التطبيع مع اسرائيل، “لا أرض أخرى” في مواجهة لا رأي آخر

فاز فيلم “لا أرض أخرى” بجائزة الاوسكار عن فئة الفيلم الوثائقي الطويل، خلال حفل توزيع الجوائز الذي أقيم في مطلع الشهر الجاري  في هوليود . الفيلم من انتاج فلسطيني – نرويجي مشترك، وعمل على “إخراجه” طاقم ضمّ كلا من الفلسطينيين باسل عدرا وبلال حمدان والاسرائليين يوفال أبراهام وراشيل تسور.

أثار هذا الحدث نقاشًا واسعًا في جميع منصات التواصل الاجتماعي، لا سيّما بعد أن هاجمته جهات اسرائيلية عديدة برز من بينها موقف وزير الثقافة والرياضة الاسرائيلي ميكي زوهر الذي وجّه رسالة الى جميع المؤسسات التربوية والسينمائية الاسرائيلية طالبهم فيها بعدم التعاطي مع الفيلم والامتناع عن عرضه “لكونه وسيلة دعاية مناهضة لاسرائيل”. في المقابل، وقّع حوالي مائة فنانة وفنان اسرائيليين على رسالة دعموا فيها الفيلم وصنّاعه جاء فيها: “مقابل الرؤية الابداعية والسياسية التي عرضها الفيلم، تقف جبهة ظلامية تعتمد على الترهيب والتلفيق ضد الفيلم وتهديد منتجيه والمؤسسات التربوية في الدولة. ان هذه توجهات خطيرة تعبّر عن مزيد من التدهور الذي أصاب حرية الابداع في الدولة” كما ودعا الموقعون الى مشاهدة الفيلم وعدم مقاطعته مضيفين:  ” أن فهذا هو جمال الفن وقوته في تحدّي مفاهيمنا الرائجة ودعوتنا لمناقشتها وللنظر اليها من زوايا جديدة وبضمنها تلك غير المريحة لنا”. بالتزامن مع ردود الفعل داخل المجتمعات اليهودية في إسرائيل والعالم، أصدرت “الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لاسرائيل” بيانا أشارت فيه على أن الفيلم “يخالف من عدة نواح معايير مناهضة التطبيع” وقد أدّى هذا الاعلان بدوره الى ردود فعل معارِضة، لا بل ومستهجِنة أحيانًا.

لقد أثارت بيانات حملة المقاطعة في الماضي نقاشات واسعة وتساؤلات حول صحة منهجها وأحكامها ضد بعض الأنشطة الثقافية أو المشاركين فيها من أجل دعم القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين؛  فهذه الحملة يقودها أشخاص أكسبوا أنفسهم الشرعية لتولّي مهمتي التحريم أو التحليل وفق المعايير والمساطر التي وضعوها هم بأنفسهم، وحوّلوها الى ما يشبه الضوابط الفقهية الصارمة، وباتوا أوصياء على توجيه البوصلات الوطنية وكأنها الوحيدة الصحيحة والكفيلة لايصال أهل فلسطين الى “الجنة الوطنية”، حتى صار من لا يقرّ بها، مطبّعا مع العدو الاسرائيلي أو حتى خائنا. لا يوجد متّسع، في هذه العجالة، لسرد جميع تلك السوابق التي أثارت في السنوات الماضية نقاشات واختلافات في الساحة الثقافية؛ ولم يُجرِ أحد ضبطا موضوعيا منهجيا لفحص نتائجها وفق معايير الربح أو الخسارة الوطنية العينية في كل حالة وحالة، وتأثيرها على مسيرة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الاسرائيلي. في الواقع لا يمكن اجراء مثل هذه المراجعة بأدوات علمية ومعيارية موضوعية متفق عليها فلسطينيا أو بمقايس تعتمد أساليب “النضال الصحيح”؛ فالجميع يعلم أننا نتعامل مع قضية سياسية خالصة وخاضعة في النهاية الى ولاءات وعقائد الاشخاص القيّمين عليها وفهمهم السياسي لضرورات تحريم العمل المشترك مع الاسرائيليين واخضاعه، في حالتنا مثلا، لشرطين أساسيين، لم يستوفهما فيلم “لا أرض أخرى”.

يقول بيان الحملة: “فبغض النظر عن النوايا وبحسب تعريف التطبيع المتوافق عليه من الغالبية الساحقة في المجتمع الفلسطيني في الوطن والشتات، فان التطبيع هو المشاركة في أي مشروع أو مبادرة أو نشاط محلي أو دولي يجمع (على نفس المنصة) بين فلسطينيين (و/أو عرب) واسرائيليين (أفرادًا كانوا أو مؤسسات) ولا يستوفي الشرطين التاليين:

أن يعترف الاسرائيلي بالحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بموجب القانون الدولي؛ وأن يشكل النشاط شكلا من أشكال النضال المشترك ضد نظام الاحتلال والاستعمار الاستيطاني الابرتهايد الاسرائيلي”. يثير هذا النص جملة من التساؤلات، فبناء على ماذا يمكن الاقرار بأن تعريف التطبيع “متوافق عليه فلسطينيا” ونحن نرى كيف يواجه المجتمع الفلسطيني في الوطن والشتات حالة قصوى من التشرذم السياسي والاختلافات والخلافات حول معظم ما كان مقبولا كمسلّمات وطنية وسياسية ووسائل الكفاح وغاياته المرجوة.

قرأت نص بيان الحركة قبل مشاهدتي للفيلم وأعدت قراءته بعد مشاهدته، فاصبت بحالة من الاحباط والذهول، وكأنني اقرأ بيانا لم يكتب عن فلسطين ولا عمّا يواجهه أهلها من قمع واضطهاد وقتل وتهجير كالتي واجهها ويواجهها أهل قرى منطقة “مسافر يطا”ويستعرضها الفيلم بأمانة موجعة ومقنعة ومستفزة.

