانُ يَدعونا إليه، لنُبحرَ في لجّةٍ ما بين الأرض والسّماء، وثمّة عوالم ترسُمُها آمال بفرشاةِ الحُروف!
آمال يا دُرّةَ الطيور، ما فتئتِ تُحلّقينَ في سَماواتِكِ اليابسة إلّا مِنْ نورِكِ ومِن نارِكِ، كعصفورةِ نارٍ ونورٍ تُضيئينَ الرّوابي! يا مَنْ تعتلينَ صهوةَ الجيادِ العَصِيّة! فارسةً ما زلتِ، تنتقينَ المَيادينَ الخاصّة المُميّزة، ونقفُ أمامَ جُموحِكِ الطّاغي، نرقبُكِ في دهشةٍ، وننظرُ إلى ثغرِكِ الأخرسِ، إلّا مِن سيْلٍ عرمرم يَتحرّشُ بنا، يأخذنا إلى (مُهْـرَةِ البَوْحِ الفتِيّ.. صَوْبَ ذَاكِرَةٍ عَذْرَاءَ)، تحاولين ونحاولُ مثلَكِ أنْ (نَتَطَهَّرَ بِنَارِ الُحُبِّ.. وَنورِ الْحَيَاة!). عزيزتي آمال، صعبٌ أنْ تَظلّي تتلظّينَ ما بينَ اشتعالِ الشوق والحنين، وتتضوّرينَ شهوة: أَأَظَلُّ.. أَتَضَوَّرُ شَهْوَةً؟/ أَحْلَامِي مُعَلَّقَةٌ.. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ.. وُعُودِكِ الْمُؤَجَّلَةِ/ وَأَقْدَامِي تَتَعَثَّرُ.. بَــ ~~ يــْـ ~~نَ.. جُدْرَانِكِ الْــ تَتَهَاوَى!/ عَلَى خَدِّ شُعَاعٍ.. مُضَمَّخٍ/ بِــــالْـــــ~~دَّ~هْـــ~شَــ~ةِ/ ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي .. صَدًى/ لِأَرْسُمَ.. بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى!
وها نحنُ ما زلنا كما نحنُ، نُحاكي دهشةَ حروفِكِ تحتَ قبّةِ سماواتِكِ اليابسة: (أَمَامَ اشْتِعَالِ اشْتِيَاقِي/ ثَ رْ ثِ رِ ي نِ ي.. صَدًى/ لِأَرْسُمَ بَعْثَــكِ الْمُشْتَهَى!) ص4. وها نحنُ نُحاولُ أنْ نرسمَ بعثَكِ المُشتَهى، المُمَوَّجَ على ضِفافٍ تتيقّظُ عندَهُ لغةٌ مُماحِكةٌ، تَسحَبُنا إليها وإلى عوالِمِكِ. (مَبْسُوطَةً.. تَمْتَدُّ رَاحَةُ فَجْرِكِ/ مُخَضَّبَةً.. بِحَنَانِ أَنَامِلِكِ الظَّمْأَى/ حِينَ أَلْثُمُهَا.. يَتَّقِدُ عَبَثِي/ وَعَلَى شَفَتَيْكِ.. أَعْزِفُ ابْتِسَامَتِي/ فَأَغْدُو وَارِفَ الْمَدَى/ أَلَا يَـــتَّـــــسِــــــــعُ.. لِأَوْتَارِكِ الْبَحْرِيَّة؟) ص5.
أخبِريني كيف يَبسُطُ الفجرُ يَداهُ وسَماواتُكِ يابسةٌ، وصهيلُ الحروفِ يَجعلُنا نقفُ ونقفُ، ونُتابعُ ونَغوصُ، ونُبحِرُ في دهشةِ الحُروفِ العصيّةِ والمعاني المُنتقاةِ بذكاءٍ مُتمَرّسٍ. جامحةٌ أنتِ، وكالحياةِ تنتقلينَ مِن حالٍ إلى حالٍ، تَرسُمينَ لنا لوحاتِكِ بصَبرٍ وأناةٍ، و(بحنان أناملِكِ الظمأى) تنثرينَ على ثغرِ الصّفحاتِ هذه الابتسامة العازفة، والمَدى يا العزيزة آمال لا يتّسعُ لأوتارِكِ البحريّة، ونَفيقُ مِن غفوةِ المشاعر، لنرى أنّ كلّ هذا لم يكنْ إلّا وهمًا، لم يَتجسّدْ إلّا بلغةٍ ماطرةٍ، تُحاولُ أن تُلامسَ الأرضَ والواقعَ بيُبْسِ سماواتِهِ، ونظلُّ نَتقبّلُهُ على عِلّاتِهِ، وعندَ أناكِ نقِفُ لحظةً، قبلَ أن نُبحِرَ في طلاسمِ المَجهول، فنتحَدّاهُ ويَتحَدّانا، وتَكثرُ مِن حوْلِنا وتتشابَكُ الخيوطُ والعُقَدُ العصِيّةُ على مداركنا، إلى حُدودِ دَهشتِك يا أنا؟ كم أحتاجُ هذا الإبحارَ في ضجيج صمتِكِ وعنفوانِكِ؛ هي لغةٌ أخرى غيرُ لغتِنا، لا بل هوَ الخيالُ المُتمكّنُ مِن أدواتِهِ ونُصوصِهِ. أَنَا/ مَا كُنْتُ.. مِنْ رُعَاةِ الْغَيْمِ وَالسَّمَاوَاتِ/ فَــفِي أَثِيرِكِ الْحَرِيرِيِّ/ أَتِيحِي لِيَ التَّحْلِيقَ/ بِأَجْنِحَتِكِ الْعَاجِيَّةِ! سَمَاوَاتِي الْمُضِيئَةُ.. انْطَفَأَتْ/ مُنْذُ.. أَلْفَ عامٍ.. وَغَيْمَةٍ/ وَمَا انْفَكَّتْ سُحُبِي.. تَتَحَجَّبُ/ خِشْيَةَ الصَّوَاعِقِ وَالنّكَسِاتِ! ص7
راعيةٌ في حقولِ غيْمِك؟ نعم، اِمنحيني فرصةً، لأُحَلّقَ بأجنحةِ الحروف، كي أُلامِسَ سماواتِكِ الأخرى، فما انفكّتْ سماواتُنا تشتهي الضّوءَ، وبِسكّينِ حرْفكِ تَغرزينَ جسدَ الوَجع. نعم، منذُ ألف عام ونيف لم نزَلْ عندَ حافّةِ حُلمٍ نقِفُ، وتُفجّرُنا الصّواعِقُ والنّكساتُ. بدِقّةٍ مُتناهيةٍ ترسمينَ حاضرَنا العَصِيَّ عن الفهم، الذي يُعربدُ بينَ نبضِ أملٍ ورجاءٍ. يااااااااااااااه، كم هو مُؤلمٌ وموجعٌ أنانا الغارقُ في ظلمتِهِ! يسألُ وتسألينَ ونسألُ!: إِلَامَ أَبْقَى عَائِمًا/ عَلَى وَجْهِ وَجَعِي/ تُلَوِّحُنِي الرَّغْبَةُ/ بِيَدَيْنِ مَبْتُورَتَيْنِ؟ ص8.
لا أنتِ تعرفين، ولا نحنُ نعرف، هل صارَ الحُلمُ يَتضوّرُ في جُحرِهِ جوعًا وبرْدًا؟ نحن يا العزيزة آمال نحاولُ أن نتفيّأ بالحروفِ في هَجيرٍ يَلسَعُنا ببرْدِه، نرقبُ ونترقّبُ، فمَن يُلوّنُ لنا الحكايا في غاباتنا وغاباتِكِ؟ غَــابَـاتِــي تَــعـُـجُّ بِــالنُّــمُــورِ/ أَيَا لَهْفَةَ رُوحِي/ وَيَا عِطْرَ جَسَدِي/ دَعِينِي أَتَسَلَّلُ إِلَيْكِ/ كَحَالِمٍ.. بِثِيَابِ زَاهِدٍ/ لِأَظَلَّ ظَامِئًا أَبَدِيًّا/ تَــ~ا~ئِــ~هًـــ~ا/ بَيْنَ أَحْضَانِكِ!/ فَلَا أَغْدُو فَرِيسَةً لِمَجْهُولٍ/ يَصْطَادُنِي فِي غَفْلَةٍ؟ ص16. سَأَنْتَظِرُكِ/ كَمِثْلِ أَمِيرَةٍ سَاحِرَةٍ/ لتُلَوِّنِي حِكَايَاتِي بِالتَّرَقُّبِ!/ وَكَمِثْلِ قَصِيدَةٍ تَتْلُونِي/ وَمْضَةُ لِقَاءِ حَضْرَتِكِ! ص18.
وها أنتِ كمِثلِ أميرةٍ ساحرةٍ تتهادَيْنَ مِن بينِ براثنِ الوجع، كي تنقشي وجَعَ الآخر، وتَنثرينا ما بين السطور. قويّةٌ شفّافةٌ مُتفجّرةٌ قصائدُكِ، تَدعونا إليها بغمْزٍ ولمْزٍ وإيحاءٍ. وَمَا لَبِثَتْ.. تُرَمِّمُكِ ذِكْرًى/ وَذِكْرَاكِ مُتْرَعَةٌ بتَضَوُّرِي/ تَتَرَاشَحُكِ.. تَبْسِطُنِي أَمَامَكِ فُصُولَ تَغرِيبَةٍ/ وَأَتَرَقْرَقُ زَخَّ أَرَقٍ/ كَوّرَنِي عَلَى مَسِيلِ دَمْعَةٍ!/ كَمْ تَسَوَّلْتُكِ وَطَنًا/ يَشْرَئِبُّ لِأَطْيَافِكِ الْقَزَحِيَّةِ/ لكِنْ فَجْأَةً/ تَقَصَّفَتْ خُيُولِي.. بِطَعَنَاتِ غُرْبَةٍ! ص97.
ونحنُ المُترَعونَ برَوعتِكِ، يُسحِرُنا هذا الغموضُ وهذا الاستحياءُ، فسلامًا لنورِكِ البهيِّ المُتخَفّي في مَدارجِ روحِكِ وقلبِك. قولي بربّكِ، أيُّ قالبٍ يَسكنُ حرفُكِ، فيأتي على شاكلتِكِ مُعبّقًا بثغرِ النصوص، مُضمَّخًا بكلّ ما وراء المعاني، بدلالٍ يَتهادى قصائدَ شَغفٍ في ظِلّ سَراب! وحقّ حرفِكِ وخفقِهِ المَكتوم بأجَله، لمّا تَزلْ مِن بينِ أصابعِ القصيدة تتسرّبُ المَغازي، وتُمطِرُنا بوابلٍ مِن الدّهشةِ والانبهار في حضرةِ عشتار. هكذا نحن عزيزتي آمال، هي الذات التي جُبلت بالعزّةِ والأنَفةِ والكبرياء، لا يَغرُّنَّها القشور، ولا تلهثُ وراءَ العروشِ الخاوية، حتّى لو كان العرضُ مُغريًا، فعرشُنا بصدقِ انتمائِنا لأدواتِنا وقضايانا، نستمِدُّهُ مِن عيونِ البؤسِ، وقصاصاتِ الحُلم المُلقاةِ على هَوامشِ قصيدة!
عزيزتي آمال، إنّ قصائدَكِ المُمَوّجَةَ تحتملُ القسمةَ على أكثر مِن معنى ومَساق، تمامًا كما الرّجولة والأنوثة، والعلاقة المُتداخلة المُشعّة بالخصوبة والولادة والفرح، تأخذنا القصيدة إلى أكثرَ مِن مَسارٍ، وكلّ مَسارٍ لا يُلغي الآخر. هي العلاقةُ الرّوحيّةُ كما نستلهمُ وتُلهمُكِ القصيدةُ علاقةَ النهرِ بروافدِهِ، فإن كانت المرأة هي الأرض، والذكوريّةُ هي السماء، فالنتيجة البديهيّة تَكامُليّةٌ لا انفصامَ فيها ومعها.
