رجاء النقاش

rajaa_nakash-47ad515fee2cc.jpg

رجاء النقاش في سطور:

ولد محمد رجاء عبد المؤمن النقاش في سبتمبر أيلول 1934 بمحافظة الدقهلية بشمال مصر وتخرج في قسم اللغة العربية بكلية الاداب بجامعة القاهرة 1956 وقبل تخرجه اتجه الى النقد الادبي وعرف بدراساته التي كان تنشر آنذاك في مجلة (الآداب) البيروتية.

وبدأ النقاش رحلتة مع الصحافة في مجلة روز اليوسف عام 1959 ثم تولى بين عامي 1969 و1971 رئاسة تحرير مجلة (الهلال) وهي من أهم وأقدم
المجلات الثقافية العربية.

انتقل عام 1971 ليعملَ رئيساً لتحرير مجلة (الاذاعة والتلفزيون) وجعل منها مطبوعة ذات توجه ثقافي حيث نشر رواية (المرايا) لنجيب محفوظ مسلسلة
قبل صدورها في كتاب.

 

وتوجه إلى قَطَر كمدير لتحرير صحيفة (الراية) ثم تولى رئاسة تحرير مجلة (الدوحة) منذ تأسيسها عام 1981 حتى إغلاقها عام 1986. وعاد النقاش
 الى مصر كاتباً بمجلة “المصور” في نهاية ثمانينات القرن الماضي ثم تولى رئاسة تحرير مجلة (الكواكب) في التسعينات وفي السنوات الاخيرة أصبح كاتباً متف
رغاً بصحيفة
 الاهرام.

من كتبه النقدية (ثلاثون عاماً مع الشعر والشعراء) و/أبو القاسم الشابي.. شاعر الحب والثورة/ و/عباقرة ومجانين/ و/نساء شكسبير/ و/عباس العقاد
بين اليمين واليسار/ و/قصة روايتين/ وهو دراسة نقدية فكرية مقارنة لروايتي
 (ذاكرة الجسد) للجزائرية أحلام مستغانمي و/وليمة لاعشاب البحر/
للسوري حيدر
 حيدر.

وبرز النقاش منذ كان في مطلع العشرينيات ناقدا يعبر من خلاله الادباء العرب الى الحياة الادبية وقدم عددا من أبرز المبدعين الذين يكبره بعضهم سنا
ومنهم الروائي السوداني الطيب صالح الذي أعاد النقاش اكتشاف روايته
 الشهيرة (موسم الهجرة الى الشمال) والشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي
الذي كتب
 له مقدمة ديوانه الاول (مدينة بلا قلب).

ورجاء النقاش يُعتبر من أهم النقاد العرب الذينَ عرَّفوا العالم العربي بالأدب الفلسطيني، وخاصة أشعار محمود درويش وسميح القاسم، ودافعَ عن هذا
الأدب بشراسة في الوقت الذي حاول البعض التكّر لهذا الأدب والتقليل من شأنه. وأطلق على ابنه اسم “سميح” تيمُّناً بصديقه الشاعر سميح القاسم.

ونال النقاش جائزة الدولة التقديرية بمصر عام 2000.

وكرم النقاش في يناير كانون الاول 2007 في حفل بنقابة الصحفيين بالقاهرة حيث نال درع النقابة ودرع مؤسسة (دار الهلال) ودرع حزب التجمع.

وينتمي النقاش الى أسرة ضمت مثقفين بارزين فكان أخوه الراحل وحيد النقاش مترجماً وناقداً وأخوه فكري النقاش مؤلفاً مسرحياً وتولت أخته الناقدة
فريدة النقاش رئاسة تحرير مجلة (أدب ونقد) لنحو عشرين عاماً ثم أصبحت منذ
 نهاية 2006 رئيسة تحرير صحيفة (الأهالي) لسان حال حزب
التجمع اليساري.