فهل غاب عن واضعي البيان أن العالم شاهد شريطا وثائقيا أعدّه مواطن/مناضل فلسطيني عادي يسكن “مسافر يطا” بوسائل بدائية، اسمه باسل عدرا وآزره يوفال ابراهام ناشط يهودي اختار أن يقف مع الضحايا ويعرّي سياسة دولته الوحشية ويفضحها بعفوية انسانية واصرار غريزي غذّاه “حب الناس للحياة نفسها”، كما قال باسل عدرا عن أهله وربعه في احدى اللقطات المصورة في الفيلم. وقد فَعلا كل  ذلك على أمل أن يستفزا ضمير العالم وبعض ضمائر الاسرائيليين عساهم يقفون مرة مع الحق الفلسطيني وضد “نظام الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والابرتهايد”؛ وقد يكون هذا ما حققه الفيلم.

ألم يجد واضعو البيان ضرورة بمعاملة هذا “الانتاج” ومعدّيه الطارئين على المهنة، وفق معايير مختلفة عن معاملة الافلام الاحترافية العادية أو حتى الافلام الوثائقية التي تنتجها شركات تجارية اعلامية معروفة بهويات أصحابها ورؤوس الأموال الداعمة لها ؟!

لقد عُرفت هوليود منذ خمسينيات القرن الماضي كإحدى أهم المنصات الداعمة للرواية الصهيونية ولتسويغ سردياتها ازاء ما يخص صراع الصهيونية مع الشعب الفلسطيني، وتزويرها لحقيقة ما جرى قبل النكبة وبعدها ولعقود طويلة. لقد أشار بيان “حملة المقاطعة” لدور هوليود التاريخي، بيد أن النصّ خلُص الى موقف غير مفهوم نوّه فيه الى ان ذلك التاريخ الهوليودي المنحاز  “هو ما جعل الكثيرون يحتفون بهذا الفيلم الوثائقي الذي اعتبروه عملًا ينصر حقوق الشعب الفلسطيني ولو جزئيا ويسهم في التصدي لتجريد الفلسطينيين من صفتهم الانسانية، مغفِلين مشكلة التطبيع التي تكمن فيه”. هل كانت حملة المقاطعة ستؤثّر أن تبقى هوليود أسيرة مواقفها المخزية والمنحازة ووفية لها؟ هل كان أفضل لفلسطين ولأهل “مسافر يطا” ألا يقف جميع من حضر توزيع الجوائز ومئات الملايين الذين تابعوا الحفل في جميع أرجاء العالم، ويصفقون منحازين لرسالة الفيلم ولاصرار باسل ويوفال وهما يواجهان الموت ويوثقان مجازر الاحتلال وجرائم جيشه وموبقات المستوطنين وهم يطلقون النار على أهل باسل ويهدمون بيوتهم ويحرمونهم من الماء والكهرباء ويهجّرونهم قسريا من أراضيهم؟

لم تغِب قضية مهاجمة الحكومة الاسرائيلية للفيلم عن معدّي بيان الحملة، إلّا أنهم، وهم يتطرقون إلى هذه الجزئية أعلنوا “أن مهاجمة الحكومة الاسرائيلية الفاشية وأدواتها لأي عمل فني يخالف معايير حركة المقاطعة المتوافق عليها في المجتمع الفلسطيني، لا يمكن اعتبارها معيارا رئيسيا ما اذا كانت حركة المقاطعة ستطلق حملة لمقاطعة هذا العمل أم لا”. لا يمكن معارضة هذا الموقف فهو صحيح ببعده النظري؛ ولكن قبوله نظريا لا يكفي ولا يعفي أصحاب البيان من شرح أسباب موقفهم في هذه الحالة العينية وأن يفسروا لماذا تلتقي دعوات مقاطعة الفيلم بينهم وبين اسرائيل، وهل ما يخيف إسرائيل من عرض هذا الفيلم لا يكفي كسبب لاجازته فلسطينيا ؟

لقد عرض الفيلم رسميا في مهرجان برلين السينمائي في شهر فبراير عام 2024 وحاز فيه على عدة جوائز هامة، كما حاز على عدة جوائز عالمية اخرى ولم تدعُ الحملة الفلسطينية الى مقاطعته الا بعد فوزه بالاوسكار. وحين حاول بيان الحملة توضيح هذه المسألة كان شرحها ملتبسا وغير مقنع بل زاد على طين التساؤلات بلة وبلبلة.

وأخيرا، يجوز للحملة الفلسطينية للمقاطعة أن تصدر بيانات تدعو فيها الى مقاطعة حدث أو شخص وفق معاييرها الخاصة، ولكن لا يحق لها أن تتكلم باسم الأكثرية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات. فإذا كانت مصلحة فلسطين وقضيتها هي المعيار وراء تقييم أي عمل أو نشاط فنيين، فانني على قناعة بأن فيلم “لا أرض أخرى” قد خدم قضية فلسطين وجنّد معها رأيا عالميا في أجمل وأنجع وسائل النضال المتاحة، خاصة وأن وقائعه الانسانية الموثقة حظيت بهذا الالتفات الواسع والدعم الواضح، وكشفت جرائم الاحتلال وجيشه ومستوطنيه ببساطة خالصة، على أهم المنصات الاعلامية، بعد أن كادت أحداث السابع من اكتوبر 2023 تعيد قصة فلسطين وشعبها الى عصور هوليود المقيتة والظالمة والمظلمة، وهذه مسألة أخرى قد أهملها البيان.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .