لا نريد أن نبدو كمن ينكر على ذوي المستوطنين المفقودين المشاعر والعواطف الإنسانية، التي يفترض أن تكون غريزية لا تخضع للتفكير العقلي أو أجندات سياسية وأيديولوجية أو كل أشكال توظيف الفقد لغايات غير استرجاع أعزائهم أحياء؛ لكن ما نشاهده من حالة شديدة التنكر للعواطف الإنسانية، حالة تغيب عنها مفردات القلق والخوف والمناشدات وتستبدل بمهرجانات احتفالية وابتسامات، حتى ان والدة جلعاد شاعر اهتمت أن تنظم حفلة عيد ميلاد لاحد الجنود الموكل إليه تأمين محيط منزلها، ومن جهة أخرى يستحضرون خطاب التحريض والكراهية ضد كل ما هو فلسطيني، ويحثون الحكومة والجيش على الانتقام من الفلسطينيين وإرجاع أبنائهم بالقوة.
في واقع الأمر؛ كنا نتوقع ان تخرج العائلات الثلاثة، أو على الأقل واحدة منها، بنداء ومناشدة للآسرين، أو أن تنتقد سياسة الحكومة التصعيدية وتطالبها بخطاب يحمل رسائل مفتوحة ويبقي على الخيارات بما فيها خيار التفاوض، وهذا ما يمكن توقعه من أم طبيعية تحمل مشاعر الأمومة لعزيزها الفقيد، بغض النظر عن السياسات والايديولوجيات، وهنا نستحضر عائلة شاليط ورسائلها للآسرين وضغوطها على نتنياهو، وانتقادهم لكل عدوان على غزة خشية المس بحياة الجندي الأسير، وبالمقارنة نجد أن أمهات المستوطنين الثلاثة وآباؤهم لسوا كأي أمهات أو آباء، وليسوا بشراً كباقي البشر، يضحون بفرح بأبنائهم على مذبح الاستيطان والقتل والعدوان، وضغوطهم على الحكومة والجيش هي باتجاه واحد، المزيد من الانتقام والعدوان وتعويض المستوطنين.
استيطان القلوب
فقدان المستوطنين والاعلان عن مسؤولية أحد محرري صفقة شاليط عن مقتل ضابط الاستخبارات، شكل ريح إسناد قوية لليمين وللوبي المستوطنين على وجه الخصوص، وقد سارعوا لالتقاط الفرصة وتوظيفها، فعلى عجل وبإتقان شكلوا اللجان والهياكل التنظيمية وصاغوا البيانات السياسية، في حملة داخلية لاستيطان قلوب الإسرائيليين، ففضلاً عن حالة انفلات خطاب التحريض والكراهية والضغط باتجاه التصعيد السياسي؛ تجري الآن عملية محمومة لاستيطان قلوب وعقول الاسرائيليين بعد ان استوطنوا الأحزاب وسيطروا على الحكومة، فبالتوازي مع حملة “إعادة الإخوة” في الضفة؛ تنظم في الداخل حملة شعبوية واسعة للتضامن مع الإخوة ومناصرة الاستيطان وسياسات التغول وتعمق الاجماع الاسرائيلي على الاستيطان وتعزز أحزابهم في اطارها تتم التصفية المركزة لأي صوت ينطوي على أي انتقاد مهما كان هامشياً، مثلما حدث مع أحد الناطقين باسم الجيش الذي انتقد استهتار واستخفاف المستوطنين بالتعليمات الأمنية، فأحدث ردة فعل غاضبة عليه اضطرت الجيش الى إقالته على الفور وتحويلة للجنة تأديب.
حمى اليمين تنتشر في إسرائيل هذه الأيام كفيروس سريع العدوي والانتشار، في بيئة خصبة بدون أدني مقاومة، يستغلها السياسيون والاعلاميون، يغذونها ويتغذون عليها، وأصوات الاعتدال في أحسن الأحوال تظهر خائفة مترددة ومنافقة ومتزلفة في معظم الوقت.
نتنياهو يستسلم للمستوطنين
نتنياهو الذي كان في الأسابيع التي سبقت اختفاء المستوطنين يحاول أن يظهر بمظهر الراشد المتوازن داخل حزبه وداخل الحكومة، وانتهج الحذر السياسي خشية منه على سلامة حكومته، وخوفاً من الانزلاق نحو المزيد من التصعيد؛ يفقد اليوم هامش المناورة بين جناحي حكومته، فالحكومة نفسها أصبحت جناحاً واحداً بقيادة بينيت، وتحول لبيد وليفني للعمل كناطقين باسم المستوطنين، سواء اختياراً أو اضطراراً، ولا سيما في ظل الفشل الأمني وعجز الجيش والحكومة عن إحراز أي تقدم أو نجاح جدي، فإن نتنياهو وحكومته مضطرون أكثر من أي وقت مضى لتقديم اعترافات وشهادات الطاعة والولاء للمستوطنين عبر حالة من الانفلات التصعيدي في السياسات والقوانين والبطش والعدوان، والمرشحة لأن تستمر على شكل حملات وموجات.
على الرغم من أن الاعلاميين والناطقين باسم الجيش أفادوا بأن الحملة الأمنية الواسعة استنفدت بنك أهدافها، وأن أعمال البحث ستتحول في الأيام القريبة القادمة الى الجانب الأمني الاستخباراتي؛ إلا أن مسلسل العقوبات الجماعية والتضييق والحصار وأعمال الانتقام ستستمر، ولو بهدف نيل رضى المستوطنين، وهؤلاء يدركون أنها فرصتهم المثلى الآن لابتزاز حكومتهم، وتحقيق أكبر المكاسب على كافة الصعد، ونتنياهو يدرك في قرارة نفسه أن لا خيار له سوى الاستسلام لرغباتهم، فهو لا يجرؤ على تحديهم، حتى لو أراد ورغب في ذلك.
جيش الاحتلال ينغمس الآن بكليته في مهمة بأهداف متعددة، في مقدمتها على الأقل علناً البحث عن المستوطنين، وفي إطارها تجري عملية أوسع منها الانتقام أو لتحقيق أهداف أمنية وسياسية، وفي نفس الوقت يبقي عينه مفتوحة على الجبهات الأخرى، ويرفع جاهزية استعداداته لأي طارئ، حيث وصف الناطق باسم الجيش بأن جيشه مستنفر على ثلاث جبهات، الضفة وغزة والجولان.
بيد أن عمليته العنيفة في الضفة ستنتهي قريباً نظراً لهشاشة وحساسية الواقع السياسي في الضفة، وسيضطر الجيش لسحب عديد قواته من مدن الضفة مع شعورة بمرار الفشل ورغبة متزايدة بالانتقام، هذا الشعور يتقاسمه سوية مع المستوى السياسي الذي يريد المزيد من الانتقام ومضطر له، لكنه في ذات الوقت يخشى انزلاق الأمور باتجاه تدهور سريع لا رجعة عنه، في ظل حساسية وتعقيدات الأمور والحالة السياسية في الضفة، الأمر الذي قد لا يترك لهم خياراً سوى تفريغ حقدهم وانتقامه في مكان آخر، ربما في غزة؛ لا سيما إذا ما منحناهم المبررات والمسوغات في استجلاب العدوان واستعجاله