غيّبَ الموت رجاء النقاش يوم الجمعة 8.2.2008 بعدَ صراع مع مرض السرطان، وبهذا تكون الساحة الأدبية العربية قد خسرت ناقداً من أهم النقاد
ومثقفاً واعياً من الدرجة الأولى.

76.jpg

وفي هذا المقال الذي كتبه جابر عصفور بعد رحيل النقاش، يقف الكاتب على أهم المحطات والمميزات لأدب النقاش.

وداعاً رجاء النقاش

بقلم: جابر عصفور

صحيفة الحياة اللندنية – 13.2.2008

ها هو رجاء النقاش يرحل عنا بعد أن أوجع قلوبنا بمرضه الطويل الذي ظل يسرقه، شيئاً فشيئاً، من محبيه، إلى أن قرر الموت أن يسرقه منا، تاركاً في
نفوسنا ألم
 الفقد، ومرارة الحزن، والشعور القاهر بالخسارة، خصوصاً في زمن لا يزال في حاجة إلى أمثال رجاء النقاش، يملأون الحياة الثقافية من حولهم،
بالحيوية الدافقة والاستنارة
 التي تتسع بعقول القراء وتمتد إلى ما لا نهاية برحابة أفق الثقافة التي تظل في حاجة إلى العقول التي تقود وتضيء وتشع بقيم
الحق والخير والجمال في كل مكان حلّت أو تحل
 فيه، فرجاء النقاش آخر الوارثين لجيل الموسوعيين العظام من أبناء ثورة 1919، جيل طه حسين والعقاد
والمازني وبعدهما يحيي حقي وبقية النجوم الوضاءة التي لا تزال الثقافة
 العربية مدينة لها بغرس وتعميق معنى الجامعة، والنظرة الشاملة التي تتعدد أدوارها الثقافية
في المجتمع الذي تسعى للانتقال به من وهاد الضرورة إلى أعلى آفاق الحرية
 ولذلك كان رجاء النقاش دارساً وصحافياً ومحرراً أدبياً ورئيس تحرير
لمجلات عدة،
 أحدث في كل منها ما دفعها إلى المزيد من الإنجاز والتقدم والاستشراف الطموحللمستقبل الخلاق الذي تدين له به مجلات رأس تحريرها، مثل
مجلة «الكواكب» التي رأس
 تحريرها ما بين عام 1965و1996، ومجلة «الهلال» (1969-1971) و «الإذاعة والتليفزيون» (1971-1972) وأضف
إلى ذلك كله دور المحرر الأدبي الذي يؤديه رجاء بعد تخرجه في قسم
 اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عام 1956، مزاملاً الأعلام الذين تخرجو
ا معه أو قبله أو بعده، بسنوات قليلة، من أبناء الجيل الذي يضم صلاح
 عبدالصبور، وعز الدين إسماعيل، وعبدالغفار مكاوي، وعبدالرحمن فهمي،
وفاروق خورشيد،
 وأحمد كمال زكي وهو جيل نضج وعيه في ظل الأفكار القومية التي أشاعها أمثال ساطع الحصري وتبناها البعث ثم الناصرية بعدها
وهي أفكار لم تكن تحول بين التوجه القومي
 واليسار في دائرة اللقاء التي كان أساسها الإيمان بالعدل الاجتماعي والعداءللاستعمار الذي كان حارساً
للرأسمالية القائمة على الاستغلال وقد ظل رجاء محافظاً
 على فكره القومي، منتسباً إليه، مؤمناً به في كل الأحوال، لا يتحول عنه مهما كانت التغيرات
العاصفة التي ناوشت وهددت مسار الفكر القومي ولا أزال أذكر مقالاته في
 ذلك، خصوصاً تلك التي جمعها في كتابه «الانعزاليون في مصر» الذي كتبه
رداً على دعاة
 انفصال مصر عن محيطها العربي ولذلك كان رجاء النقاش متأثراً على نحو خاص بأستاذنا عبدالعزيز الأهواني الذي كان أبرز القوميين بين
أساتذة قسم اللغة العربية الذي تخرج
 فيه رجاء النقاش ولكن كانت سهير القلماوي الأستاذة الأكثر تأثيراً في وعي رجاء النقاش، أولاً لاقترابه من
الأدب الحديث، ووقوفه في صف التجديد في هذا الأدب،
 وضرورة انفتاحه على آداب العالم، ودراسته من هذا المنظور وكانت سهير القلماوي، التلميذة
الأقرب إلى طه حسين، نصير الجديد دائماً، هي النموذج الذي يجسد هذا المنزع
 أكثر من غيره في قسم اللغة العربية، وكان ذلك في زمن أمين الخولي الذي
تحلّق حوله
 شكري عياد وفاروق خورشيد وغيرهما من أعضاء «الجمعية الأدبية المصرية» ومؤسسيها في ما بعد وكان رجاء النقاش أقرب إلى صلاح
عبدالصبور الذي تخرج قبله في المنزع الحداثي
 نفسه ولذلك لم يكن من المصادفة أن يقوم كلاهما بتسجيل عنوان أطروحة ماجستير، تحت إشرافها في
قضايا التجديد الأدبي عموماً، والشعر خصوصاً، ولكن للأسف حال انشغالهما
 بالصحافة، والغرق في دواماتها من دون الانتهاء من أطروحتي الماجستير
اللتين حلما
 معاً بإعدادهما.

ولقد تخرجت في القسم نفسه الذي تخرج فيه كلاهما، وبعد تسع سنوات من تخرج رجاء على وجه التحديد وابتدأت معرفتي له بقراءة ما يكتب في
«أخبار اليوم» ما بين 1961
 و1964 وكانت البداية أن أستاذتنا جميعاً، سهير القلماوي، قرأت معنا في إحدى محاضرات «النقد التطبيقي» إحدى
قصائد أحمد عبدالمعطي حجازي من ديوانه الأول «مدينة بلا قلب»
 وكان الديوان قد صدر منذ سنوات معدودة وكان تدريس سهير القلماوي، وقد كانت
ملء سمع
 النقد الأدبي وبصره في تلك الأيام، حدثاً ترك أعمق الأثر في نفوسنا، وفي تذوقنا للشعر الجديد الذي بدأنا ننحاز إليه بفضلها وكانت النتيجة
أننا اشترينا الديوان
 الذي صدر عام 1959 مع دراسة بالغة الأهمية كتبها رجاء النقاش الذي كانت دراسته خير مقدمة لشعر أحمد عبدالمعطي حجازي،
وخير مدخل إلى الشعر الحر عموماً وسرعان ما
 اكتشفنا أن كاتب هذه المقدمة هو رجاء النقاش الشاب الذي تخرج قبلنا بتسع سنوات، عام 1956 على
وجه التحديد.

ولا أزال أعتقد، إلى اليوم، أن هذه الدراسة الاستهلالية لديوان حجازي كانت، ولا تزال، إحدى وثيقتين رائدتين في مجال تبرير الشعر الحر وتحليله.
أما المقدمة
 الثانية، فقد كتبها بدر الديب لديوان صلاح عبدالصبور الأول «الناس في بلادي» الذي صدر عن «دار الآداب» البيروتية في مطلع 1957،
قبل صدور ديوان حجازي بعامين ويعني
 ذلك أنني قرأت ديوان صلاح عبدالصبور الأول بعد أن قرأت حجازي الذي أكملت ديوانه الأول بعد أن قرأت
دراسة رجاء قراءة الطالب الذي يريد أن يفهم ويتعلم وينحاز إلى
 قضية الشعر الحر التي أصبحت أهم قضايا التجديد الأدبي لأبناء جيلي.

