منذ عقود -تحديدا منذ بروز ظاهرة ما يسمى الإسلام السياسي- ونحن نسمع مقولة استخدام الدين في السياسة من قبل الأوساط الرسمية العربية بمختلف تجلياتها وتصنيفاتها، وذلك في معرض الهجوم على القوى الإسلامية التي تطرح برنامجا ذا صبغة إسلامية.
وشارك تلك الأنظمة في الاتهام عدد من القوى السياسية اليسارية والليبرالية والقومية، من تلك التي كانت تعجز عن منافسة القوى الإسلامية في صناديق الاقتراع، فتضطر إلى رد ذلك إلى مقولة استخدام الدين في السياسة، وأحيانا المساجد في السياسة، ولذلك لم يكن غريبا أن جرى النص في قوانين الانتخابات -في الدول التي تعرف الانتخابات- على منع الدعاية الانتخابية في المساجد، فضلا عن منع تأسيس أحزاب على أسس دينية.
تستحق مسألة العلاقة بين الدين والسياسة بعض التحرير، ذلك أن حرمان أية قوى سياسة من استخدام ما تراه مرجعية لها في التشريع والرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك في معرض الدعاية لنفسها هو عبث حقيقي. فهل بوسعنا أن نقول -مثلا- إن الليبراليين يستخدمون النوادي الاجتماعية التي يلتقون فيها في الدعاية السياسية، أو إن اليساريين يستخدمون النقابات التي ينشطون فيها، أو إن القوميين يستخدمون رموزهم في الدعاية لأنفسهم، فضلا عن نصوص إعلاء شأن العروبة مثلا؟
لو عدنا عقودا إلى الوراء حين كانت القوى الإسلامية ضعيفة وهامشية، فسنرى أن تلك المقولة (استخدام الدين في السياسة) لم تكن موجودة، بينما كنا نسمع مثلا عن استخدام اليساريين مظالم الفقراء من أجل كسب أصواتهم أو تأييدهم، ولم تظهر تلك المقولة عمليا إلا بعد تسيّد الإسلاميين الساحة السياسية.
“لو عدنا عقودا إلى الوراء حين كانت القوى الإسلامية ضعيفة وهامشية، فسنرى أن مقولة “استخدام الدين في السياسة” لم تكن موجودة، بينما كنا نسمع مثلا عن استخدام اليساريين مظالم الفقراء لكسب أصواتهم “
اللافت في هذه القضية أن أحدا لم يقل إن الدين كان حكرا على قوة سياسية بعينها في يوم من الأيام، فالإخوان الذين كانوا ينشطون سياسيا كان يقابلهم صوفيون يتبعون مزاج الأنظمة، وسلفيون من ذات اللون أيضا، وآخرون من ألوان شتى، وكل طرف يقدم تفسيرا مختلفا للدين عن الطرف الآخر، لكن التركيز كان منصبا على من ينشطون في العمل السياسي، مما يعني أن القضية هي في اللون السياسي المعارض، بدليل أن سلفيين يعملون في السياسة -وأقله المطالبة بالإصلاح السياسي- ما لبثوا أن انطبقت عليهم مقولة استخدام الدين في السياسة أيضا.
الأكثر إثارة في هذه القضية هو الوجه المقابل لها، ممثلا في استخدام الأنظمة للدين في الدعاية لنفسها والحصول على الشرعية، فضلا عن توجيه الناس نحو مسارات أخرى تخالف ما تراه وتريده القوى الإسلامية المسيّسة، بل إن استخدام السياسة للدين كان يمثل الظاهرة الأكثر بروزا في العقود الأخيرة، وربما تاريخيا أيضا، وقد بدأها في الجمهوريات أنور السادات حين أطلق على نفسه لقب “الرئيس المؤمن”، بل إن أمرا كهذا قد حدث في بعض الدول الغربية كما حصل مع بوش الابن في أميركا، على سبيل المثال.
منذ أن ظهر ما يُعرف بالإسلام السياسي ردت الأنظمة باستخدام الدين لخدمة السياسة بشكل لافت، وبدأ ذلك بالسيطرة على المساجد، ومنح منابرها ومحاريبها للون معين ينادي بطاعة ولاة الأمر، ورفض الخروج عليهم، وصولا إلى منع انتقادهم في العلن، وانتشر هذا الخطاب، وحصل على دعم مالي وأمني رهيب، ليس على مستويات محلية، بل على مستويات إقليمية ودولية، حتى رأيناه يسيطر على مساجد في دول غربية أيضا.
