كنتُ قد إلتقيتُه في مدينة إيلات، قبل سنوات قليلة، في إطار رحلةٍ لمتقاعدي وزارة المعارف، ثم عدتُ لألتقيه قبل بضعة أيام في مناسبة إجتماعية جماهيرية في حيفا. عندما رأيتُه يتقدم نحوي، لم تخفَ عليّ ملامحُه، رغم بعض ترهّله ولمعانِ صلعته وبياض شاربيه. إنه ابراهيم “الغَلباوي” كما كنتُ ألـقّـبُه مداعبةً واستظرافا وتحبّبا إبان فترة دراسته في الكلية العربية للتربية(دار المعلمين العرب آنذاك) في حيفا، في النصف الثاني من الستينات، اي قبل نحو خمسين سنة. هذا اللقب اكتسبَه ابراهيم مني، بجدارة واستحقاق. البداية كانت في إحدى حصص تدريس العلوم. كنتُ احاضر عن اهمية استعمال المصطلحات العلمية العربية الدقيقة في مدارسنا العربية الابتدائية. وبينما كنتُ اكتبُ على اللوح الجملة التالية: “حيوانٌ آكِلُ نبات يُسمّى حيوانٌ عاشِب”، فإذ بي اسمعُه يردّد خلفي بصوتٍ مسموع: “حيوانٌ آكلُ بنات يُسمّى حيوانٌ عاشِق”. أحببتُ سرعة خاطره وخفة دمه وحضورَ نكتته. لم أرد أن أخفي مشاعري، فضحكتُ مع الطلاب بصوت عالٍ.
نعم هذا هو ابراهيم “الغلباوي”، وها هو الان يقف أمامي ويعانقُني ويسلّم عليّ بحرارة. لكنّه ما لبث أن قال لي مبتسما : “أنا عتبان عليك”. لم يمهلني لأن أسأله لماذا، بل إستمر قائلا: ” أنا عاتب عليك، لأنك في مقالك الاخير(بعنوان: خوري ومسلمٌ وقرآنٌ كريم) نشرتَ قصةَ غيري ولم تنشر قصتي عن “الدجاجة المتديّنة”. فهل نسيتَها؟. اجبتُه ضاحكا، عتبُكَ يا عزيزي يذكّرُني بتلك الزوجة “الدلوعة” التي أهدت زوجَها في عيد ميلاده، ربطتي عنق. تناول زوجُها الربطتين مبديا إعجابَه بهما وشاكرا إيّاها على ذوقها الرفيع. لكن عندما قام بربط إحدى الربطتين حول عنقه، انفجرت الزوجةُ بالبكاء قائلة له: “شو الربطة الثانية مش مِعْجبْتك؟”.
فهم ابراهيم الرمز فقال لي ضاحكا، ، “يعني بدّك تنشرها؟”. أجبته “نعم”. وها أنا الان أفي بوعدي:
كانت مدرسة الرامة الابتدائية في اواخر الستينات مركزا لتدريب عدد من طلاب دار المعلمين العرب، في فترة التطبيقات العملية. وصلتُ الى هناك في اطار مهمتي كمرشدٍ تربويٍّ آنذاك. بعد إستعراض الحصص المُتاحة واسماء طلاب دار المعلمين الذين لم يتمّ ارشادهم بعد، استحسنتُ زيارةَ ابراهيم (الغلباوي) بالذات، في حصة دينٍ مسيحي. إرتبكَ ابراهيم قليلا عندما رأني أدخل الى غرفة الصف، لكنّه عاد فتمالك نفسَه من جديد، متابعا أداء درسه بصورةٍ مُرْضيةٍ تنمُّ عن ثقة بالنفس ما لبثت أن تحولت إلى إنفعالٍ جعلَهُ يقول بصوت مرتفع وبلهجة خطابية تُحاكي وعظة الاحد “حتى الدجاجة عندما تشرب ترفعُ رأسَها لتشكر الله”.
قرع الجرسُ معلنا إنتهاءَ الحصة. كان ابراهيم بطبيعة الحال متعطّشا لسماع رأيي بدرسه أو لربما الاصح، لمعرفة العلامة. قلتُ له مبتسما، ان درسَه توفرت فيه معظمُ المقومات المطلوبة ، باستثناء إعتدائه الصارخ على الدجاجة وإهانتها والطعنِ بتقواها وإتهامها أنها تشكر ربَّها فقط عندما تشرب، وكأنها تتصرف كربّان سفينةٍ لا يصلّي إلا وقت العاصفة…..
أدركَ ابراهيم ان تلك المقولة عن الدجاجة تنطوي على خطأ كبير، فسألني: ” إذن لماذا ترفع الدجاجة رأسها عندما تشرب؟”. فاجبتُه قائلا: “هذا هو تماما السؤال ، الذي اريدك ان تجيبني عليه خطيا وبصورة مقنعة علميا، لدى عودتك الى دار المعلمين”.
تردّد ابراهيم قليلا، ثم ما لبث أن قال لي حائرا: “لكنّ هذه المقولة متعارف عليها ومتداولة على مستوى الجمهور الواسع، أليس كذلك؟!”. فاجبتُه قائلا: وهل مجرد توظيف اسم الله لتفسير ظاهرة معينة، يُكسبُ التفسيرَ مصداقية؟ وهل تعبير “يشْهد الله” وقَسَمُ “وحياة الله” يجعل كذبَنا صدقا؟ وهل حجة “بسترها الله” و “الحامي الله” تعفينا من إضافة “قليلا من القطران الى صلاتنا” وتحررنا من حكمة “إعقل وتوكّل”، وهل مقولة “إن شاء الله” تكشفُ دائما حقيقةَ مشاعرِنا وجدّية َ وعودِنا وتحدّدُ منسوبَ صدقِنا وصراحتنا؟ إنْ شـــــاء اللـــــه……