وقد كانت الدراسة التمهيدية التي كتبها رجاء لديوان حجازي هي البداية التي دفعتني إلى السعي وراء قراءة ما يكتبه في النقد الأدبي وكانت البداية
في جريدة
 «أخبار اليوم»، التي كان يكتب لها مقالاً أسبوعياً في النقد الأدبي وكان، أيامها، منغمساً، قبل السنة السابقة على تخرجي بكتابه «مقالات عن
العالم الروائي عند نجيب
 محفوظ» الذي كان قد استقر على عرش الرواية العربية من دون منازع، وانهالت عليه مقالات يحيى حقي ورمسيس عوض
وعبدالقادر القط وسهير القلماوي وأحمد عباس صالح ومحمد
 مندور وغيرهم من كبار النقاد في الستينات من القرن الماضي، ولكن رجاء النقاش آثر أن

يرى روايات نجيب محفوظ بعدسة نقدية مغايرة، فاكتشف جوانب لم يكتشفها أساتذته، وكان لما اكتشفه أبلغ الأثر في إعجابي به بوصفه ناقداً أدبياً
واعداً، مرهف الإحساس، فقد
 كان نقده لا يقل أهمية ولا قيمة عن نقد أساتذته، بل كان يضيف إليهم ما تهديه إليه بصيرته النقدية النافذة وأذكر، على
سبيل المثال ما أجمع عليه النقاد في تناولهم
 رواية «الطريق» الشهيرة، حيث رأى أكثر النقاد في بطلتها إلهام نموذجاً للصفاء الروحي المقرون بالطريق الهادي
للابن الضال، كي يصل إلى أبيه الرمزي الحقيقة
 المطلقة وهناك يجد، لديه وبواسطته، الأمن والسلام والكرامة، على عكس كريمة التي رأوها تجســيداً لعالم
الحواس والغرائز الغارق فيها الابن صابر وللاسم مغزاه، فيعجز
 عن الوصول إلى فيء أبيه وصدره الحنون، فإذا برجاء النقاش يقلب التفسير، ويجعل من كريمة
موئل الروح التي لا نصل إليها إلا بعد أن نصل إلى قرارة القرار من الحــسية
 التي ليس بعدها سوى الروح، وذلك بمنطق له بعد صوفي بمعنى أو بآخر.

هكذا انتقلت مع كتابات رجاء، قارئاً، من الشعر إلى الرواية، ومن الرواية إلى المسرح ومضيت متابعاً له، مستمتعاً بما يكتب إلى أن انتهت الحقبة
الناصرية، واضطر
 إلى العمل في قطر، رئيساً لتحرير مجلة الدوحة واستطعت خلال هذه الفترة أن أصوغ صورة لنقده الأدبي في ذهني، خصوصاً بعد أن
استهواني الجانب التنظيري، أو النقد الشارح،
 للنقد وانتهيت إلى أن نقده يتميز بسمات أساسية عدة.

أولاها أنه نقد متطور، يفيد من التطورات الأخيرة لنظرية التعبير في ذلك الوقت، وأن العملية النقدية تبدأ عنده منذ اللحظة التي يتأثر فيها وجدانه
بالعمل المقروء،
 فيسعى إلى فهمه وتفسيره، ومن ثم تقييمه وما بين الفهم والتفسير، يظل مشغولاً بجمع القرائن الدالة التي يجدها في العمل، ويصل بينها
لتصور معناه، قبل تقديم هذا المعنى
 إلى القارئ في هيئة تفسير للنص وهي عملية تفضي إلى تحديد القيمة الموجبة للعمل أو نفيها عنه وهو في ذلك كله لم
يكن يتطلع إلى إجراءات معقدة مثل البنيوية التي نفر
منها، وما جاء بعدها، مثل التفكيك وغيره من البدع التي كان يمزح معي، مبرراً موقفه منها.

وثانيتها أنه ظل يرى في الناقد قارئاً خبيراً، اكتسب تجارب عميقة من طول معاشرة النصوص الأدبية والغوص فيها، ولذلك جعل دور الناقد أشبه بدور
الوسيط الذي يجمع بين
 طرفين يحبهما، النص الأدبي والقارئ، مؤكداً هذا البعد بنقده التطبيقي الذي يسعى إلى إيصال معنى النص إلى القارئ في بساطة
آسرة، بعيداً من التقعر أو التقعيد، أو
 التنظير المتعالي، أو التقليد الساذج لنقد آخر، أجنبي على وجه الخصوص وكانت نصوصه النقدية، في معظمها،
رسائل محبة إلى القارئ عن نص محبوب، فقد ظل رجاء أميل إلى
 الكتابة عن النصوص التي يحبها، والتي يهتز بها، ولم يكتب عن النصوص التي نفر منها أو
رآها عديمة القيمة.