في مصر، رأينا تجليات هذا الأمر بشكل لافت في الآونة الأخيرة، وحين يضع قائد الانقلاب من حوله رجال دين مسيحيين ومسلمين ساعة إعلان الانقلاب، فهذا هو الاستخدام العملي للدين في السياسة، وحين يجمعهم ويذرف دمعة أمامهم، ويزعم أنه كان يحمي الإسلام، فهذا يؤكد ذلك، وحين يجري استخدام حزب سلفي في الاتجاه نفسه فهذا أيضا تأكيد آخر، وحين يجري منع الخطابة في المساجد لأي أحد من خارج اللون الرسمي، فهذا يصب في الاتجاه ذاته.
وحين يجري حشد مشايخ في الفضائيات يمعنون في تكفير الآخر، ويقف أحدهم ليقول أمام الملأ عن المعارضين -وبحضور القيادة السياسية والأمنية- “طوبى لمن قتلهم وقتلوه”، وإنهم “خوارج”، و”كلاب النار”، فهذا منتهى استخدام الدين في السياسة، بل في تبرير قتل الآخر وقمعه أيضا.
من الذي يستخدم الدين من الناحية العملية: هل هو الذي يطرح برنامجا إسلاميا، ولا يزعم أنه يمثل الإسلام، بل يمثل نفسه، أم الذي يحتكر الدين عمليا، فيصادر المساجد، ويوظف جحافل من الناس كي يتحدثوا باسم الدين ويمنحوه شرعية الحكم، وشرعية القمع في آن؟!
“نحن بحاجة إلى تحرير الدين من قبضة السياسة، أكثر من حاجتنا إلى منع استغلال الدين في السياسة، لأن أحدا في التاريخ لم يكن بوسعه ادعاء الحق المطلق في النطق باسم الدين، ولم يتمكن أي عالم أو لون فكري من صهر الناس في بوتقته”
إنها مأساة كبرى تتحرك أمام أعيننا، والعنوان الأبرز لها ليس دينيا، بل سياسيا بامتياز، وقد رأينا كيف يجري تطويع النص الديني من قبل البعض لكل الحالات، حتى إن حزبا سياسيا مثل حزب النور السلفي ما لبث أن غيّر الكثير من طروحاته في زمن قياسي من أجل دخول الحلبة السياسية، ثم أخذ يستخدم نصوص الدين ووقائع التاريخ من أجل تبرير اصطفافه إلى جانب الانقلاب، ومن أجل تبرير قتل الناس.
إن ما تحتاجه المجتمعات العربية والإسلامية عمليا ليس تحرير السياسة من الدين، وإنما تحرير الدين من قبضة السياسة، لأنها هي من تستخدمه عمليا في تبرير القمع والفساد، وكل ذلك في معرض رفضها الإصلاح السياسي الحقيقي، ذلك أن أية قوة إسلامية لا يمكن أن يكون بوسعها الادعاء بأنها تمثل الدين في ظل كثرة الحركات واختلافها في تفسير النصوص وتباين طروحاتها.
ثمة فرق بين من يطرح رؤاه الدينية ويعرضها على الجمهور بقوة الإقناع، وبين من يفرضها بسطوة الأمن والمال، ومؤخرا بسطوة الفضائيات الممولة من المال المسروق من جيوب الناس، بل يفرضها من خلال مصادرة المساجد برمتها، والحيلولة دون سماع الناس أي رأي يخالف الرأي الرسمي. وقد رأينا السيسي يقول على الملأ إنه “مسؤول عن القيم والأخلاق، وعن الدين أيضا”.
الخلاصة أننا بحاجة إلى تحرير الدين من قبضة السياسة، أكثر من حاجتنا إلى منع استغلال الدين في السياسة، لأن أحدا في التاريخ لم يكن بوسعه ادعاء الحق المطلق في النطق باسم الدين، ولم يتمكن أي عالم أو لون فكري أو مذهبي من صهر الناس جميعا في بوتقته.