من عناوين قصائدك في ديوان (أدموزك وتتعشترين)، ترسمين لنا قصيدة بل مليون قصيدة: أَيَا قَصِيدَتِي الْخَالِدَةَ/ أَنْـــتِ.. أُنْـــثَـــى فَـــرَحِـــي/ ورِضَــابِــي مُــشَــمَّــعٌ.. بِــزَقْــزَقَــةِ طُــيُــورِكِ/ لَكَمْ يَسْتَهْوِينِي/ غِـــمَـــارُ أُنُـــوثَـــتِـــكِ الْــ أَشْـــتَـــهِـــي/ وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ عَلَى لِسَانِي/ مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ/ أَنَــا بَــحْــرُكِ الْــغَـــرِيــقُ/ فِي جَــمْــرِ الْــــ نَّـــدَمِ/ في اخْـــتِـــلَاسُ آمَـــالِـــي/ أيا مُـهْـــرَةُ بَـــوْحِـي/ أَنَــا.. قَـامَـــةُ بَـــوْحِـــكِ/ الــ لا تهدأ/ و عَـــلَـــى أَجْـــنِـــحَـــةِ هَـــذَيَـــانِـــي/ تُطِلِّينَ وَضَّاءَةً.. وَأَتَوَضَّأُ/ وسَـمَائِي لما تزل تَـتَـمَـرَّغُ.. فِي رَعْــشَـةِ أَمْــسِـي/ و.. فِي مِصْيَدَةِ الْعَبَثِ!/ أأَعْتَصِمُ بِلِقَاءِ الصُّدَفِ؟/ أَيَا سَطْوَةَ أُسْطُورَتِي/ بَــحْـــرِي بِـــيُــمْـــنَــاكِ مَـــوْشُـــومٌ بِــالْـهَـــذَيَـــانِ/ حَـــقَـــائِـــبُ الْـــهَـــجِـــيــــرِ؟ هَا جَسَدِي الْمَلْدُوغُ/ بِاللَّهَبِ يَكْتَنِزُنِي .. وَبِالْقَصَبِ يَلْكُزُنِي! أيا زئْـــبَــــقُ الْــــمَـــــسَـــافَـــاتِ/ لَــكِ هَــيَّــأْتُ .. قَــبَــائِــلَ ضَــيَــاعِــي/ أَلَعَلَّ قِيثَارَةَ الْبَنَفْسَجِ/ تَتَسَايَلُ شَذًى مَسْحُورًا؟/ أمَا زَالَ الْوَقْتُ مُبَكِّرًا عَلَى النَّوْمِ؟!
هكذا نراكِ، في كلّ مَقطعٍ تُناجينَ القصائدَ بقصيدةٍ، وبذكاءٍ مُحبّبٍ تردّينَ على العناوين؟ دَعِينِي أَحْلُمُ/ وَكَأَنَّنِي/ عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ الْمَطَرِ/ فَهَيِّئِي الْوَلَائِمَ لِنَوَافِيرِ الْحَلِيبِ/ كَيْ لَا تَجِفَّ يَنَابِيعِي! ص112. لكن سلاطين الحُلم لا تُريدُنا أن نحلمَ، طالما هيّأتْ لنا قبائلَ الضّياع، وتصدّعَتْ شيوخُ بوادينا، كعصفورٍ على أسمال طفولتِهِ يَرتجفُ. عزيزتي آمال عوّاد رضوان، يا أبجديّةَ المفاتيح، خبّئيني تحتَ قميصِكِ المُعطّر، فصدى صوْتِكِ المُقدّسِ لمّا يَزلْ في سِكَكِ المَظالِمِ يَتدرّجُ، وإنّي أُصَلّي، ما بينَ غضبٍ وغضبٍ، كما العصفورة مِن فننٍ إلى فننٍ، تُلهبُنا شِعرًا صوفيًّا مُثقَلًا بموْجِ العتب! نراها القدسُ وأُمّةُ العرب، وقبائلُ الزّيفِ وأحكامُ لهَب! هي خلاصةُ الخُلاصة مليكةَ الحرف آمال، نشْتَمُّنا مِن بين عِطرِ القصيدةِ وأنفاسِها. نعم عصيّةٌ على الفهم، لكنّها ليست مُستحيلة، فمَن رامَ العُلا ركبَ الموجَ الأعلى أو غاصَ، ليَنتقي الأجْوَدَ والأحلى. هكذا هي آمال عوّاد رضوان، ما بين إصدارٍ وإصدارٍ تُدهِشُنا بعُمقِها ودلالاتِها.مُداخلة فهيم أبو ركن: جماليّةُ الإهداءِ في “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِين”: لن أتطرّقَ في مداخلتي هذه إلى دلالاتِ العنوان المميّزِ، لأنّ العنوانَ يستحوذُ على اهتمامِ الدّارسينَ، وهو في الحقيقةِ يَستحقُّ ذلك، لتَميُّزِهِ وحداثةِ ابتكارِهِ وغرابتِه، وسأخصّصُ مُداخلتي وأُمحْورُها حولَ الإهداءِ الذي لا يَقلُّ إبداعًا وروْعة، ويُلفتُ الانتباهَ لأمورٍ عدّةٍ، سنأتي على بعضِها باختصار.
في ملاحظةٍ أولى أقولُ: إنّ معظمَ الشّعراءِ أو الأدباءِ يُخصّصونَ في كتبِهم الإبداعيّةِ صفحةً أولى، يُهدي كلُّ شاعرٍ أو أديبٍ نتاجَهُ الإبداعيَّ لمَن يَشاءُ، بعضُهم يُهديهِ لقضيّةٍ عامّةٍ، وآخرُ لموضوعٍ شخصيٍّ، وكثيرًا ما يتّصلُ الإهداءُ بشكلٍ مباشرٍ أو غيرِ مباشرٍ بفحوى الكتاب، أو بشخصيّةِ الكاتب. لكن كثيرًا مِنَ الإهداءاتِ تأتي مُنفصلةً عن الكتاب، فتشعرُ أنّها جاءتْ نشازًا شاذّة، أو أنّها قُطفتْ فجّةً جافّة، أو أنّها رُكّبتْ مُصطنَعةً تفتقرُ إلى المصداقيّة، وأحيانًا تكونُ مُغرقةً في أمورٍ شخصيّة، لا تعني القارئَ مِن قريب أو بعيد.
في ديوان “أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين” إهداءٌ مِن نوعٍ آخر، إهداءٌ مُوحٍ لا تستطيعُ فصلَهُ عن مضمونِ الدّيوان، وتشعرُ بأنّهُ جزءٌ لا يتجزأ مِن الديوان، يُمهّدُ له، يتماهى معهُ، ويُكملُهُ ويتمُّ به. إهداءٌ مميّزٌ بجَماليّتِهِ، بأسلوبِهِ وبدلالاتِهِ الخاصة. المفارقةُ الجميلةُ أنّ جميعَ قصائدِ الديوانِ جاءتْ بلغةِ المُذكّرِ الّذي يُخاطبُ حبيبتَهُ، إلّا الإهداء فقد جاءَ بلغةِ الأنثى التي تُخاطبُ حبيبَها، وكأنّها تُقدّمُ له الفرصة، وتُمهّدُ لهُ الطّريقَ، وتضعُ أمامَهُ إمكانيّةَ البوْحِ، ليَكشفَ لها عن مكنوناتِ نفسِهِ، فنسمَعُها تُنادي في البداية قائلة: أيا عَروسَ شِعري الأخرسَ! فمَنْ هو الأخرس؟ شِعرُها أم العروس؟ وهل كانَ يجبُ أن تقولَ: “أيا عروسَ شِعري الخرساء؟ هنا لا مجالَ للخطأ، فالعارفُ لغويًّا يعلمُ أنّ كلمة “عروس” وإنْ كانتْ تُستعملُ للأنثى في العامّيّة، إلّا أنّها في اللغة الفصيحةِ تُستعمَلُ للمذكّر والمؤنث، ولمَن شكّ للحظةٍ في ذلك، سرعانَ ما تُؤكّدُ الشّاعرةُ تُوجّهُها قائلة: أَيَا عَرُوسَ شِعْرِي الْأَخْرَس!/ إِلَيْكَ/ مُهْرَةَ بَوْحِي فَتِيَّةً!
إنّ التّركيبةَ البُنيويّةَ لهذهِ الجُملةِ الشّاعريّةِ مُوفّقةٌ وجميلة، صورةٌ فيها إيحاءٌ شاملٌ وموسيقا داخليّة، ووقعٌ ودلالاتٌ واسعةُ المساحةِ وكبيرةُ الحجم، فتقدّمُ الإهداءَ لحبيبها “مهرَةَ بوْحِها فَتِيَّةً، بفَوانيسِ صَفائِها”، وتَطلبُ منهُ أنْ يُحلّقَ ببياضِها، والبياضُ كما هو معروفٌ رمزُ الطهارةِ والعِفّةِ، البراءة والنقاء. وما يزيدُ من تأكيدِ دلالةِ الطّهارةِ والنقاءِ أنّها تقولُ مُتابعة: “حَلِّقْ صَوْبَ ذَاكِرَةٍ عَذْرَاءَ”! وهل أطهرُ وأنقى مِن العذراءِ رمزًا دينيًّا ودلالةً جسديّة؟ وتُواصِلُ: “وتَطَهَّرْ بِنَارِ الْحُبِّ وَنُورِ الْحَيَاةِ”. إذن؛ الشّاعرةُ تُشبّهُ حبيبَها الّذي تُخاطبُهُ وتُقدّمُ لهُ الإهداءَ بالمعدنِ الثّمينِ، كالذّهبِ الّذي تُطهّرُهُ النّارُ وتزيدُهُ نقاءً ولمعانا.
إهداءٌ جميلٌ مُوفّقٌ ومُحكَمٌ، لأنّهُ مُتكاملٌ لا تستطيعُ أن تستغني عن أيّة كلمةٍ فيهِ، وقد أدّى مهمّتَهُ على أحسنِ وجه. عدا عن الإهداء، أودُّ الإشارةَ إلى أنّ الدّيوان يَغُصُّ بالتعابيرِ الشّاعريّةِ المُبتكرَةِ، والانزياحاتِ المُعبّرةِ الّتي استخدمتْها الشاعرةُ بنجاح، مُستعملةً تقنيّةً عاليةً في الاستفادةِ مِن المُحسّناتِ البديعيّةِ، مِن طباقٍ ومقابلةٍ وجناس، وعلى سبيل المثال لا الحصر أسمعها تقول:
*”أسْرَجَ عَيْنَ فرَسِي هَوًى/ وَهَوَى!”.
*“يُغْمِضُ خَطِيئَةَ مَلَاكِي/ عَلَى سَلَامِ إلْهَامِي.. وَمَا أَلْهَانِي!” .
*”وَمَضَى/ مضى بعُمْرِي يَتَلَهَّى/ يَتَلَبَّسُ حُمَّى عِطْرِي.. يَتَلَمَّسُ ظِلَّ هَذَيَانِي!”
*”أَحُرَّاسُكِ شُدُدُ؟/ أَتَحْرُسِينَكِ مِنِّي.. أَمْ تَحْرُسِينَنِي مِنْكِ؟”
“*رُحْمَاكِ/ بِأَبْجَدِيَّةِ عِشْقِكِ الْحَيِّ/ أَضِيئِي.. أَوْتَارِيَ الْــ يُوَسْوِسُهَا السُّوسُ!”
*حتى في عناوين القصائدِ نجدُ بعضًا منها، مثل: “مَــا مَــآلِــي إِلَّاكِ آمَــالِــي“.
ديوانٌ هامٌّ مثيرٌ وجديرٌ بالدراسةِ مِن عدّةِ نواحٍ، لأنّهُ يَطرحُ قضايا يجبُ بحثها ودراستها مِن ناحيةٍ تعبيريّةٍ، بُنيويّةٍ، نحويّةٍ وصرْفيّة وأخرى، لأنّ الشّاعرة استطاعتْ ترويضَ بعضِ الأفعالِ اللّازمة لتجعلَها مُتعدّيةً، كما أدخلتْ ألـ التّعريفِ على الفعل، وهذه القضيّةُ أثارتْ نقاشًا في حينِهِ، عندما استُعمِلتْ في أواخرِ القرن الماضي. إذن، يمكنُ التّحدّث عن هذا الديوان ساعاتٍ وساعاتٍ. أتمنّى للمحتفى بها آمال عوّاد رضوان؛ عروس هذه الأمسية المَزيدَ من التألّق والإبداع المميّز.
مداخلة حسن عبّادي: حلمُنا في نادي حيفا الثقافيّ، أن تكونَ أمسياتُ الإشهارِ مُرفقةً بمنصّةٍ نقديّةٍ مهنيّةٍ، ونحن فخورون بتحقيقِ هذا الحلم مع آمال في هذه الأمسيةِ المميّزةِ، بحضورِ المُتكلّمين الأفاضل من نقّاد وأدباء وكتاب وشعراء وليس مجرّد “سحّيجة”. بمنظارِ القارئِ العاديِ وانطباعاتِه أنا، أُمثّلُ القارئَ الذي أُعجِبَ بالدّيوانِ (أُدَمْوِزُكِ وتتعشترين) مِن أوّل قراءةٍ حالَ إصدارِهِ وبشغفٍ، واتصلتُ بزميلي المحامي فؤاد نقارة، وأخبرتُهُ بأن الديوانَ جديرٌ بأمسيةٍ غير اعتياديّةٍ تليقُ بالديوانِ وبالشّاعرة آمال، وكانت قراءةٌ ثانية شدّتني وشوّقتني لطريقةِ عرضِها وموْضوعِها، حين رأيت الدعوة للأمسية ليلة سفري في رحلة عائليّة، دُهشتُ لهذا الكمّ من مداخلاتِ الأفاضلِ المُشاركين بهذهِ الأمسية، وأنّهُ كانت هناكَ محاولاتٌ لكتّابٍ ونقّاد أُخَر للحديث، فزادَ فضولي وتساءلت: هل هذه الزحمة بسبب الديوان الشعريّ “أدموزك وتتعشترين”، أم بسبب صاحبته “آمال عوّاد رضوان”؟ لهذا اصطحبت الديوانَ معي لأقرأه مرّة أخرى مع ليالي الأنس في فيينا.
كي تكونَ أديبًا وكاتبًا في يومنا هذا، عليك أن تكون مثقّفًا، ولأن تكون مثقّفًا عليك أن تكون قارئًا ثمّ قارئًا ثمّ قارئًا، وآمال عوّاد رضوان نِعمَ المُثقّفة، أخذتني معها بسلاسةٍ ولباقةٍ ودونَ تكلّف إلى ملحمةٍ شعريّةٍ عشقيّةٍ، إلى عالمِها العِشقيِّ الصّوفيِّ والأسطوريّ، عبرَ جلجامش والسومريّين والبابليّين وزوربا والأسطورة الإغريقيّة.
آمال عوّاد رضوان نصيرةُ المرأة، شاعرةٌ مُتمرّدةٌ على العاداتِ والتقاليدِ، تحدّت التابوهات المُتوارثة/ جريئةٌ تطرّقتْ لإغواءِ الجسدِ ومعرفةِ الإنسان بهِ وبالآخر، لتُدَوّنَ ملحمةً عشقيّةً. روّضَت الأسلوبَ النثريَّ في القصيدةِ والموسيقا الداخليّة، وتقمّصَتْ شخصيّةَ الرّجلِ في خطابِهِ، لتصِفَ المرأةَ كإنسانةٍ حبيبةٍ معشوقةٍ عاشقةٍ، والرجلُ يُبجّلُ مَحاسنَ عشتار ومفاتنَها، يُعاتبُها ويترجّاها، يتمنّاها ويشتاقها شوقًا عارمًا، وكلُّهُ رغبة في الاتّحاد الرّوحانيّ والجسديّ معًا، مُستعملةً لغةً روحيّةً معنويّةً، مبتعِدةً عن الوصفِ الحسّيِّ وعن الحُبِّ الجسديّ، مُركّزةً على العلاقةِ الرّوحيّةِ لتبنيَ علاقةً متكاملةَ، تصِلُ قدسيّةَ العلاقةِ التشاركيّةِ حدَّ العبادةِ، بلغةٍ متأثرةٍ بالأساطيرِ والأديانِ السماويّةِ وطاغيةٍ، فتحلّقُ بصوفيّتِها عاليًا، لتزيدَها روْنقًا وجَمالًا.
مداخلة رشدي الماضي/ حين يَحمِلُ الأمَلُ الاسمَ آمــــــال: قصيدةٌ مهداةٌ إلى الشاعرة آمال عوّاد رضوان: أَيُّ القَواريرِ مِثلَكِ.. أَيْقُونَةً لِلشِّعْرِ/ تُمْطِرُ/ بَيْنَ حُروفِ اسْمِكِ عَسَلا/ يَسْتَضيءُ بِبَهاءٍ إلهِيٍ كَلِيم!/ ثَمَّةَ رِياحٌ وَانْزِياح/ يُسَافِرُ بِكِ مَجَازًا/ يُوقِظُ/ في مُقلتَيَّ الصَّباح../ دَعِيني/ أرْفَعُ حِجَابَ الكِتابِ وَأَنْهَمِرُ/ على عَطشِ العُمْرِ/ دَفقًا طويلا/ لمْ يَعُدْ لِلوقتِ وَقتٌ/ أَسْتَريحُ فيهِ وَأنْتَظِرُ/ لا عُمْرَ آخَرَ لي لِأَسْنِدَني/ إلى بَسْمَتِكِ البَريئةِ كَالفراشة/ فتأتي نحوَ قلبي شمسًا لهُ/ شمسًا لهُ وَوشاحا/ أأبقى وحيدًا في الظّلام/ أَلُمُّ أَيّامِيَ ذِكرى/ تَحُكُّ تحتَ الجُرحِ مِلحا/ وتَحتَ الجُرْحِ سُنبلة/ ترتجي كلَّ يومٍ/ ترتجي أرْضًا وعُمْرا..!
مُلهِمَتي.. “شيْطانَتي مِنْ عَبْقَر”/ ماذا أرى؟/ لا اسْمَ فوْقَ اسْمِكِ/ يَحمِلُ الأمَلَ- آمَالًا- تَحُطُّ/ على صَهْوَةِ الغيْمِ.. شُعَاعا/ يَهُشُّ بعَصًا لهُ أتْراحَنا/ يُبَشِّرُ بفرَحٍ عَظيم/ يَنْهَرُ “عادًا وثَمود”/ ويَقتلِعُ المَساميرَ خطايا/ تَحجُبُ قُرآنًا وإنْجيلًا عَليم../ غَزالتي/ أيْقونَتي!!/ كلُّ كلامِكِ بئرٌ وَنَهْرُ/ وَمَعابِرُ إلى عُمْقٍ مُضاء/ حَلِّقي فوْقَ حيفا/ كنيسَةً وَمِئذنة/ واسْقِني ذَيّاكَ النِّداء:/ تَعالَ.. تعالَ اصْعَدْ إليَّ/ لِيُصبحَ فرْقٌ ما بينَ الإقامةِ والرحيل/ وتكونَ الدّيارُ هيَ الدّيار/ تَألفُكَ معنًى وقصيدة/ يُشرِقُ فيها الصّليبُ/ قيامةً.. لِعوْدتِكَ الجَديدة..
آمال!!/ بكِ تَستجيرُ البلادُ وَتستضِيء/ تَستردُّ ما فقدَتْهُ فينا وَتستعيد/ حُلمًا.. يَكتبُ على “لهبِ القصيد/ جاءَنا اليوْمَ فتحٌ.. يَحملُ النّصرَ، يَحملُ النّصرَ.. نصرًا أكيدْ.