وثالثتها أنه كان يتمتع ببصيرة نقدية، تجعله قادراً على اكتشاف الجوهر الصافي في النصوص، قبل أن يكتشفها الآخرون، ولذلك كان هو السباق في
الكشف عن جوهر شعر أحمد
 عبدالمعطي حجازي، ممهداً الطريق أمام من جاء بعده من نقاد حجازي وقد جاء بعد حجازي بسنوات اكتشافه الطيب
صالح الذي لم يكن هناك أحد يعرف عنه على امتداد العالم
 العربي، فإذا برجاء يمسح التراب وغبار عدم المعرفة عن رائعته «موسم الهجرة إلى الشمال»
مؤكداً ظهور عبقرية فريدة في الرواية العربية وكان نقده لرواية الطيب صالح
 بداية لاهتمام متزايد بهذا الروائي الذي ما كان العالم النقدي ليحتفل به إلا
بعد أن
أزاح رجاء الستار عن تفرد إبداعه الروائي وقل الأمر نفسه عن شعر محمود درويش وشعر شعراء المقاومة ثانياً، وكانت النتيجة كتابه عن محمود
درويش الصادر عن «دار الهلال»
 القاهرة وكان ثمرة اكتشافه محمود درويش الذي كان لا يزال مجهولاً بالنسبة إلى النشاط النقدي الأدبي والذائقة
الشعرية عموماً ولذلك فليس من المبالغة القول إن نقد
 رجاء النقاش التعريفي والتفسيري والتقييمي لمحمود درويش، وبعده شعراء المقاومة، بمثابة الضوء
الذي وضع درويش وأقرانه في الدائرة التي سرعان ما جذبت إليها الجميع،
 فتسابق في اكتشافها وتناولها، إلى درجة أنها أصبحت «موضة».

ورابعتها أنه كان يؤمن أن أي نوع أدبي لا يمكن فهمه إلا في علاقته بغيره من الأنواع، فالأدب كيان متكامل، تتبادل أنواعه التأثر والتأثير، وتقوم
بالعملية نفسها
 مع الفنون التي تتجاوب إبداعاتها وتتراسل على نحو لا يمايز بينها إلا بنوعية الأداة التي تقترن بطبيعة الفعل التعبيري للإبداع من ناحية،
وطبيعة الموضوع في علاقته
 بالمتلقي الذي يتلقاه من ناحية مقابلة ولذلك كان رجاء يكتشف عمليات التراسل بين النصوص الأدبية، وبينها والأعمال
الإبداعية في الدوائر المتسعة من عمليات الاستقبال
 والتلقي.

وخامستها أنه ظل على إيمانه في عملية التقييم المرتبطة بالتفسير أن للأدب وظيفة إنسانية، تجاوز لغتها إلى غيرها من لغات العالم، وأن الغوص إلى
قرارة القرار
 الإنساني من المحلية هو الطريق إلى العالمية، وأن الأديب المؤثر حقاً هو الأديب الذي يتميز إلى جانب عمق مشاعره وصدق إحساسه بحرصه
على التواصل مع قرائه، والوصول
 إلى أوسع دائرة من المتلقين، غير ناس أنه ينتسب إلى مجتمعات تغلب عليها، بل تتزايد، الأمية ولذلك ظل نافراً من ما رأى
فيه تعقيداً مسرفاً في الرمزية لا السريالية،
 مؤثراً الوضوح الأبولوني على الغموض أو الجنون الديونيسي، فكان أميل إلى حجازي وصلاح عبدالصبور
ومحمود درويش في مواجهة أدونيس وغيره من شعراء الحداثة ذات الجذور
 الفرنسية التي كانت، ولا تزال، مختلفة كل الاختلاف عن الحداثة التي ترجع
إلى جذور
 أنكلوسكسونية.

وكان البعد الفني في هذا الجانب الأخير الوجه الآخر من البعد القومي، فقد ظل نفوره من أدونيس نابعاً من تصوره أن شعره تجسيد لرؤية الحزب القومي
السوري للعالم،
 واصفاً إياها بأنها رؤية فينيقية غير عربية، وأن إبداعه غريب الوجه واليد واللسان للقارئ العربي ولذلك، أيضاً، ظل أقرب إلى شعر أحمد
حجازي القومي، نافراً من تحولاته
 الأخيرة التي انقلب فيها على القومية والناصرية وبالقدر نفسه، ظل أقرب وجدانياً إلى شعر صلاح عبدالصبور الذي
كان حريصاً على استكتابه في الدوحة القطرية، حين كان رئيس
 تحريرها، كما ظل أقرب إلى تحولات صلاح الشعرية، في القصائد الغنائية والمسرح الشعري،
أعني التحولات التي ظلت أقرب إلى الوضوح الأبولوني منها إلى الغموض والجمود
 الديونيسي، فشعر صلاح شعر من «كان يريد أن يرى الجمال في
النظام/ وأن يرى النظام في
 الفوضى».

وهما سطران يصوغان في إيجاز بالغ، مذهب رجاء النقاش في الحياة والفن.

وليس من المصادفة، والأمر كذلك، أن تتوثق العلاقة الإنسانية بين صلاح عبدالصبور ورجاء النقاش، فقد كان كلاهما بالغ التقدير للآخر، كما ظل كلاهما،
ويا للمفارقة،
 منطوياً على جرح لم يندمل، وندم لم يكن له علاج ناجع، فما أكثر ما كان يحدثني كلاهما، بعيداً من الآخر، وفي لحظات استرجاع
التاريخ الماضي، عن الأسف البالغ لأن
 كليهما غرق في الرمال المتحركة للصحافة، فأخذ من كل شيء بطرف، وخاض معارك خاسرة، وفرض عليه ما لم
يكن يميل إليه، فانشغل عن التفرغ اللازم للبحث العلمي الهادئ طويل
 النفس، ونسي حلمه القديم بالاستمرار في الطريق الأكاديمي، لكن وآه
من قسوتها
«لكننا»: «لأنها تقول في حروفها الملفوفة المشتبكة/ بأننا ننكر ما خلفت الأيام في نفوسنا/ نود لو نخلعه/ نود لو ننساه».

 

ولكن، وليس آه من قسوتها هذه المرة، على الأقل في نظري، فقد حقق كلاهما إنجازاً يدعو إلى الفخار، وأضاف كيفياً، وعميقاً، في مجاله النوعي، وكلاهما
أثر، ولا يزال،
 يؤثر في أجيال متتابعة، وكلاهما انطوى، في إنجازه وإضافته، على إيمان عميق بالإنسانية وجعل من ممارسته الإبداعية والنقدية منارة تستضيء
بها الأجيال
 المتعاقبة، ويستهدي بها وطنه في الطريق الشاق للانتقال من شروط الضرورة إلى آفاق الحرية، ولذلك سيبقى منهما الكثير للتاريخ، وسيظل
فقدهما جرحاً عميقاً، غائراً، لا
 يندمل في نفسي، وحزناً لا يفنى ولا يتبدد، فقد كان كلاهما صديقاً حميماً، وأخاً كبيراً راعياً، وزميلاً سابقاً في القسم
الذي أنتسب فيه، مثلهما، إلى تقاليد طه
 حسين الجذرية، العقلانية التي استمرت في تلامذته المباشرين، وانتقلت منهم إلى صلاح ورجاء، ومنهما معاً إلى،
من ينزل منهما منزلة الأخ الصغير الذي أدركته، مثلهما،
 حرفة الأدب فوداعاً يا رجاء، يا شبيهي، يا أخي.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .